أخبار السودان

سنجة مدينة إنسان العصر الحجري

مدينة سِنْجَة عاصمة ولاية سنار، يُسجّل لها التاريخ أنها موطن أقدم كشف أثري أحفوري للإنسان في السودان، وكانت عاصمة ودارا للملوك في حقب تاريخية سابقة ومثّلت بوتقة انصهرت فيها مختلف الأعراق السودانية وتشكّل مثالا ونموذجا للتنوع في شتى المظاهر.

تقع المدينة الحالية في ولاية سنار في السودان في الضفة الغربية لنهر النيل الأزرق على ارتفاع 439 مترا (1440 قدما) فوق سطح البحر، وتبعد عن العاصمة الخرطوم حوالي 360 كيلومترا (223 ميلا) باتجاه الجنوب الشرقي، وعن مدينة سنار حوالي 60 كيلومترا. وتتميز بتنوع بيئتها الطبيعية والسكانية وبثروتها الحيوانية ومواردها المائية، وفيها محطة أبحاث بيطرية وسوقا كبيرا للمحاصيل أهمها الصمغ العربي.

أصل التسمية

ومثل العديد من المناطق السودانية، اختلفت الرواية حول الاسم، وتعددت حول معنى كلمة “سِنْجَة” ولعل أكثرها صلة بالمكان، هي الرواية التي تنسب الاسم إلى نبات يعرف محليا بالسِنج (مفرده سنجة). ويقال إن السنج يرادف لفظ المروج، وهي الأراضي الخضراء المنبسطة المليئة بالأشجار والنباتات المعمرة والعشب والمراعي الخضراء.

وتوجد مجموعة مناطق حول مدينة سنجة تحمل الاسم ذاته، فهناك سنجة العزازة، وسنجة حريري، وسنجة أم بنين، وسنجة الوهيطة، وسنجة تيقو، وسنجة رونقا، وسنجة نبق، بل أن سنجة نفسها تسمى في الأصل سنجة عبد الله، نسبة إلى عبد الله ود الحسن الكناني الذي دفن فيها وهو زعيم قبيلة كنانة السودانية التي تستوطن المنطقة. وهناك من يبحث عن الاسم في معناه اللغوي الصرف، حيث يطلق لفظ سنجة على الميزان، وعلى السونكي وهو النصل أو السكين المثبت على فوهة بندقية الجنود، ولكن ليس هناك ما يؤكد وجود صلة بين أي من هذين المعنيين واسم المدينة.

كنانة والفونج

ويرجّح الباحث في مجال التاريخ، متوكل الشيخ أن الاسم يشير إلى مورد المياه، مبيّنا أن المنطقة بدأت قرية صغيرة على الضفة الغربية للنيل الأزرق في مكان مشرع السراجية، واستقبلت هجرات سكانية مختلفة منذ حقب طويلة وقدمت إليها مجموعات عديدة، غير أن أكبر المكونات السكانية هي كنانة والفونج.

إنسان سنجة الأول

ويقول متوكل الشيخ لـ”القدس العربي” إن تاريخ المنطقة ضارب في القدم ويعود للعصور الحجرية، ولم تعرف كشوفات هذه العصور في السودان إلا في منطقتين هما خور أبو عنجة ومنطقة سنجة، وتشير الدراسات التاريخية إلى أن إنسان سنجة الأول عاش في العصر الحجري البلستوسيني، قبل أكثر من 160000 سنة في منطقة سنجة وسط السودان وتزامن مع إنسان النياندرتال وإنسان بكين، ويوجد الهيكل الذي عُثر عليه لهذا الإنسان حالياً في المتحف البريطاني.

وحسب الحفريات أن إنسان سنجة عاش في الفترة المطيرة التي تعاصر الفترة التي شهدت هطول أمطار غزيرة شملت شرق افريقيا، حيث كانت الحياة تعتمد أساساً على الصيد في مجموعات. ويعتبر هيكل إنسان سنجة الأول واحدا من أحدث وأقدم الهياكل البشرية التي تم اكتشافها في العالم، بل كان أقدمها تاريخاً حتى عام 1983 عندما تم اكتشاف آثار آدمية قديمة لشخصين في جنوب افريقيا أوسترالوبيثيكوس الافريقي عاشا قبل 180000سنة.

ويقول الشيخ إن الصدفة وحدها هي التي قادت لهذا الكشف الأثري في سنة 1924 إبان الحكم الثنائي للسودان، حينما فوجئ الحاكم الإنكليزي لمقاطعة شمال الفونج في مدينة سنجة المستر بوند بوجود قبر قديم قرب منزله على شاطئ النيل الأزرق. وعند فحصه عثر على بقايا إنسان متحجر، تم نقله إلى لندن ودلت الدراسة التي اجريت على الهيكل الذي عرف فيما بعد بهيكل إنسان سنجة الأول.

تركيبة سكانية فريدة

ويقول عمر المك وهو حفيد أحد الملوك الذين حكموا المنطقة، إن سنجة تتميز بتركيبة سكانية فريدة، انصهرت وتصاهرت فيها قبائل كنانة والتعايشة والفونج والنوبة والجعليين والمعاليا والرزيقات وغيرها من مكونات المجتمع السوداني وقدموا نموذجا رائعا في التعايش السلمي.

ويضيف حفيد المك حسن عدلان أن أجداده حكموا تسع عموديات “أقسام إدارية” ويعادل لقب المك الملك، حيث كانت سنجة جزءا من مملكة الفونج الواقعة على تخومها الشرقية وكانت معبرا للتجارة مع ممالك الحبشة براً عن طريق القوافل وبواسطة المراكب عبر النيل، فضلاً عن أنها كانت مركزاً تجارياً مهماً للمملكة.

ويقول عمر المك إن أهل المنطقة تميزوا منذ القدم بالقوة والشجاعة والإقدام وتغمرهم روح الجندية وشاركوا في العديد من المعارك والحروب، ويضيف بأن منطقة كاملة تسمى “القرية 14” تأسست من خلال جنود سودانيين شاركوا في الحرب العالمية وكانوا يشكلون الأورطة 14ج.

ويروي قصة هزيمة أجداده للطليان وهو لقب يطلق على القوات الإيطالية في الحرب العالمية، ويقول إن المك حسن ودعدلان (مك عموم الفونج) تصدى بجيشه للقوات الإيطالية وهزمها داخل الأراضي الأثيوبية، مشيرا إلى وجود أسلحة ومتعلقات بتلك المعارك تحفظ بوصفها قطعا تراثية مهمة.

أضرحة وأساطير

وتضم المدينة عددا من الأضرحة لأولياء وشيوخ تحكى عنهم أساطير وأصبحت قبورهم مزارات تاريخية ومن هؤلاء الشيخ ود عابدين الذي يوجد ضريحه في الغابة، وحسب الشاهد الموجود على قبره فقد توفي في عام 1106 هجرية وتنسج حوله روايات عديدة المشترك فيها أن له كرامات وأنه أحد أبطال المنطقة.

ويوجد كذلك قبر الشهيد محمد بن حامد عبد الله الفحل وهو ابن أخ الإمام المهدي مفجر الثورة المهدية ومؤسس دولة المهدية وتم أسره وإعدامه، ويزار هذا القبر الذي أعدم المستعمر الإنكليزي صاحبه عام 1919 ويعتبر من رموز المقاومة ليس في سنجة فقط، بل في كل السودان.

ويذكر تاريخ السودان الحديث أن المدينة شهدت تفجر مقاومة ضد الحكم الإنكليزي المصري للسودان بقيادة ود السيد حامد الملقب بأبو البتول، وعبد الله ود الحسن من زعماء قبيلة كنانة إثر خلاف حول حقوق القبيلة في استخدام مورد ماء في سنجة حيث رفض الإنكليز السماح لأفراد القبيلة لكي ترد مورد الماء بأبقارها، فنشب قتال انضم إليه محمد نور صباح وهو من أعيان المنطقة.

أراضي سنجة عبارة عن سهل فيضي يحاذي نهر النيل وتربته غرينية متشققة، كما تشكل الميعات أهم المعالم الفيزيوغرافية، وهي مناطق منخفضة تغمرها مياه الفيضانات سنوياً وتربتها صلبة. ويشكل نهر النيل الأزرق أهم ظاهرة في المنطقة ويتميز بانحراف مجراه قبيل وصوله إلى سنجة في نقطة تسمى مينا، وبعد خروجه منها عند نقطة 14.

ويقول عمر المك إن المنطقة تتميز بالنشاط الزراعي والرعوي وفيها خمسة مليون فدان زراعة مطرية داخل التخطيط و2 مليون فدان خارج التخطيط الرسمي وحوالي 400 ألف فدان من الأراضي المروية بمياه النيل التي كانت تزرع بالقطن. لكن المك يقول إن هذا الرقم تقلص كثيرا في السنوات الأخيرة بسبب الظروف الاقتصادية.

وتتميز المنطقة بالبساتين مساحة 300 ألف فدان تزرع فيها فواكه مختلفة أبرزها المانجو والليمون والجوافة، وتم مؤخرا الاعتماد على زراعة الموز بشكل كبير، وتعد سنجة من أكبر أسواق السودان في هذا المجال.

ثروة حيوانية وغابية

وحسب المك، فإن المنطقة تتمتع بثروة حيوانية هائلة تقدر بحوالي 12 مليون رأس من الماشية (الخرفان والأبقار) وتوجد فيها ثروة غابية ضخمة تقدر بـ 2 مليون فدان، وتعتبر من أهم مناطق السودان في صناعة الأثاث الخشبي وفيها مراع كبيرة تناقصت في السنوات الأخيرة بسبب إهمال واتلاف القطاع الغابي من قبل الحكومة.

ويشكل السنج وهو نبات دائم الخضرة يتميز بسرعة نموه وتمدد فروعه وأوراقه العريضة التي تشبه رأس الرمح، غطاء نباتيا. وتشكل المنطقة، خاصة العزازة والرماش، مراع طبيعية للماشية حيث تتوفر الأعشاب والمياه السطحية ممثلة في المستنقعات إلى جانب الغابات ومنها القعرة والعزازة وتسودها أشجار الطلح والهشاب.

وبحكم وجودها على النيل، اشتهرت سنجة بصناعة المراكب النيلية في السابق، وتصنع من أخشاب أشجار المنطقة، لكن هذه الصناعة تراجعت بسبب وجود قوارب حديثة وعدم استعمال النيل في المواصلات نسبة لبناء الكباري وشوارع الأسفلت.

ويحرص أبناؤها على توثيق مظاهر الحياة في مدينتهم في الماضي والحاضر ولديهم منتديات على صفحات التواصل الاجتماعي يتبادلون فيها الصور والمعلومات ومن تلك المجموعات “سنجة في الخاطر” و”البومات صور عن سنجة” الذي وثق فيه الراحل طارق العرش بكاميرته العديد من الأحداث وواصل أصدقاؤه من بعده في المنتدى ما بدأ به.

وتتميز المنطقة بفصل خريف طويل نسبيا وهطول الأمطار بكثافة، ما جعلها تزدان بالخضرة والأشجار الظليلة طوال العام وهيأت لها هذه الظروف العديد من الأماكن السياحية منها غابة كبري سنجة، القرية العائلية وقاعة السلطة، وكذلك فيها عدد من المناطق في ريفها الشرقي خضراء وجميلة المناظر مثل الرماش، ولوني، اللكندي وكركوج، وأبو البنات.

ويفتخر أبناء سنجة بدخول التعليم إلى بلدتهم قبل أكثر من قرن وتم افتتاح أول مدرسة ابتدائية عام 1904 أعقبتها مدرسة للبنات بعد عشرين عاما. ويورد متوكل الشيخ عبر كتاب له قيد النشر العديد من المعلومات حول التعليم والشخصيات التي نشأت في سنجة ثم لعبت دورا مهما في تاريخ السودان الحديث في المجالات كافة، ومن أبرز تلك الشخصيات أحمد خير المحامي من مؤسسي مؤتمر الخريجين وهو من أبناء المنطقة إلا أنه نشأ في مدينة ودمدني.

وتشتهر سنجة، كغيرها من المدن السودانية بحضور ديني يتمثل في انتشار خلايا تعليم وتحفيظ القرآن والطرق الصوفية التي تحيي ليالي المدينة بحلقات الذكر والمديح النبوي خاصة في المناسبات الدينية وأهمها ليالي الاحتفال بمولد المصطفى صلى الله عليه وسلم.

شخصيات

ومن شخصيات المدينة البارزة الصحافي عبد الله رجب صاحب جريدة “الصراحة” ويعتبر رمزا للعصاميين حيث لم ينل تعليما نظاميا لكنه خلّف ثروة أدبية ذات قيمة كبيرة من خلال كتابه “مذكرات أغبش” والتي استطاع أن يوثق فيها لمنطقة النيل الأزرق عموما وسنجة على وجه التحديد لأكثر من ثلاثة عقود.

وكذلك حسن نجيلة كاتب ومؤلف كتابي “ذكريات في البادية” و”ملامح من المجتمع السوداني” وأحمد محمد علي السنجاوي الذي برز في المجال الرياضي وأصبح رئيسا لنادي الهلال بأم درمان والطاهر ابراهيم العبد أول قائد لسلاح المدفعية بعطبرة، وخضر عمر من رواد الاستقلال ورئيس حزب الأشقاء والمربية الجليلة سكينة محمد خير الرائدة في مجال التعليم الأهلي النسوي، وأهدت المدينة القطاع الدبلوماسي في السودان 16 سفيرا. ومن الفنانين في مجال الغناء المطربة زينب الحويرص.

القدس العربي

‫2 تعليقات

  1. السلام عليكم — شكرا علي الاضاءة فسنجة من أحب المدن في العالم الي نفسي– تذوقت فيها زبدة وارد محطة أم بنين التجريبية التي أقيمت في 1957 ولم أتذوق مثل تلك الزبدة في لندن أو فرانكفورت أو الرياض ثم موز سنجة هو من بين المفضل في العالم وكذا منقة سنجة وعلي التسمية ربما سمعت أيضا انها من ( الصنج) وهي الاثقال التي توضع علي كفة الميزان مع تحريف وقلب الصاد الي سين وسنجة تتوافر فيها الزونية وأم كمبش ولم أجد لهما مثيلا ثم التعليم الاهلي فسنجة سباقة في ذلك بقيادة عمنا محمد أحمد الحويرص ( ود العمدة)- لك التحية مدينة سنجة ولاهلها ولكم الشكر كاتب المقال

  2. انصح كل من يزور مدينة باريس ان يزور المتحف الطبيعى جوار برج ايفل المشهور ليرى انسان سنجة الأول .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..