مقالات وآراء سياسية

الحريات.. قبل الخبز والبنزين

علي مالك عثمان

شاهدتُّ بالأمس حلقة من برنامج سياسي في قناة النيل الأزرق، تناولت بالنقاش أهم القضايا التي تشغل الساحة السياسية حالياً، ممثلة في لقاء عنتيبي بين البرهان ونتنياهو، ورسالة حمدوك للأمم المتحدة، وموافقة الحكومة على تسليم البشير للجنائية الدولية. الحلقة كان ضيوفها عدد من الصحافيين وأحد الدبلوماسيين، والنقاش فيها كان ساخناً جداً، وتكلَّم الجميع بحرية كبيرة، ولم تكن هنالك خطوط حمراء، وكان تمثيل الرأي والرأي الآخر فيها متوازناً، للدرجة التي أتاحت للمؤيدين والمعترضين على القضايا محور النقاش أن يعرضوا آرائهم كاملة، مما جعل الحلقة مفيدة جداً للمشاهد العادي، وتُمَكِّـنه من تكوين رأي نهائي (مع أو ضد) في تلك القضايا..

سقف الحريات كما ذكرت كان مرتفعاً جداً، للدرجة التي قال فيها أحد الضيوف أن حمدوك تحركه سفارات خارجية، ويريد تسليم مفتاح البلد للأمم المتحدة. نفس هذا الضيف طالب أيضاً بمحاكمة البرهان بسبب لقائه نتنياهو، لأن القانون يحرِّم عليه مثل هذه اللقاءات. ضيوف آخرين قالوا إن البرهان وحمدوك تجاوزا الوثيقة الدستورية بلقاء عنتيبي ورسالة الأمم المتحدة. أيضاً قيلت أراء أخرى تؤيد التطبيع والتلاقي مع كيان الاحتلال، ولا ترى في ذلك جريمة. الشاهد في الأمر أن هذا السقف العالي من الحريات، دون خوف من اعتقالٍ أو تعذيب لجهاز الأمن، وذلك النقاش المفتوح في تلك القضايا المصيرية والخطيرة، هو ثمرة من ثمرات ثورة ديسمبر المجيدة، لا يجادل في ذلك أحد.

توفُّر مثل هذا المستوى من الحريات، ومن الجرأة في طرح الآراء، ليس ترفاً فكرياً، ولكنه ضرورة سياسية، ومرحلة لابد منها لبناء الأوطان، تجعل من الشعب كله شريكاً في اتخاذ القرارات المصيرية، وبالتالي يكون مستعداً لتحمُّل كلفتها ودفع فاتورتها. أيضاً مثل هذه الشفافية العالية تحرر القرارات الكبرى من محبسها داخل الغرف المغلقة، ولا تجعلها مسئولية نخبة مثقفة أو فئةٍ حاكمة. وبالتالي تمنع البلد كلها من السقوط في أخطاء كارثية، نتجت من تقديرات خاطئة، أو أجندة خاصة لفئة بعينها، في قضايا سياسية كبرى، ما كان يَحقُّ لها أن تفْصِل فيها وحدها. وخيْر مثال لذلك هو إتفاقية نيفاشا التي أدَّت لفصل أكثر من ثلث مساحة البلد، وأفقدته ثروته النفطية، ودون أن توقف الحرب. فأين بنود تلك الإتفاقية الآن؟ وماذا دار في كواليسها؟ ولماذا إنتهت لما إنتهت عليه؟ لا أحد يعلم شيئاً. أيضاً يصح قولنا هذا على إتفاقيات استخراج النفط التي أبرمها النظام السابق، وعلى علاقاته الخارجية المشبوهة التي لم يكن أحد يعلم عنها شيئاً. كل تلك الكوارث حدثت نتيجة عدم الشفافية وتغييب الشعب عن قرارات مصيرية تمسه مباشرة.

لذا على الجميع ألا يستخف بإنجاز الحريات هذا، وألَّا يُساوِم عليه أبداً مقابل الخبز والبنزين، وأن يعلموا أن من يُضحِّي بحريته مقابل قوت يومه سيفقدهما معاً، وأن النظام الذي يوفِّـر القوت مقابل أخذه لحريات الشعب سيكون توفيره لذلك القوت مؤقتاً، وسيصرف ثروات البلد وكل ما يملك مقابل تعزيز قبضته الأمنية، وسينتهي به المطاف، كما انتهى بنظام البشير، عاجزاً عن توفير أساسيات الحياة، ومُسْتَجدياً للخارج من أجل توفير هذه الأساسيات، الأمر الذي سيرهن كل البلد ومقدراتها للخارج، ويجلب الوصاية والانتداب، ويعيدنا للمربع الأول من جديد. أيضاً لابد لنا جميعاً أن نتيقَّن من تجاربنا وتجارب غيرنا أن الأوطان تُـبْنى بالشعوب الحرة والمبدعة، لا تلك الخائفة والمرعوبة، وبالأنظمة المنتخبة التي تمثل إرادة الجماهير، والتي يملك الشعب محاسبتها وتغييرها متى ما رأى ذلك، لا تلك التي تدَّعي العمل وتطلب من الشعوب أن تصفِّق لها. هكذا يقول التاريخ وتقول سنن الله في خلقه.. والسلام.

علي مالك عثمان

[email protected]

 

‫2 تعليقات

  1. فى رآى المتواضع اهم ركيزه هى تحقيق العدل الذى ينبغى ان يقدم على اى مطلب فالعدل يرسخ ويثبت السلام والحريه وكان يجب ان يُناقش هذا المظلب ويتداعى الجميع قانونيون وكتاب وسياسيون لمناقشة كيفية إقامة دولة العدل الذى يُنصف فيها الجميع دون تمييز ولا معنى لحريات ولا سلام والعدل غائب لا يتحدث عنه احد والكل فى شغل شاغل والبحث عن آمور لا يمكن تحقيقه دون إقامة العدل ، لماذا لا يهتم احد بالجدل الذى يدور داخل الاروقه العدليه واخص بالزكر اجهزة الاعلام المرئيه وندعوهم لاستضافة رجال القانون خصوصا كبار السن منهم وإستنطاقهم لنعرف من منهم الذي على حق وكذلك آثر العدل فى جلب الحريه والسلام ؟!!.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..