مقالات سياسية

ملكال… وشبح التوتر في جنوب السودان

عبدالله عبيد حسن

7 ديسمبر 2006

مدينة ملكال إحدى أعرق حواضر السودان، ظلت طوال عقود الحروب والاقتتال التي شهدها جنوب هذا البلد مدينة محصنة ضد تلك النزعات الوحشية التي مزقت عرى المجتمع والسلم الأهلي في الجنوب. ويذكر المعاصرون لبداية التمرد العسكري عام 1955 أن مدينة ملكال كانت وظلت كذلك الحاضرة الجنوبية الأكثر أمناً وسلماً (كانت ملكال عاصمة مديرية أعالي النيل قبل التقسيمات الإدارية التي تعاقبت على أقاليم السودان وغيرت أوضاعها وأسماء بعضها). عاش في ربوعها الشماليون والجنوبيون، المسلمون والمسيحيون، في سلام وإخاء مسجل في صفحات التاريخ السوداني الحديث. وهي إلى جانب ذلك، وبحكم موقعها الجغرافي، وبحكم أنها كانت محطة الري المصري الكبرى وأول موانئ الجنوب بالنسبة للبواخر النيلية، كانت أولى المدن التي افتتحت فيها البعثة التعليمية المصرية مدارسها المتميزة إبان فترة الحكم الاستعماري، ومنها تخرج الجيل الأول من الجنوبيين الذين واصلوا تعليمهم العالي في القاهرة.

وخلال سنوات التمرد والعنف الممتدة من قبل الاستقلال حتى توقيع اتفاقيات السلام في يناير 2005، لم تشهد مدينة ملكال الجميلة والرائعة حوادث عنف وصدامات مسلحة كما شهدت غيرها من مدن الجنوب.

لذلك كانت أنباء المعارك الدامية التي اندلعت في ملكال الأسبوع الماضي صدمة للرأي العام السوداني الذي يأمل برغم تزايد المخاوف، أن تكون مسيرة السلام واتفاقاتها قد وضعت حداً لمرحلة يحاول السودانيون بجهد مخلص تجاوز آلامها وجراحها المؤلمة. انفجرت معارك ملكال الوحشية، وكانت تلك مفاجأة لعامة الناس الذين لم يخطر ببالهم أن تكون ملكال مسرحها، ذلك لما استقر في أذهانهم عبر عقود زمن الحرب والمعارك بأن ملكال ستبقى بمنأى عن ذلك العنف والاقتتال الوحشي.

وضاعف من هول المفاجأة عليهم ما بدأ يُنشر ويُذاع من معلومات وأرقام عن عدد الضحايا العسكريين والمدنيين (تقر بعثة الأمم المتحدة أن القتلى من العسكريين والمدنيين الذين أحصوا حتى كتابة هذه السطور قد بلغ مئة وخمسين قتيلاً، وأن عدد الجرحى والمصابين يتراوح ما بين أربعمائة وخمسمائة جريح)، وما عُرف عن الحالة الصحية في المدينة التي ظلت الجثث فيها ملقاة في الشوارع لأيام، وأن مجاعة حقيقية تعرض لها السكان المدنيون الذين ظلوا معتصمين بمنازلهم، ولم يغادروها طول أيام القتال الأربعة، مما استدعى أن تُجلي الأمم المتحدة والمنظمات الطوعية موظفيها من المدينة بعد أن تمكنت من استعادة مطار ملكال!

وبرغم التطمينات التي أذاعتها الحكومة و”الحركة الشعبية” من عودة الحياة إلى طبيعتها، ومن استقرار الأمن والنظام فإن ما حدث قد بعث مجدداً مخاوف وشكوكاً، طالما وجه كثير من العقلاء تحذيرات للسودانيين منها قبل وبعد توقيع اتفاقيات “نيفاشا”. فالميلشيات المسلحة التي كانت تعمل في أرض الجنوب، والتي أعطتها “نيفاشا” الحق في الاختيار بين الانضمام إلى قوات الجيش السوداني أو قوات “الحركة الشعبية” لم تعالج قضيتها، بما يجب، وما يزال مطلوباً من اهتمام وجدية. فالتصور على الورق شيء، وواقع الأمر شيء آخر، ومثل المشكلة التي أصبح عنواناً لها عميد من قوات الحركة ولواء من القوات الجنوبية الصديقة الموالية للحكومة ليست هي كما يحاول أن يصور الجانبان أنها مشكلة فردية. إنها قنبلة واحدة من عشرات القنابل المدفونة التي ستعترض طريق مسيرة السلام إذا لم تحسم بما هو مجمع عليه. التراضي والتسامح وتحقيق العدل بالقانون الذي يساوي بين كل الأطراف وسنظل نعيد ونكرر القول بأن إرساء دعائم السلام في السودان أشق وأصعب من تأجيج نيران الحرب والقتال. وإن العمل من أجل تحقيق السلام العادل والمستقر مسؤولية يتحملها جميع السودانيين ويجب ألا تكون -وهي لن تكون فعلاً- حكراً ووقفاً على طرفي “نيفاشا”: “المؤتمر الوطني” و”الحركة الشعبية”، ذلك لأن سلام الوطن وأمنه أكبر من كليهما ومنهما مجتمعين.

عبدالله عبيد حسن

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..