مقالات وآراء

استقلال السودان بين “يا غريب يلا لى بلدك” و” كان بدرى عليك”

امير شاهين
أن معظم السودانيين يقدسون حريتهم ولا يحبون أن يكونوا تحت سيطرة بريطانيا (أو غيرها) ، بيد أنهم في ذات الوقت يحبون البريطانيين جدا ، ويتطلعون كأفراد ومسئولين إلي إقامة أقوى جسور الصداقة والتعاون معهم” .

الدكتور يوسف فضل

بقلم : أمير شاهين

من الملاحظ عدم اهتمام او اكتراث الغالبية العظمى من السودانيين بالاحتفال والاحتفاء بمناسبة الاستقلال عن الحكم الثنائى البريطانى المصرى الذى حدث قبل 66 عاما وذلك بالرغم من الحرص الكبير على الحصول على العطلة التى تقع فى يوم 1/1 من كل عام والتى يعتقد البعض انها بسبب الاحتفال بالسنة الجديدة لا بالاستقلال! ويبدو ذلك واضحا فى مجال الغناء والموسيقى فبالرغم من وجود عدد لا يحصى من  الاغنيات والاناشيد فى مكتبة الاذاعة الا اننا نجد فقط نشيد واحد يتغنى بالاستقلال صراحة وهو نشيد الامبراطور وردى الخالد “اليوم نرفع راية استقلالنا” للشاعر الاستاذ عبدالواحد عبدالله يوسف  وهذا النشيد هو بالمناسبة  الوحيد الذى يتغنى باستقلال السودان صراحة ولايوجد غيره يمجد ويعظم هذه المناسبة الهامة والمفصلية  فى تاريخ الشعب السودانى .

يختلف السودانيون كالعادة فى كثير من الامور ولا يتفقون الا قليلا ا , وكان استقلال السودان واحدا من هذه الامور فالبعض كان يرى ومنذ اعلان استقلال السودان فى 19 ديسمبر 1955م من داخل البرلمان ان الوقت غير مناسب للاستقلال عن الحكم البريطانى المشهور بالكفاءة والانضباط , وانه من الافضل للبلاد ان يمنحوا الانجليز فترة  حكم اخرى لاتقل عن العشرون عاما  حتى يتعلم السودانيون اسس ومهارات الحكم ! وبرز فى ذلك الزمن العم ازرق والذى كان يعمل جزارا فى سوق الشجرة وكان ينادى ببقاء الانجليز فى السودان لان مغادرتهم تعنى انهيار البلد  ودمارها تحت حكم ابنائها ! وبكل تاكيد فان الرجل يسبح عكس التيار وناله الكثير من التجريح والنيل منه ونعته بصفات  مسيئة من شاكلة  “عميل الانجليز” و ” عديم الوطنية”  فالرأى العام فى تلك الايام كان طاغيا والعاطفة الوطنية على اشدها والحماس لمبدأ “السودان للسودانيين” لا يقبل المناقشة !  حيث كانت الاغلبية تهتف من من اعماقها  وهم ينشدون اغنية العطبراوى الشهيرة  “يا غريب يلا لى بلدك”  والتى تدعو الى طرد الانجليز بدون رحمة او تردد وهى من كلمات الشاعر الباذخ يوسف مصطفى التنى والتى يقول فيها :

ياغريب يلا لي بلدك … يلا يلا لي بلدك
يلا لي بلدك سوق معاك ولدك لملم عددك
انتهت مددك وعلم السودان يكفي لي سندك

وفى مقابل هذا المد  الاستقلالى الهادر لم يستسلم العم ازرق او ينحنى فقد كان يؤمن صادقا بان الحكم الوطنى لا يجلب للسودانيين سوى البؤس و الشقاء فقد كان يقول للمقربين منه  “الم يعلمنا الانجليز الطب والهندسة وكل العلوم التى لم نكن نعرفها كسودانيين ؟ اذا لماذا لا نعطيهم الفرصة ليعلمونن كيف نحكم انفسنا ؟؟ وكان العم ازرق يقول بان افة ابناء السودان وعيبهم الكبير فى انهم لا يقبلون بعضهم البعض والكل يريد ان يكون هو الحاكم والرئيس واستشهد بالحروبات المتتالية والدمار الكبير للسودان فى فترة حكم الخليفة عبدالله التعايشى والذى كان سببه الرئيس هو  صراع على الحكم والسيطرة بين الخليفة الذى يتمسك بشرعيته للحكم وفقا لوصية الامام المهدى وخصومه الذين لا يعترفون به كحاكم للسودان وخليفة للمسلمين ! ويبدو ان اراء العم أزرق كانت متسقة مع مع ماقاله المفتش الانجليزى للناظر منعم منصور ناظر عموم قبائل الحمر فى غرب السودان وفقا لما جاء فى مذكرات ابنه ابراهيم منعم منصور وزير المالية الاسبق فى عهد النميرى ففى الحفل الذى اقامه الناظر بمناسبة انتهاء عمل المفتش الانجليزى ومغادرته النهائية للسودان , اذ انه سأل الناظر  هل السودانيون يستطيعون حكم بلادهم بانفسهم بعد مغادرة الانجليز  ؟ فكان رد الناظر فوريا  بان السودانيون يستطيعون حكم انفسهم وهم ليسوا باقل من الاثيوبيين الذى يحكمون انفسهم ! وهنا نظر المفتش  مليا  للناظر وقال له ان اكبر مشاكلكم هى الحسد !! فانكم تحسدون بعضكم البعض ولا احد فيكم يرضى بان يكون  السودانى الاخر افضل منه بل تنفرون من ان يحكمك سودانى مثلكم  ! ويواصل المفتش القول فيذكر بانه يتلقى يوميا شكاوى اغلبها كيدية ضد السودانيون الذين يتقلدون وظائف حكومية ولا توجد شكاوى من السودانيين ضد الموظفين الانجليز !!  . ويبدو ان وجهة نظر العم ازرق كانت صحيحة الى حد كبير , فقبل ان تكمل الحكومة  المدنية الوطنية الاولى عامها الثانى حتى حدث انقلاب الجيش الاول فى 17 نوفمبر 1958م برئاسة عبود , والحق يقال  بان الجيش لم يكن يفكر فى  استلام  السلطة والانقلاب على الحكومة المدنية المنتخبة  ولكن ولان السودان بلد كل العجائب والغرائب فان رئيس وزراء الحكومة فى ذلك الوقت عبدالله الخليل هو من قام بالاتصال بالجيش وحثه على استلام السلطة وكان ذلك بسبب التشاكس والتنافر داخل حكومته المدنية المنتخبة وطبعا فلقد وجدها الجيش فرصة سانحة ولقمة سائغة فقام بالواجب على اكل وجه  انها اشبه باغراء القط بقطعة سمك !!!  وتلك كانت بداية تدخل الجيش فى الساسة وجعل نفسه رقيبا وصيا على الحكومات المدنية يقوم بالانقلاب عليها متى ما راى من وجهة نظره تدهور الاحوال ودمار البلاد بسبب الحكومات المدنية ! وكما يقولون “من ديك وعيك”  وحتى الان فان ازمة البلاد الحالية  تعود جذورها الى العام م 1958م

وبعيدا عن الجدل الغير منطقى والعاطفى  من الجانبين (مادحين ومنتقدين الاستعمار البريطانى) , فان  هذا الحكم للسودان  1899م – 1956م كان من اهم الاحداث فى تاريخ البلاد ! و يستطيع الحانقين المنتقدين لهذا  الحكم ايراد الكثير من الامثلة السيئة  بدءا من مذبحة معركة كررى  فى 2 سبتمبر 1898م والتى استشهد فيها قرابة ال18 الف سودانى فى خلال ساعتين فقط الى سياسة تفرق تسد و المناطق المغلقة ومشكلة جنوب السودان , ولكن فى المقابل فان هذا الحكم قد قدم الى ابناء السودان من خيرات وخدمات عجزت كل الحكومات الوطنية  من تقديمها , واذا نظرنا الى حال السودان قبل حكم الانجليز و بعده (كيف وجدوه وكيف تركوه) لكانت المقارنة بدون شك فى صالح الحكم الاستعمارى البريطانى  فلقد استلموا دولة محطمة منهارة تماما انهكتها الحروب والمجاعات وتركوها دولة عصرية متقدمة على كل البلاد فى المنطقة من جميع النواحى وهذا امر لا يقبل الجدال , ومن المعروف بان اكبر مشكلة واجهت الانجليز عند بدأ حكمهم للسودان هو قلة عدد السكان مقارنة بمساحة البلاد الكبيرة , وتشير الاحصائيات بان عدد سكان السودان قبل الحكم المهدى كان 8 مليون وانخفض بعدها الى 3 مليون اثناء فترة الحكم المهدى بسبب ماذكرناه من الحروب والمجاعات والاوبئة وانعدام الخدمات الصحية العصرية المنتظمة ,  والمدهش فى الامر بان اهلنا الذين عاصروا فترة حكم الانجليز كانوا فى اغلبهم يمدحون تلك الفترة الاعمال , وقد كان لافتا للنظر عندما اجرى موقع سودانيز اونلاين استطلاعا الكترونيا فى العام 2011م عن من هو “افضل حاكم اجنبى او وطنى فى السودان” فقد كانت النتيجة هى ان الاغلبية الساحقة من المصوتين قد صوتوا الى ان الحاكم الانجليزى كان هو الافضل للسودان بكل المقاييس , وكأن لسان حال السودانيين يغنى “كان بدرى عليك”  وهى الاغنية الشهيرة  التى يرددها السودانيون كلما رحل عنهم شيئا عزيزا  مبكرا والغريب بان  عمر احمد مغنى هذه الاغنية والتى كان قد سجلها فى الاذاعة وعمره 13 عام فقط وهى من كلمات والحان الشاعر والملحن الاسطورة عبدالرحمن الريح  كان  قد توفى الى رحمة الله فى العام 1956م وكان عمره فقط 20 عام  اثر علة لم تمهله طويلا وصدقت فيه كلملات اغنيته وكانما قدر السودان بان لا تستمر الاشياء الجميلة طويلا معه!! . وبالعودة مرة اخرى الى الاستطلاع فقد جاء فيه الاتى : من الملاحظ أن نتيجة هذا الاستطلاع ، والتي نأمل أن تتغير لصالح الحكومات الوطنية ، قد جاءت مخيبة للآمال الوطنية لأن رأي الأغلبية الساحقة من المصوتين السودانيين ، حتى الآن ، هو تفضيل حكومة الاستعمار الانجليزي على كافة الحكومات الوطنية السودانية ومن المؤكد أن هكذا تصويت يثبت ما يلي (على حسب تحليل منظمى الاستطلاع) .

أولاً: الاعجاب القديم الجديد بحكم الانجليز الذين استعمروا السودان منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى النصف الثاني من القرن العشرين ، ففي أثناء حكم عبود وحكم نميري كان عدد معتبر من شيوخ السودان يقولون بلا حرج: “رحم الله الانجليز فقد كانوا يوفرون لنا الجاز والسكر حتى في زمن الحرب” ، فبالنسبة للأجيال التي عاصرت الاستعمار الانجليزي كان حكم الانجليز يعني لهم دقة وانضباط سكك حديد السودان ونجاح مشروع الجزيرة وتفوق جامعة الخرطوم وتوفر خدمات الماء والكهرباء والصحة وازدهار الأندية الرياضية والاجتماعية والثقافية… الخ ، ولعل جميع السودانيين قد سمعوا من كبارهم تلك المقولة التي مفادها أن الجنيه السوداني الواحد كان يساوى عدة دولارات أمريكية في زمن الانجليز ويتفوق على نظيره الجنيه الاسترلينى البريطانى نفسه . يجب علينا ان نعترف بان الفشل الحالى وتدهور بلادنا الحبيبة ووطننا الغالى  كان بسببنا نحن لا بسبب غيرنا  ولا اعتقد بان الحسد والغيرة التى ذكرها المفتش الانجليزى هى العلة الرئيسة فيما حدث ويحدث , ولعل الكلمة التى القاها روبرت هاو البريطانى الذى حكم السودان فى الفترة من 8 أبريل فى حفل وداعه والذى بدأ كلمته مادحا لابناء السودان معددا كريم صفاتهم و اخلاقهم وتميزهم عن بقية الشعوب  وبعدها قال قولته الشهيرة  والتى اعتقد بانه قد لامس فيها جوهر الحثيثة حين قال:

“إنكم أيها السودانيون شعوب مختلفة في شمال البلاد وجنوبها ، وفي غرب البلاد وشرقها. شعوب ذات أصول مختلفة وعادات متباينة. وهذه الاختلافات قد تمثل نقطة قوة وقد تمثل في ذات الوقت نقطة ضعف. وقد تمثل نقطة قوة إذ أن التنوع يولد حيوية عظيمة، وقد تمثل نقطة ضعف، إذ أنها قد تفضي إلى نزاعات مدمرة ” .

والان وبعد مرور اكثر من ال66 عام  هل لايزال حديث المستر هاو ساريا ؟؟ .

فى الختام لابد لنا من الاحتفال باستقلال البلاد فهذا هو الامر الطبيعى والمنطقى ونظل نردد بصدق مع وردى “اليوم نرفع راية استقلالنا” ولكن مع هذا الاحتفال يجب ان  نسال انفسنا , هل كنا جديرين بهذا الاستقلال ؟ وهل نحن الان نشرف بلدنا ونرفع من شانها ونسعد انسانها وسكانها ؟ .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..