مقالات وآراء سياسية

المغايرون.. قصة النجاح

إسماعيل آدم محمد زينإسم

وجدتُ صعوبة في ترجمة عنوان هذا السفر المتفرد وهو  Outliers للكاتب مالكولم قلادويل Malcolm Gladwell وهو مؤلف متفرد لديه عدد من الكتب، منها: نقطة الانهيارTipping Pointو بلينك Blink..إلخ وهي تنظر إلي الأمور بشكل مختلف و ذكي- خاصةً هذا السفر ، إذ يدرس النجاح بصورة غير مألوفة و مغايرة حيث يُعرف المغاير بأنه شئ يربض بعيداً عن بقية الأشياء أو شئ يتم تصنيفه بشكل مختلف من القطيع. أو في تعريف آخر” ملاحظة إحصائية لأمريختلف في قيمته عن بقية العينة” .

أما المؤلف فهو مولود في إنجلترا و ترعرع في منطقة أونتاريو الريفية بكندا و يعيش حالياً في نيويورك بولايات أميركا المتحدات ! فهو نموذج لعهد العولمة.عمل في صحيفة النيويوركر منذ عام 1996 كما عمل في صحيفة الواشنطون بوست قبل إلتحاقه بالنيويوركر.

يبحث المؤلف في الظاهرة المغايرة أو الأشياء المختلفة لأسباب غير تقليدية.إذ يبدأ بسرد مشوق للغز روزيتو و هي مدينة في بنسلفانيا بأميركا، حيث يموت الناس لكبر سنهم ! هكذا ببساطة و ليس لعلة من العلل ! تقع روزيتو فالفوتور علي بعد مائة ميل جنوب شرق روما علي سفوح جبال الأبنين في إقليم فوجيا Foggia ، ظلت كما في القرون الوسطي ! إذ تنتظم بيوتها حول ميدان مربع و فسيح،يطل علي الميدان قصر منيف،لأسرة ساقيس. ثمة طريق مسقوف يؤدي إلي الكنيسة – مادونا ديل كارمن –سيدتنا، سيدة جبل الكرمل ” فما زالت قلوب الناس في ذلك الزمان تهفو للأراضي المقدسة في فلسطين و ما زالت ! حظ أهل فلسطين !” تمتد منازل القرية ذات الطابقين علي طريق يصعد لأعلي التل متدرجاً.

ظل سكانروزيتو لقرون يعملون في محاجر الرخام في الجبال المجاورة أو في فلاحة الحقول علي تروس الوادي أسفل القرية. يسيرون يومياً لمدة 4 أو 5 ساعات لأسفل الجبل مع بلج  الصباح و من بعد مع غسق الغروب صعوداً للأعلي ، إلي قريتهم الوادعة. كانت الحياة قاسية- كانوا شبه أميين و فقراء، دونما أي أمل في أوضاع أفضل – حتي جاءتهم الأخبار في نهاية القرن التاسع عشر حول أرض الفرص، عبر المحيط الأطلنطي! في يناير من عام 1882م أقدمت مجموعة من 10 رجال و شاب علي الابحار إلي نيويورك ، حيث قضوا ليلتهم الأولي في أميركا علي أرضية دير في شارع مولبيري في إيطاليا الصغيرة في مانهاتن. و من بعد غامروا في السفر غرباً ، حيث وجدوا عملاً في منجم للاسليت Slate “حجر مسطح رمادي اللون يسهل قطعه في شكل رقائق لعمل أسقف المنازل” علي بعد 90 ميلاً غرب مدينة بانقور في بنسلفانيا. في العام التالي وفد إليهم 15 من سكان قريتهم روزيتو، بعض من هؤلاء إستقر في مدينة بانقور مع مواطنيهم في محجر الاسليت. هؤلاء المهاجرون أخبروا بدورهم أهليهم في روزيتا حول وعدالعالم الجديد- الوعد بحياة رغدة و تحقيق الحلم الأمريكي . سريعاً ما توالت الأفواج القادمة من روزيتا من أوروبا العجوز. بلغ تعداد الذين تحصلوا علي جواز السفر الأميركي حوالي 1200 فرد، مخلفين وراءهم شوارع بكاملها هجراً مهجوراً و بيوتاً خالية.

بدأ الروزيتيون بشراء الأراضي حول موصول الي بانقور بشارع غير معبد للعربات التي تجرها الخيول ” مثلما نشاهد في أفلام الغرب الأميركي – رعاة البقر” . شيدوا بيوتاً ذات طابقين، متقاربة ذات أسقف من حجر الاسليت، تفصل بينها أزقة ضيقة تؤدي لأعلي الجبل و عند سفح الجبل شيدوا كنيسة أطلقوا عليها – سيدتنا، سيدة جبل الكرمل. كما ذكرنا سابقاً و أطلقوا علي الشارع الرئيسي الذي عليه – شارع غاريبالدي – تيمناً بالبطل الذي وحد إيطاليا.في البداية أطلقوا علي مدينتهم ليتل إيتالي “إيطاليا الصغيرة” و لكنهم سرعان ما غيروه إلي روزيتو وهو إسم يبدو مناسباً ،لأن جميع السكان جاءوا من نفس البلدة من إيطاليا.

في عام 1896 تولي الاشراف علي كنيسة سيدة جبل الكرمل قسيس نشط يُدعي باسكال دي نيسكور، قام دي نيسكو بتكوين جمعيات روحيةو نظم مهرجاناتكما شجع سكان المدينة علي نظافة الأرض و زراعة البصل، الحبوب، البطاطس، البطيخ و الأشجار المثمرة في حيشان المنازل الخلفية. قام أيضاً بتوزيع البذورو الشتول و بث الحياة في المدينة. بدأ سكان روزيتو تربية الخنازير و زراعة العنب و عصر الخمور المنزلية. شيدوا مدرسة، حديقة، دير ،مقبرة، متاجر صغيرة و مخابز، مطاعم و بارات علي شارع غاريبالدي. نهضت أكثر من دستة من المصانع لتجهيزالبلوزات. يقطن مدينة بانقور المجاورة الويلزيون و الانجليز بينما يقطن المدنة الثانية الألمان –مما يعني بأن العلاقات المتقطعة بين الانجليزو الألمان ضمن بقاء روزيتو للروزيين – إذا ما سرت في شوارع روزيتو في بنسلفانيا في العقود القليلة التالية من عام 1900 لن تسمع غير اللغة الايطالية! ليس أي لغة إيطالية أخري خلاف لهجة الجنوب الفوجية “منسوبة إلي فوجيا” التي  يتحدثها سكان روزيتا في إيطاليا. ظلت روزيتو مجهولة للجميع إلا لرجل يدعي إستيوارت وولف- كان ولف طبيباً مهتماً بالجهاز الهضمي و الامعاء و يقوم بالتدريس في مدرسة الطب في جامعة أوكلاهوما، كان يقضي الصيف في مزرعة غير بعيد من روزيتو – وهذا لا يعني الكثير فقد تعيش بالقرب منها و لا تدري عنها كثير شئ !فهي تعيشفي عالمها الخاص.

في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي تمت دعوة د. ولف لالقاء محاضرة و عقبها مباشرة دعاه أحد الأطباء المحليين لكوب من البيرة و أثناء ذلك أخبره بأنه ظل يعمل في هذه المنطقة لمدة 17 عاماً و يأن المرضي من كافة الأنحاء و لكنه لم يصادف أي مريض في عمر أقل من 65 عاماً يعاني من أمراض القلب ! أخذت الدهشة د. وولف و كان ذلك في الخمسينيات، قبل سنوات من إدخال أدوية تخفيض الكوليسترول و الاجراءآت الصارمة للحد من أمراض القلب.لقد كانت الذبحة الصدرية بمثابة وباء في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي السبب الرئيسي لوفيات الرجال في الفيئة العمرية الأقل من 65 عاماً – فمن المستحيل أنتكون طبيباً ألا تلاحظ أمراض القلب بمجرد الاحساس العام.

قرر د. وولف البحث في الأمر. إستعان بعدد من طلابه و زملائه من أوكلاهوما. جمعوا شهادات الوفيات من سكان المدينة لسنوات خلون بقدر ما أمكنهم ذلك. كما حللوا سجلات الأطباء و أخذوا التاريخ المرضي و ونظروا في الصلات العائلية. و من ثم قرروا القيام بدراسة أولية بدءاً من عام 1961م. أخبرهم العمدة بأن إخواته الأربعة تحت خدمتهم لمساعدتهم ، كما وضع قاعة إجتماعات المدينة تحت تصرفهم، مؤجلين إجتماعات مجلس المدينة لبعض الوقت. قامت السيدات بخدمتهم بتقديم وجبة الغداء. (أنظروا رعاكم الله). تم إعداد كبائن صغيرة لأخذ عينات الدم و إجراء رسم القلب. ظلبوا يعملون لأربعة أسابيع. تم أيضاً وضع المدرسة تحت تصرفهم خلال العطلة الصيفية و دعوا  كل مواطني روزيتو لاجراء الفحوصات. كانت النتائج مذهلة، لم يتوفي أي شخص من مواطني روزيتو تحت سن ال 65 عاماً نتيجة لأمراض القلب، كما أن نسبة تساوي نصف النسبة العامة للولايات المتحدة – لقد كانت نسبة الوفيات تقل بنسبة 30 إلي 35 % من النسبة المتوقعة.

إستعان د. وولف بصديق – مختص في علم الإجتماع من أوكلاهوما، يدعي جون برون لمساعدته، كما وظف طلاب الطب و خريجي علم الاجتماع لاجراء المعاينات – لقد دخلوا بيوت روزيتو بيتاً بيتاً و تكلموا مع كل شخص في عمر العشرين و من هو أكبر من ذلك. كان د. برون مذهولاً مما توصل إليه – لا توجد حالات إنتحار، لا يوجد إدمان للخمور أو للمخدرات، ونسبة قليلة من الجرائم و لا يوجد فرد يتلقي الضمان الاجتماعي ( يُعد في أمريكا عيباً – فهو يدل علي التبطل  لمن هو قادر علي العمل )، لا أحد يشكو من القرحة. هؤلاء الناس يموتون من كبر السن فقط ! يطلق الأطباء علي الأماكن مثل روزيتو – مكان خارج التجارب اليومية، حيث لا تسري القوانين المعتادة- روزيتو شئ مغاير !” شئ مؤثر إحصائياً “. خارج المألوف. إعتقد د. وولف بأن سكان روزيتو يلتزمون بعادات غذائية من العالم القديم ” أوروبا العجوز ، كما أسماها وزير الخارجية الأميركي الأسبق رامسفيل” مما يجعلهم يتمتعون بصحة أفضل من بقية الأمريكيين و لكنه سرعان ما أدرك عدم صحة ذلك ! الروزيتيون يطبخون بالسمنة بدلاً من زيت الزيتون  الصحي ! الذي يستخدمونه في بلدهم الأصلي –إيطاليا ، حيث تصنع البيتزا في إيطاليا من طبقة رقيقة من العجين مع ملح ، الزيت، السلامي، لحم الخنزير و أحياناً البيض. أما البسكويت و التارالي Taralli يستخدم فقط في الكريسماس و عيد الفصح، بينما في روزيتو يتناولونها خلال كل أيام السنة ! عند تحليل عاداتهم الغذائية وجد د. وولف بأن 41% من الكالوريوهات تأتي من الشحوم ! كما أنها ليست المدينة التي يصحي سكانها مبكراً لممارسة اليوغا أو الجري لمسافة 6 أميال، كما أن الروزيتيون يدخنون بشراهة و الكثير منهم يعاني من السمنة ! لذلك فان الغذاء و الرياضة لا يفسران النتائج المذهلة. لذلك قد يعود السبب للجينات !الروزيتيون أقرباء و ذوي صلات وثيقة  ومن ذات الاقليم في إيطاليا، كان تفكير د. وولف هو أن الروزيتيون من فصيلة  صلبة تحميهم من الأمراض. لذلك قام بمتابعة أقرباء سكان روزيتو في بقية أنحاء الولايات المتحدة لمعرفةما إذا كانوا يشتركون في ذات الصفات الجيدة مثل ذويهم في روزيتو ؟ لكنهم لا يماثلونهم. و من بعد نظر في الاقليم الذي يعيش فيه الروزيتيون، هل من الممكن وجود شئ تعزي إليه الصحة الجيدة؟ المدينتين المتجاورتين لروزيتو هما بانقورBangor و هي تقع مباشرة أسفل التل من روزيتو و نازاريا Nazarihو هي تقع لعدة أميال منها ! وكليهما في حجم روزيتو. كما أن سكانهما من الأوروبيين و من العمال الأقوياء المهاجرين من أوروبا.بحث د. وولف  السجلات الطبية للرجال فوق الخامسة و الستين من العمر في كلا المدينتين وقد كانت نسبة الوفيات بأمراض القلب تعادل ثلاث مرات نسبتها في روزيتو ! و لا يصل إلي شئ. أدرك د. وولف بأن سر روزيتو لا يكمن في الغذاء أو الرياضة أوالموقع ! يجب أن تكون روزيتو ذاتها هي السبب ! أثناء مسير د. وولف و برون  في مدينة روزيتو أدركا ذلك – نظرا لكيفية تبادل الزيارات بين سكان روزيتو حيث يتوقفون للتحدث مع بعضهم في الطريق باللغة الايطالية، يطبخون لبعضعم في الحيشان الخلفية،كما تعرفوا علي الروابط العائلية التب تربط نسيج المدينة الاجتماعي.شاهدا كيف تعيش ثلاثة أجيال في كثير من المنازل تحت سقف واحد و كيف يلقي الجدود إحتراماً من الجميع. كما يذهبون إلي الصلاة في الكنيسة، شاهدا الوحدة و السكينة الذان ينبعثان من الكنيسه. أحصيا 22 منظمة تطوعية في المدينة التي يبلغ سكانها أقل من 2000 فرد! ” مما يدل علي العطاء، الكرم و اللطف” لاحظا الالتزامالأخلاقي للمجتمع الذي يحد من تفاخر الأغنياء بثروتهم و نجاحهم كما يساعد غير المحظوظين لاخفاء فشلهم ! ” فيا لروعتهم !”

في غرسهم لثقافة إيطاليا الجنوبية في تلال بنسلفانيا الشرقية خلق الروزيتيون نسيجاً إجتماعياً قويا، حامياً و قادراً علي عزلهم من ضغوط الحياة الحديثة. الروزيتيون أصحاء لأنهم نتاج للمنطقة التي جاءوا منها، و بسبب العالم الذي خلقوه لأنفسهم في مدينتهم الصغيرةفي الجبال.

أتذكر عند ذهابي لروزيتو للمرة الأولي و رؤيتي للوجبات العائلية التي تجمع ثلاثة أجيال معاً كل المخابز، الناس يزرعون الشوارع جيئةً و ذهاباً، يجلسون علي عتبات منازلهم، يتحدثون مع بعضهم، ماكينات النسيج حيث تعمل النساء معاً أثناء اليوم بينما الرجال يعملون في محاجر الاسليت كما يقول د. برون. إنه السحر !

عندما قدم د. وولف و برون نتائج بحثهم لأول مرة للمجتمع الطبي، يمكنك تخيل حجم الشكوك التي واجهتهم.ذهبا إلي مؤتمرات حيث يستعرض زملاؤهم أعمدة بيانات طويلة منتظمة في رسومات معقدة و تسترجع ذلك النوع من الجينات أو ذلك النوع من العمليات الفسيولوجية و هما يتكلمان حول الفوائد السحرية و الغامضة للناس و هم يتوقفون للتحدث مع بعضهم في الشوارع و وجود ثلاثة أجيال تحت سقف واحد. يعيشون حياة طويلة ، الحكمة التقليدية في ذلك الوقت تؤكد علي ما نحن عليه- بمعني جيناتنا. كما يعتمد علي القرارات التي تتخذ- علي ما نختار في أكلنا و حجم الرياضة التي نمارسها و كيفية تلقينا للنظام الطبي. لا أحد يتكلم عن الصحة في ضؤ المجتمع و تحت تأثيره ! علي د. وولف و برون إقناع المؤسسة الطبية للتفكير حول الصحة و الذبحة الصدرية بطريقة جديدة كلياً. عليهما إقناعهم لادراك عدم تمكنهم من فهم عدم وجود شخص يتمتع بصحة جيدة، إذا كانوا يفكرون فقط في إختيارات الفرد و أفعاله بطريقة معزولة. عليهم النظر وراء الفرد أو الشخص.كما عليهم فهم الثقافة التي يعيش فيها الفرد كذلك أصدقائهم و عائلاتهم و أي مدينة جاءت منها أسرهم. عليهم أن يقدروا بأن فكرة قيم العالم الذي نعيش فيه و الناس الذين يحيطون بنا لديهما تأثير هائل علينا و علي ما نحن ! في المغاير، “هذا الكتاب” أُريد أن أفعل مع فهم قصص النجاح ما فعله د. إستيوارت وولف لفهمنا للصحة.

يتناول المؤلف ما وراء قصص النجاح في مختلف ضروب الحياة: في الرياضة ، العلوم ، ريادة الأعمال، الكمبيوتر، و يتعرف علي أسباب غير مألوفة – مثل الحظ أو الفرص، تاريخ ميلاد الفرد و الجهد الذي يبذله – لا نجاح مع الكسل.

علينا النظر خارج الصندوق و بشكل غير تقليدي لمعرفة أنفسنا و العالم من حولنا.

ــــــــ

ترجمة ، عرض و تعليق

إسماعيل آدم محمد زين

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..