أخبار مختارة

الاستهبال السياسي

فتحي الضَّو

مشاعر شتى ومتناقضة باغتتني وأنا أتابع وقائع الاتفاق الذي تمَّ بين الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال بقيادة عبد العزيز آدم الحلو، والحزب الاتحادي (الأصل) برئاسة جعفر الصادق الميرغني في جوبا يوم الأربعاء الماضي 29 /1 /2020 تلك المشاعر تراوحت بين الأسى والحزن والتشاؤم من جهة، وبين القلق والتوتر والإحباط من جهة أخرى. ولعل هذا المزيج المتناقض لا يعبِّر عن مشاعري الخاصة فحسب، بقدر ما يعكس عمق الأزمة التي أخذت بتلابيب هذا الوطن المنكوب، أما نحن فقد كُتب علينا أن نعيش المحنة مرتين، مرة قبل السقوط وأخرى بعد الهبوط، ومن ثمَّ أصبحنا شهوداً على عصر اختلط فيه الحابل بالنابل. إذ بات بمقدور أي متحذلق أن يمارس فعل الحواة باسم شعار (حرية، سلام وعدالة) فلا غروَّ عندئذ أن تتراجع قيم الوطنية التي فجرتها الثورة وتراق على قارعة الطريق كما أريقت دماء شهداء واجهوا الموت بصدور عارية من أجل أن يحيا الوطن، والذين تتململ أجسادهم في قبورهم بعد أن اضحىالوطن الذي ضحوا من أجله محض أكذوبة في خُلد آخرين!

حتى أكون دقيقاً فأنا لا أتحدث عن الاتفاق في حد ذاته. فمن حق أي طرف أن يتفق مع من يشاء أو يختلف مع من يشاء، ومن حق أي شخص أن يختار الطريق الذي يظن أنه سيوصله لمبتغاه حتى ولو اختلفت الوسائل، بل بصورة عامة من حق أي إنسان أن يؤمن برب العالمين أو يكفر، وذلك بحسب النص القرآني لخالق البشر نفسه. فنحن لا نتحدث عن هذا ولا ذاك، ولكننا نتحدث عن الفهلوة والاستهبال السياسي الذي رزئنا به بعد تجربة كنا نظن أنها منحتنا ما يكفي من العبر والدروس لتجنب الفتن، ما ظهر منها وما بطن. ولكننا عوضاً عن ذلك نفاجأ بظهور البطل، والخائن معاً. فقد تساوت(الكتوف) بين من ناضل وحمل السلاح ضد نظام ديكتاتوري، وبين من كان نصيراً ومعيناً لذات النظام الديكتاتوري. فعندما كان عبد العزيز الحلو يتنقل بين الكهوف والكراكير ليتقي شرور القنابل العشوائية والبراميل المتفجرة التي يلقيها أزلام النظام على شعب جبال النوبة بأوامر مباشرة من مجرم الحرب والإبادة الجماعية، كان جعفر الصادق الميرغني يتبادل معه التهاني والابتسامات في قصر غردون!

مع ذلك أنظروا لهذا الاستهبال السياسي للمذكور وهو يصف ذات الحقبة السوداء التي شارك فيها مؤازراً النظام، فقد جاء في الكلمة التي ألقاها في مراسيم التوقيع ما يلي مخاطباً عبد العزيز الحلو رفيقه في النضال: (الأخ القائد لقد عمل حكم الجبهة في النظام السابق، كما عملت أنظمة الحكم الشمولية والأيديولوجية كلها على تدمير بلادنا، بوعي أو بدونه، ولجأت إلى تحطيم الأحزاب الكبيرة وشرذمتها ومحاربة الطرق الصوفية التي كانت توحد المجتمعات في أوعيتها. وأضاف ذلك النظام إلى تلك الممارسات فرض رؤى متطرفة على الجميع، متناسياً أن الله حبا بلادنا بنعمة التعدد والإسلام الصوفي المتسامح وكل هذه الثقافات المتعددة. لقد تناسى هؤلاء أن أول واجباتنا هي الاحتفاء بهذا التنوع، لا قمعه ومحاولة طمسه). لعل مثل هذه الهرطقات هي عين ما عناه الرسول الكريم بقوله: (إذا لم تستح فأصنع ما شئت)!

ليس هذا فحسب، فالخطاب مع قصره يعُج بالادعاءات والأباطيل والأكاذيب التي يندي لها الجبين وتجعل المرء يتوارى خجلاً من فعله، والمفترض أن تلك موبقات ينبغي ألا تليق بسليل الطرق الصوفية التي ذكرها. فالسيد جعفر الميرغني لا يتحدث عن إحدى جمهوريات الموز، ولا عن تاريخ أوغل في القدم حتى بات عصياً على تذكُّر وقائعه، ولكنه تاريخ ينطق بلسان وشفتين متحدثاً عن نفسه بنفسه. بيد أن ما قاله المذكور ليس بغريب على أذن السامعين، فتلك شنشنة سبقوعرفناها من السيد الميرغني الكبير،والذي يرأس حزباً جُل أعضائهمستلبون كجنود سيدنا سليمان، لو وكز أحدهم منسأته لما لبثوا في العذاب المهين ساعة. فكلنا يعلم ما حاق بالتجربة الرائدة للتجمع الوطني الديمقراطي، والتي توفرت لها كل سبل النجاح المادي والمعنوي وتهيأت لها قنوات الدعم الإقليمي والدولي، وكان يمكن أن تختصر معاناة الشعب السوداني منذ أمد بعيد (للتوثيق أنظر كتابنا: سقوط الأقنعة/ سنوات الأمل والخيبة) فإذا به يقودها إلى التهلكة ويقبرها بمشاركةنظام قميء بالخنوع والخضوع والصمت على جرائمه!

لعل السؤال الذي يطرح نفسه بالنسبة للحركة الشعبية لتحرير السودان (ش) هل الأمر بهذه السهولة؟ جلسة ليوم وبعض يوم ويخرج الطرفان بعدها باتفاق يُعلن على الملأبهذه البساطة؟ وإذا كان بهذه السهولة فلماذا استعصى مع الطرف الآخر، الذي ظل يركض بين (صفا) الخرطوم و (مروة) جوبا لأيام طوال، ولم يتم التوصل معه حتى إلى (شولة)؟! بصورة أخرى هل ما تم التوصل إليه مع جعفر الميرغني يمكن استنساخه والتوقيع عليه مع الحكومة الانتقالية؟ لا سيَّما، وقد ادَّعى الطرفان (الميرغني/ الحلو) أن الاتفاق الذي وقعوه عالج أهم قضيتين، العلمانية وتقرير المصير، وهما مصدر الخلاف مع الحكومة الانتقالية كما هو معلوم؟ فبغض النظر عن الإجابة على هذه الأسئلة وأخرى مثيلتها تشكو اليُتم والتجاهل والحرمان، دعونا نرى كيف عالج اتفاق (الحلو/ الميرغني) هاتين القضيتين الاستراتيجيتين؟

هاكم الإجابة الغريبة بحسب نص الاتفاق كالتالي: (يتفهم الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، الدوافع والمخاوف المرتبطة بحق الشعوب المتضررة لممارسة حق تقرير المصير عبر استفتاء شعبي، ويجدد تفهمه لضرورة إصرار الحركة الشعبية (ش) على المطالبة بالعلمانية وتقرير المصير، ويلتزم الحزب بالعمل والتواصل مع الأطراف السودانية كافة من أجل معالجة هذا الأمر ووقف الحرب ودرء الفتنة الدينية وذلك حتى لا تكون هذه القضايا سبباً وعائقاً دون الوصول لاتفاق سياسي لوقف الحرب في السودان) هل الأمر بسهولة شرب جرعة ماء حقاَ؟ علماً بأن الطرفين اللذين اتفقا يعدان من معسكرين مختلفين، في حين أن الطرف الذي لم يتم التوصل معه ل (شولة) يعد حليفاً استراتيجياً أو هكذا يفترض أن يكون بحكم الثورة التي تمثل القاسم المشترك الأعظم؟ بصورة أخرى هل كانت هذه النصوص ستجد القبول لو أن وفد الحكومة الانتقالية نسخها وقدمها في الجولة القادمة؟ من ناحية أخرى، المعروف أن وفد الحكومة الانتقالية قال إن القضيتين المذكورتين ينبغي ترحيلهما للمؤتمر الدستوري – بغض النظر عن أوانه – والسؤال أليس ما قاله الحزب الاتحادي بخصوص القضيتين في نصوص هذا الاتفاق هو ترحيل لهما لمائدة المؤتمر الدستوري أيضاً؟

واقع الأمر كنت قد وجهت هذا السؤال لنفسي، وكانت الإجابة الواضحة والصريحة التي لا تحتمل الشطط في القول: إن الحزب الاتحادي الديمقراطي مارس الفهلوة السياسية بعينها في القضيتين موضع الجدل (العلمانية وتقرير المصير). ففي تقديري جاء جعفر الميرغني إلى جوبا باحثاً عن ماضٍ جرت مياه كثيرة تحت جسره حتى تحطم، وأظنه كان يطمح في اصطياد أرنب يُرمم به جسد الحزب المنهك من مشاركة الديكتاتورية البائدة، فإذا به يصطاد فيلاً (حقوق المثل محفوظة لصاحبه) والفهلوة في أن تفسير الحزب للقضيتين في النصوص المذكورة يصلح لمناسبات اجتماعية، مثل التي يقال فيها (العاقبة عندكم في المسرات) ولكأنما جاء طفلك باكياً، فدسست في يديه قطعة حلوى لينسى سبب بكائه. لعل ما يوجع القلب أن القضايا التي عولجت بذلك البؤس يتوقف عليها مصير وطن يقف على حد السيف بين أن يكون أو لا يكون. وإذا كانت تعالج بأساليب (الطبطبة) هذه، فما الغريب أن نشهد الثورة العظيمة التي فجرت تلك القضايا تُعرض في سوق النخاسة غداً!

حقيقة الأمر أنا لا أدري ما جدوى هذا الاتفاق الذي خلق تساؤلات أكثر مما قدم إجابات للقضايا السودانية الشائكة التي أثقلت كاهل الشعب المكلوم. ولعل السؤال الذي ينبغي على الحركة الشعبية (ش) الإجابة الأمينة والموضوعية عليه هو: لماذا كانت تحارب نظام الجبهة الإسلاموية أصلاً؟ فالواقع يقول إن الاتفاق الذي وقع من الميرغني هو بصورة أخرى اتفاق مع النظام الساقط، نظراً لأن المذكور كان جزءاً منه حتى سقوطه في 11 /4 /2019 ليس هذا فحسب، بل عزَّ على الحزب وزعيمه أن يقدموا اعتذاراً صريحاً يحفظ ماء الوجه على الأقل. من جهة ثانية يمكن القول إن الاتفاق حول القضايا الجدلية بتلك الكيفية التي قبلت بها الحركة الشعبية (ش) يوجه نحوها الشكوك في أن مواقفها حيالهما تكتيكية، وليست مبدئية كما تقول، بتأكيد أن الحزب الاتحادي منحها في هذا الاتفاق (حبال بلا بقر) كما يقال في المثل السوداني الدارج. ولا غرو أن ذلك خذلان مبين لكل القوى الديمقراطية، التي كانت تظن أن الحركة الشعبية (ش) ستنادي بهما سراً وجهراً كما يفعلون. وذلك استناداً على إيمان أزلي بهذه القضايا وليس لأن الحركة الشعبية طالبت بهما. فالعلمانية آتية لا ريب فيها، ولكن يبقى التحدي الأزلي في الإجابة على سؤال المليون: ما الذي سنفعله بها؟ والجواب يكفيك عنوانه كما يقولون، وكما قال مارتن لوثر كنج (لعل أسوأ مكان في الجحيم محجوز لهؤلاء الذين يقفون على الحياد في أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة)!

أخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!

فتحي الضَّو
[email protected]

‫11 تعليقات

  1. فعلاً دي حقيقة الحزب الاتحادي الديمقراطي ذي ما بقولوا بالعامية (ياكلونا حنك) والفلهوة اتعلموها من المصريين لكن ده بمشي على الشعب السوداني لان ذاكرته قوية !!!!

  2. عبد العزيز الحلو وقف مع ود الميرغنى الذى لا يستطيع ان يفرق بين النيل الازر ق والابيض لان غالبيه كبيره من سكان اهلنا فى جبال النوبه هم ختميه بالطبع – ضد المسيريه البطبعهم انصار توقيع الحلو يضمن له ولاء عدد كبير من سكان جبال النوبه فى حين ان عبد العزيز عندو قضيه دافع عنها ودفع ثمن باهظ لها – وود الميرغنى جاى يبحث عن وزن فقده ابان تصفيقه للبشير وجماعته – كما ان المراغنه لهم اراض مساحاتها شاسعه فى منطقة جبال النوبه كما ان عبد العزيز يعتبر مساندة الختميه له فى موضوع العلمانيه سوف يعطى الموضوع دفعه كبيره على ارض الواقع – والانتخابات والمؤتمر الدستورى هى الفيصل

  3. يبقي مالكم يا الكيزان و يا ناس نصره الشرع ، اهو دا كيان إسلامي كبير و معروف و قديم و كبيرهم زول قرشي و هاشمي كمان و موافق علي العلمانيه و اعني علمانيه الحكم الي حين و حفاظا لوحده الارض ، يبقي عندكم رأي تاني ؟

  4. الحلو بالفعل (دّس) حلوى في يّد مساعد حله المخلوع جعفر الميرغني ، وهو يدرك ان السيد المساعد لا بحّل لا بيربط وبات هو ووالده وطائفته وحزبه خارج التاريخ وفي عداد الموتى ..

    سلّك ليهو .. بالراندوق .

  5. الاحزاب الطائفية هي سرطان السودان الحقيقي وسبب تخلفه وهم كمصاصي الدماء يعيشون علي دم الشعب السوداني.، يجب حظر اي حزب طائفي او ذو خلفية دينية والذام اي حزب يريد المشاركة في الديمقراطية القادمة ان يكون اولا لديه ديمقراطية حقيقية داخله وكذلك شروط عدم استمرار رئيس الحزب اكثر من عامين فقط وهناك كثير من الشروط التي تقضي علي المرض المسمي أحزاب طائفية ودينية وسيدي وسيدك واستبعاد البسطاء ونحن في القرن الواحد وعشرين ونتحدث عن ديمقراطية.، لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية بهذا الشكل ، دا استهبال وخداع ما ديمقراطية

  6. ليس مستغربا فالساحة كلها تمور بالمتناقضات لقء حمدوك بالشعبى وغازى وربما يطالب باطلاق سراح المجرم احمد هارون
    لكن يا استاذى طالما حميدتى موجود فى السلطة وهو الذى قتل وشرد تبدو ما تناولته فى لقاء الحلو ونجل الميرغنى الذى لا اتزكر اسمه ولو رجعت لاول مقالك ستضيع فكرتى
    ما اود ذكره هو ان الاتحاديين كانو مشاركين حتى سقوط النظام لكن لهم تواجد كبير فى قوى الحرية اكبر من كل الكيانات الاهرى ماذا يعنى هذا؟

  7. إعلان دعم قضايا السلام والوحدة الطوعية المفترى عليه من رسل الشؤم والأقلام الصدئة
    Article
    Comments (0)
    emailEmailprintPrintpdfSaveseparationincreasedecreaseseparationseparation
    بقلم: الجاك محمود أحمد الجاك

    معلوم أن العلاقة بين الحركة الشعبية والحزب الإتحادي الديمقراطي ليست وليدة اللحظة، وإنما هي من أقدم وأمتن العلاقات في تاريخ السياسة السودانية. فقد نشأت هذه العلاقة منذ ثمانينيات القرن الماضي، أي قبل (32 سنة)، ووطدت بنضالات مشتركة من خلال صراعنا الطويل مع نظام الجبهة الإسلامية القومية وتوجت بتوقيع الحزبين على إتفاقية السلام السودانية الموقعة في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في 16 نوفمبر 1988. تلك الإتفاقية التي عرفت بإتفاق الميرغني- قرنق والتي جمدت قوانين سبتمبر وأقرت العودة لقوانين 1974 لتهيئة المناخ وإفساح المجال للعودة بالبلاد الي منصة التأسيس بإنعقاد المؤتمر الدستوري. تلك الإتفاقية جاءت كنتاج لحوار وطني مسئول، صريح ومخلص وكانت كفيلة بحقن دماء السودانيين، وبناء وتوحيد الوجدان الوطني Laying the foundation for building and unifying the national conscience والمحافظة علي وحدة السودان لولا تواطؤ وتآمر القوي الرجعية عليها وقتها ممثلة في الجبهة الجبهة الإسلامية القومية والدكتاتورية المدنية لقطع الطريق أمامها بإنقلاب 30 يونيو المشئوم.

    كذلك وقع الحزبان ضمن فصائل تحالف التجمع الوطني الديمقراطي علي إعلان نيروبي في 17 أبريل 1993 حول علاقة الدين بالدولة. كما وقعا علي مقررات مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية في يونيو/حزيران 1995، وقبلها وقع الحزبان الإعلان المشترك في العام 1994 والذي أرسي مبادئ قوية كان يمكن أن يشكل أساسا لدستور دائم.

    الإعلان الموقع بين الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال والحزب الإتحادي الديمقراطي الأصل في جوبا بتاريخ 29 يناير 2020 يعد تطورا طبيعيا لبيان القاهرة المشترك الذي وقعه عن الحركة الشعبية القائد جوزيف توكا علي مع السيد جعفر الصادق محمد عثمان الميرغني عن الحزب الإتحادي الديمقراطي الأصل في مقر إقامة مولانا السيد/ محمد عثمان الميرغني بالقاهرة بتاريخ 25 سبتمبر 2019. وقد جاء توقيع إعلان دعم قضايا السلام والوحدة الطوعية الموقع بجوبا في بحر الأسبوع الماضي في إطار دعم جهود تحقيق السلام في السودان. نحن نعتبر الإعلان، ودون مزايدة علي أحد خطوة متقدمة في الإتجاه الصحيح، ونقطة تحول كبيرة في تعزيز بناء سلام حقيقي في السودان. بل من المؤكد أن توقيع هذا الإعلان سيكون له ما بعده، خاصة وأن الحزبين يمثلان قوي سياسية حقيقية موجودة على الأرض.

    الشاهد أننا قد رصدنا عددا من رسل الشؤم Prophets of doom وأصحاب الأقلام الصدئة التي تناولت الإعلان بالنقد السالب وبالتبخيس، بل باتت تتنمر وبصورة غريبة علي الحزب الإتحادي الديمقراطي الأصل واصفة إياه بالحزب الطائفي والتقليدي، وإستنكرت إقدام الحركة الشعبية علي التحالف معه بحجة أنه قد شارك في حكم نظام المؤتمر الوطني البائد. طبعا لا يمكن أن يمر مثل هذا التطاول والإبتزاز الرخيص دون رد، وفي معرض ردنا علي هؤلاء نقول:
    أولا: هذه القضية ليست محل فهلوة سياسية وفلسفة وطق حنك، فدعونا نحاكم الأحزاب والتنظيمات السياسية بمواقفها وأفعالها. وبهذه المناسبة، وللحقيقة والتاريخ فإننا في الحركة الشعبية وبحكم علاقاتنا التاريخية ونضالاتنا المشتركة نشهد للحزب الإتحادي الديمقراطي أنه من أكثر الأحزاب السياسية السودانية وفاءا وإلتزاما بالإتفاقيات والمواثيق التي وقعها معنا، وهو الحزب الأكثر تقدما في إدارة حوارات وطنية مسئولة صريحة ومخلصة مع الحركة الشعبية كما أسلفت وهذه قيمة يندر وجودها لدي الأحزاب والنخب السياسة السودانية التي إشتهرت بنقض العهود كما جاء في كتاب البروفيسور فرانسيس دينق Too many agreements dishonored، فهي تنم عن الإعتراف بالجذور التاريخية للمشكلة السودانية وتؤسس في ذات الوقت لسياسة إدارة الإختلاف بأدب وروح وطنية عالية غير مسبوقة في الفضاء السياسي السوداني. تلك الحورات الوطنية هدفت جميعها الي تقديم إجابات مشتركة وشافية على الأسئلة الدستورية التي ظلت مطروحة دون إجابات منذ ما يسمي بإستقلال السودان، وهي أسئلة متعلقة بالقضايا التالية:
    ١. طبيعة الدولة، وقضية علاقة الدين بالدولة.
    ٢. مسألة الهوية الوطنية.
    ٣. نظام الحكم ( الإجابة علي السؤال كيف يحكم السودان؟).
    ٤. إستقلال القضاء وسيادة حكم القانون.
    ٥. المحاسبة التاريخية وتحقيق العدالة الإنتقالية.
    نؤمن ونعتقد أن المخرج من الأزمة السودانية يكمن في تقديم الإجابات المنطقية والصحيحة علي هذه الأسئلة والقضايا التي تشكل جذور المشكلة في السودان والتي يتهرب منها مناهضو إعلان دعم قضايا السلام والوحدة الطوعية.

    ثانيا: تقتضي الأمانة والقراءة الموضوعية والحصيفة لإعلان دعم قضايا السلام والوحدة الطوعية الإعتراف بأن جوهر الإعلان الموقع، والذي جاء كما قلنا في إطار دعم جهود تحقيق السلام في السودان يتجلي في النقاط التالية، وهي قضايا استراتيجية بالطبع:
    ١. إتفاق الطرفين في البند الثالث من الإعلان علي العودة إلي قوانين 1974، وهي قوانين علمانية في الأساس. وكذلك تم الإتفاق في ذات البند علي إلغاء كافة القوانين التي صدرت قبل تاريخ التوقيع علي الوثيقة الدستورية في 20 أغسطس 2019. هذا البند يؤكد تلقائيا إتفاق الطرفين علي إلغاء قوانين الشريعة الإسلامية وكل القوانين المقيدة للحريات، ولذلك حق لنا أن نحتفي بهذا البند تحديدا مقروءا مع ما تم الإتفاق عليه في البند الأول حول ضرورة منع قيام الأحزاب السياسيه علي أساس ديني لإنه يعد إقرارا بمبدأ الفصل التام بين الدين والدولة. وبالطبع لن يجرؤ أحد كائن من كان علي شيطنة وتكفير مولانا محمد عثمان الميرغني وحزبه العريق!!

    ثالثا: لعل القبول الشجاع بالإتفاق علي تأكيد الإلتزام الثابت بمبدأ الوحدة الطوعية كما جاء في البند الأول من الإعلان أمر ذو مغزي ودلالات مهمة، لأنه يحتم ضرورة إعادة النظر في الوحدة القسرية الفاشلة التي فرضت بالقوة منذ ما يسمي بإستقلال السودان. يتعين أن نضع في الإعتبار أن السودان وبسبب الإصرار على فرض الوحدة القسرية والهوية الأحادية الإقصائية وتكريس المركزية القابضة صار أمام خيارين، إما أن يتجدد أو يتبدد. نحن في الحركة الشعبية وحدويون، ولكننا مع الوحدة الصحيحة والعادلة، ونؤمن أن للوحدة ثمن يتجاوز الخطب والشعر والشعارات الرنانة والزائفة التي ما عادت تسمن أو تغني، بل لا تعدو كونها مجرد أونطة وإستهبال سياسي وذر للرماد في العيون علي شاكلة: (منقو قل لا عاش من يفصلنا…قل معي لا عاش من يفصلنا)، و( أنا إبن الشمال سكنتو قلبي …..علي إبن الجنوب ضميت ضلوعي) فكلها شعارات ذبحت يوم ذبح الخال الرئاسي الثور الأسود فرحا وإبتهاجا بإنفصال جزء عزيز من الوطن. كما نحرت ذات الشعارات يوم أعلن الجهاد علي شعب النوبة ذوي الغالبية المسلمة، والذين لم يشفع لهم إسلامهم ولا تحدثهم بلغة عربية فصيحة. وكذلك ذبحت نفس الشعارات عندما أرتكبت جريمة الإبادة الجماعية في حق شعب دارفور الإفريقي المسلم علي أساس عرقي وعنصري، وقبله ذبحت تلك الشعارات بكتاب الإمام الكارثة الصادق المهدي (خمس خطوات لأسلمة وتعريب جنوب السودان).

    رابعا: إن ردنا لمن يبخسون الإعلان، وينتقدون تحالف الحركة الشعبية مع الحزب الإتحادي الديمقراطي الأصل بإعتباره من الذين شاركوا فى حكم نظام المؤتمر الوطني البائد، فإن هؤلاء الناقدون من أمثال الأستاذ المحترم فتحي الضو، ورغم إسهاماته الكبيرة والمقدرة في توثيق جرائم نظام دولة الفساد والإستبداد وتعريته، إلا أنه يبدو أن الأستاذ فتحي الضو نفسه قد نسي أنه كان من عتاة الإسلاميين التائبين شأنه شأن الدكتور الطيب زين العابدين، وعبد الوهاب الأفندي ونأمل صادقين أن تكون توبته توبة نصوحة وليست توبة إضطرارية وإنتهازية.

    رابعا: ردنا لمن ينتقدون ويبخسون تحالف الحركة الشعبية مع الحزب الإتحادي الديمقراطي الأصل بإعتبار أن الإتحادي ممن شاركوا في حكم نظام المؤتمر الوطني البائد، فهؤلاء الناقدون من أمثال الأستاذ المحترم فتحي الضو، ورغم إسهاماته الكبيرة في توثيق جرائم ومخازي النظام البائد، إلا أنه يبدو أن فتحي الضو نفسه قد نسي أنه شخصيا كان من عتاة الإسلاميين التائبين وأنه كان من المقربين للهالك الترابي، ومع ذلك يحفظ له الشعب السوداني وكل محبي السلام ورسل الإنسانية في العالم أنه قد ساهم في تعرية النظام وإسقاط بتوثيق أبشع جرائمه وفظائعه. أما بالنسبة للقحاتة، الذين بخسوا الإعلان، فهم أيضا قد نسوا أنهم قد ساهموا وبتواطؤ آيديولوجي، وبوعي مصلحي في إختطاف ثورة ديسمبر المجيدة من خلال الإتفاق مع عسكر اللجنة الأمنية، وبالتواطؤ مع قوات الدعم السريع والتي إعترفوا بها وقننوها بإعلانهم الدستوري المعيب والمعطوب بهدف فرضها علي الشعب السوداني كأمر واقع وجيش موازي، فكيف لهم وبأي حق أن يقوموا بمثل هذا التنمر علي الحزب الإتحادي الديمقراطي الأصل بعد خراب سوبا؟!!

    وأخيرا، ما البأس وما الضير إذا نجحت الحركة الشعبية في إقناع قوي السودان القديم بتبني رؤية السودان الجديد كمشروع وطني وكمخرج وخلاص لأزمات البلاد المستفحلة؟!

    ختاما، وعلي رأي المثل السوداني: (البيتو من قزاز ما يجدع الناس بالحجارة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..