مصطفى سند قبس من سيرة .. صندل الليل المضاء

إعداد : أحمد عمر خوجلي
ستة أعوام أو تزيد مرت على رحيل شاعر وأديب ضخم يعتبر، بإجماع الغالبية العظمي ، من أكابر شعراء السودان مصطفى سند الذي رحل عن عمر يناهزالتاسعة والستين بالمملكة العربية السعودية . رحل سند تاركا وراءه ميراثا غاليا و أثرا باقيا ثراً تشهد عليه دواوينه الشعرية التي عالج فيها غالب ضروب الشعر ،ومقالاته النقدية التي نشرها في ملاحق الصحف الثقافية ومئات اللقاءات والمقابلات في أجهزة الإعلام المرئي والمسموع والجوائز التي نالها في داخل وخارج السودان كما لسند مساهمات اخرى في مجالات العمل المدني والإنساني والمهني .
تقول صفية شقيقة الراحل مصطفى محمد متولي سند وزوجة الراحل الشاعر الفذ محيي الدين فارس: للراحل من الشقيقات ثلاث ..أنا وسعاد ووداد، ومن الأشقاء مؤمن وسيد، والدتنا سكينة من عائلة الشيخ عثمان صالح بحي الركابية.
وعن والدهم محمد سند قالت: ( إنه مصري هاجر إلى السودان لأسباب سياسية ليطيب له المقام في البلد ويعمل في وظيفة باشكاتب في الحكومة .. تواصل صفية متحدثة عن أخيها الشاعر الراحل سند وبداية علاقته مع الشعر بقولها: ( بدأ كتابة الشعر وهو في سن صغيرة جداً مستفيداً من علاقة أبيه بالادب حيث كان شاعراً مجيداً كما كان خاله عبد الرحيم السيد شاعراً تغنت له المطربة الراحلة عائشة الفلاتية بعدد من الأغنيات، عندما عرف والدنا اتجاه مصطفى لكتابة الشعر قال له: ما ترهق نفسك بالشعر.. فقالت إن مصطفى ردّ على أبيه : أنا دي حاجة بتجيني في رأسي ولازم أطلعها..
الصبي يشب عن الطوق
وتدرج الصبي الصغير في دروب الشعر ليكبر مع صحبته وينشر أعماله الأدبية اول الأمر في ملف( الصراحة )الأدبي .ثم تنفتح له
وسائل الإعلام وفرص النشر على كافة اتجاهاتها.
الأستاذ محمد يوسف موسى قال: إن ما جمعه بالراحل مصطفى سند شيئان هما الزمالة في مؤسسة البريد والبرق ونظم الشعر وحب
الأدب حيث سبقه الراحل الى العمل في البريد وعُرف في اول الأمرككاتب قصة. وقال محمد يوسف إن علاقته به توثقت بعد أن اكتشف نظمه للشعر ليصير بعدها من المجددين في كتابة الشعر من الجيل السابق للشعراء محي الدين فارس والفيتوري وتاج السر الحسن وصلاح أحمد ابراهيم.
براءة ووضاءة
كان عضوا ملتزما في ندوة ام درمان الأدبية وكان أحد المهمومين بالتوثيق لمؤسسها وتجميع تراث الراحل عبد الله حامد الأمين.
ومن يلتق بالشاعر سند يلتقِ بالبراءة والوضاءة والإنسانية.. إذا كان شعره من (القول ) هو ترجمة لـ (السلوك) فقد نظم الشاعر في(الكمنجات الضائعة).
سقيت الناس من قلبى ، حصاد العمر،
ذوب عروقي الولهى .. بأكواب من النورِ
أقبّل كل من ألقى على الطرقات،
من فرحي وألثم أعين الدورِ
أسئلة وأسئلة
وأجاب عندما سألته عن مناسبة (لا تساوم ) : هل هي مناسبة سياسية نضالية:
قل لمن صاغوك جرحاً في نشيد المن والسلوى..
وتثليث الوجوه الشامتة
لا تساوم
أجاب بصراحة ولم يدّع بطولة وهمية غير موجودة: (الأمر كان تجربة شخصية ). كانت تطلب العزم والجد .
سألته هل يمكن بعد سنوات أن نركب روح القصيدة على مواقف سياسية إذا احتملت ذلك ؟ قال( يمكن ). وكان لا يرى غضاضة
في مراجعة أشعاره وتحديثها متى ما عنّت له خاطرة أو جملة جديدة في مكان ما من قصيدته القديمة..
منحى صوفي
ونحا شاعرنا في قصائده الأخيرة إلى نظم أشعار تحتوي على أنفاس المتصوفة وعرفانياتهم كـ:-
أنا المحب رسول الله يا شرفي حسبي الشفاعة معراجاً ومنطلقا
حبي هو الشعر طول العمر أنسجه يغدو الزمان على أيقاعه شرقا
إن رمت مدح رسول الله أعجزني حالي .. فمالي زاد يمسك الرمقا
بل انه سمىّ الديوان الذي حوى آخر أعماله الشعرية المنشورة بـ (بردة الجمال ) وهي احدى قصائد الديوان.
سند والبريد
لأنه احد منسوبيه فقد وفىّ البريد حقه في شعره حتى اقترب من أن يصير مصطلحاً ورمزاً، كقوله في عدد من ثنايا قصائده:-
(بريدك مرة يفرحنا) ( حليلك يا بريد الشوق ), (عيناكِ في قلبي ورسمك في بريدي وأقول فيكِ قصيدة فيشب إعصار البريق )
وأيضاً ( وبأي حق يا بريد الشمس تحرق لي أكفي ) وبريد الشمس الأخيرة هذه قال سند إن الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش اقتبسها منه ووظفها في عدد من قصائده.
التجاني .. سند مجدد
الشاعر التجاني حاج موسى وصف الراحل أيضا بأنه أحد المجددين في الشعر على مستوى الوطن العربي كما قال إنه يعتبره شاعراً غنائياً متميزاً صنع ثنائية مع المطرب صلاح مصطفى قدمت أغنيات من نحو( بريد الشوق) (اكتب لي يا غالي الحروف )
لكن الراحل فارق كتابة الشعر الغنائي ووصفها بالتجربة المحدودة جداً التي لم تثمر الكثير .. وقال إنه خشي على نفسه كشاعر فصيح أن ينسب إلى شعر الغناء فقط.
ومعلوم ان غالبية الشعر الغنائي في السودان فيه ما فيه من المحلية واصطلاحاتها .
نبيل غالي يحكي
الأستاذ نبيل غالي الصحفي والناقد الأدبي قال إنه التقى الراحل لأول مرة حينما شارك في إحدى الأمسيات الندية والراسخة في ذاكرة سنار وجمهور الادب والشعر هناك في سبعينيات القرن الماضي، حينما كانت رابطة سنار الأدبية مضيئة بما تصدره من ( كتيبات ) شعرية وقصصية ونقدية على ورق الرونيو ? تجاوزاً لأزمة النشر وقتها ? طلبنا منه أن يضع على عنق هذه الإصدارات إحدى القلائد من دواوينه التي لم تنشر بعد .. يقول نبيل غالي :أسعدتنا استجابة الشاعر سند للطلب في أريحية قلّ ان نجدها في شاعر كبير مثله في ذلك الوقت، تأكيدا على تواضعه الإبداعي الرفيع . من جهة أخرى ، كان حفياً بالملف الثقافي لصحيفة (الحياة) السياسية، وقد توطدت علاقتي بسند من خلال عموده الذي كان يتحفنا به أسبوعياً بعنوان: ( ماذا أقول الآن ) طوال سنوات، وقد تناول فيه العديد من قضايا الثقافة الهامة اضافة الى تعاطفه فيه مع إصدارات الأقلام الواعدة.
ويضيف الأستاذ نبيل: ( مصطفى سند شاعر عثر على صوته الخاص، والشعراء قليل في هذا المضمار، إن فقدنا ? للإنسان والشاعر لكبير ). ووصفه نبيل غالي بالهرم عندما قال: ( إن كانت هناك ثلاثة اهرامات في شعرنا السوداني المعاصر فقط فإن مصطفى سند واحد منها ، وإن كان هناك عدد محدود من الشعراء العرب الكبار المعاصرين فهو واحد منهم .. وما أكثر الشعراء الذين كانوا شباباً آنذاك وخرجوا من معطفه الشعري . مصطفى سند الشاعر الفارع تجاوز شعره النقد وظلمه ، بينما تناول نقاد لدينا شعر الاقزام وأشباه الشعراء فأي إجحاف هذا ؟ ان مصطفى سند شخصية مثقفة وذائقتها الجمالية عالية وهو ناقد حاذق رغم أنف الذين يتبجحون أنهم نقاد
أمنية لروضة الحاج وشهادة للرضي
تمنت الشاعرة روضة الحاج في حوار صحفي سابق لو أنها استطاعت توزيع دواوين الشاعر سند على كل بيت عربي ليستمتعوا بأصيل الشعر ورائعه.
بينما الشاعر الشاب المقيم بلندن الصادق الرضي: (سمعت باسمه لأول مرة وأنا في الخامسة عشرة من عمري، كنت بمركز شباب أمدرمان أقدم أعمالي، لأول مرة في مساحة خارج إطار الجمعية الأدبية بمدرسة وسط المتوسطة بنين بأمدرمان الجديدة، حين قرأ محمود سهل المسؤول من تنظيم المسابقة الأدبية التي أعلنت عنها وزارة الشباب والرياضة للشعراء الشباب، عن طريق مراكزهم بالعاصمة، في أكتوبر من عام1985م قصائدي المقدمة للمسابقة، قال لي: أنت مصطفى سند الصغير، لم أكن قد قرأت له بعد، وكانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها باسمه
دور آخر
عبر عضويته لسنوات طويلة في لجان الشعر بمجلس المصنفات مارس ايضا دورا في تنقية شوائب ساحات الادباء بفرز الشعراء من غيرهم من الأدعياء ..اضطلع بهذه المهمة هو والراحل مهدي محمد سعيد ومحمد يوسف موسى وعبد الله النجيب وغيرهم ، مؤدين واجبهم لترقية اداء الشعراء ومحافظة على قداسة الكلمة بالزود عن حياض دولة الشعر في السودان .
سند الشباب
وسند ظل دوماً خفيفاً عند دعوات الشعراء الشباب كما كان يحدث في جامعتي(الخرطوم ) و ( السودان) وشديد الفرح عندما يكتشف صوتاً شعرياً مقتدراً في هذه المنتديات ، وظل سنداً على الدوام للأصوات الجديدة التي تتلمس طريقها في دروب الأدب والشعر فلقد كان للشاعر أحمد النور منزول ومجموعته منتدى دائماً في بيته ? صباح الجمعة ? يناقشون معه قضايا الشعر والادب ويتقبلون ملاحظاته حول منتوجهم الأدبي والشعري.
شاعرات من السعودية
عندما كان يدرس علم الشعر والعروض ? عبر البروجكتر ? بكلية البنات بأبها بالمملكة العربية السعودية في بدايات الالفية الثالثة قال انه ظل يستقبل على الدوام قصائد من طالباته الشاعرات محشورة بين صفحات كراسة الواجب لإبداء الرأي والملاحظات، وقد كان يفعل بدون أن يرى صاحبة المرسال .
كما التفّ حوله مجموعة من شباب أبها السائرين في درب الأدب والشعر حيث ظلوا يجالسونه ويسمعونه إنتاجهم الأدبي الذي قال إنه حوى كثيراً من (بصيلات التمرد والنزوع إلى الجديد)، فلم يتوان في الأخذ بيد هؤلاء الشباب وتلكم الشابات إلى هذه المراقي الجديدة من عوالم الشعر..
كرامة السوداني
وعلمت من الراحل أن منظمي مسابقة أمير الشعراء بدولة الإمارات اختاروه قبل رحيله بعامين ليكون أحد المحكمين في المسابقة وبشروط مجزية فوافق، ولكن عندما جاءته دعوة من تجمع السودانيين بالإمارات في الوقت الذي تأخر فيه اتصال منظمي أمير الشعراء لبى دعوة السودانيين، مضحياً بامتيازات الأولى بل إنه في سبيل ذلك فقد مخطوطة كان بها عدد من قصائده الأخيرة.
فراغ
تواتر رحيل سند وجيله من أكابر الشعراء(مصطفى سند مهدي محمد سعيد ، محيي الدين فارس وقبلهم فراج الطيب وعبد الله الشيخ البشير ) أوجد فراغا في ساحات الشعر والأدب وضمورا في مستويات القصيد عند الشعراء الشباب ، بل إن دعوات المنتديات التي يصدح فيها شعراء بجميل القصيد ورائع الشعر قلت كثيرا أو خفت صوتها ..
التيار
اللهم ارحم الأستاذ مصطفي سند واغفر له واسكنه فسيح جناتك مع الشهداء والصديقين ..انا لست شاعرا ولكن بحكم ظروف العمل اقتربت منه واختلطت به هو وبعض الأساتذة الشعراء أمثال الراحل مهدي محمد سعيد( له الرحمة والمغفرة) .. خسارة كبيرة جدا كان مصطفي سند انسانا , ذو ضمير حي , متواضع وصادق ويحب الخير ومساعدة الجميع خاصة الشعراء الناشئين على عكس كثير من زملائه الشعراء الكبار الذين تأخذهم بعض الأحيان الغيرة والحسد.
ا
أسوأ ما في بلدي انها لا تقدر مبدعيها , ولا تهتم بتوثيق ونشر إبداعاتهم والتعريف بهم, الان اجد المبرر لتلك الشعوب التي تصنع التماثيل تخليدا لمبدعيها.. مصطفي سند يستحق منا الكثير , انا كفرد لا حيلة لي دائما الوم نفسي واشعر باني قصرت كثيراً في حق الأستاذ كان يمكن ان افعل شيء ما.
كل فرد في المجتمع السوداني عليه دين مستحق السداد لمبدعي ونوابغ هذا البلد ، تجد البعض مغرم بالفنان ود الأمين او وردي أو مصطفي سيد احمد فقط دون ان يصحب هذا الاعجاب مقابل سواء كان مادياً او معنوياً ، لهذا نضب الابداع في بلادي.
اللهم ارحم كل مبدعي بلادي.
الاستاذ مصطفى سند طيب الله ثراه كان شخصا متفردا في كل شئ فبإلاضافة الى كونه كان شاعرا فحلا كان ايضا يعمل استاذا في معهد البريد والبرق معلما لاشارة التلغراف وقد تخرج على يديه معظم تلغرفجية السودان وكان الرجل رحيما لدرجة انك تضعه في مكان والدك من فرط الاعتناء بتلاميذه وعندما كنا نجتمع معه حول طاولة التلغراف لنتدرب عليه يديه كان يمزح معنا بحنان الاب والمعلم ذو القلب الكبير وقد كنا طلبة من جميع انحاء السودان شمالا وشرقا وغربا وجنوبا ووسطا وعندما يريد ان يمزح معنا (بالتلغراف) كان يقول لنا سأرسل في العشر دقائق القادمة بنغمة معينة وعليكم التركيز في إلتقاط الاشارة ولكن بعد هذه العشر دقائق لن اجد منكم واحد صاحي وفعلا يشهد الله كانت له طريقة خاصة في التنويم بالتلغراف تجعلك تسقط نائما ولو كنت من سلالة الفيل…….
معلومة اخرى عن الاستاذ مصطفى سند وعندما كنا نقوم برحلة على شاطئ النيل كنا نذبح الخروف ويأخذ الرجل بمرارة الخروف ويظل يشرح لنا فوائدها الصحية اذا استطاع الانسان شربها كاملة وكدليل على فوائد المرارة قام مرة بطلب كباية شاء مليئة الى نصفها بالزيت وقد افرغ عليها محتويات المرارة فانقلب الزيت سائلا يشبه الحليب وليس به اثر للزيت بعد ان تغيرت تركيبته الكيماوية الى سائلا آخر مما يعني ان المرارة تفكك الدهون فيقل ضررها على صحة الانسان…….
ألا رحم الله السودان حينما كانت مصلحة البريد والبرق تربط الخرطوم بواو وملكال وجوبا ورمبيك وتربط الخرطوم بسنجة والابيض والدمازين وتربط كسلا وسنار وبورسودان بحلفا وسنكات وجبيت وتربط دنقلا وعطبرة بالابيض وتصل الخدمة الى تنقسي وكجبار وفريق المحس والترعة سودان ولا تغيب الفاشر ومليط عن المشهد العام. كان لنا وطن اسمه السودان نعرفه قرية قرية وحلة وحلة ومحطة محطة وسندة سندة وحتة حتة في كل حتة توكيل بريد…….