حكاية تلفاز : الحلقة الثالثة

الياس الغائب
رفضت جامعة دارفور قبول إستقالتى ورفض وزير التعليم العالى والبحث العلمى تعيننى بجامعة النيلين برغم محاولات بروفيسور حجر المتعددة لإقناعه ، أصر على موقفه الثابت وهو أن أعود إلى جامعتى وأن لا يُسمح لى بالعمل فى أي جامعة أخرى في السودان . حاول بعض الزملاء والأصدقاء إقناعى بالعدول عن أمر الإستقالة فى ظروف إقتصاديه يرونها قاهره ووضع أسرى حرج كما حاول آخرون التدخل لدى الوزير ، إن وافقت أنا على الإنتقال إلى جامعة كردفان بحجة أن الوزارة تشجع أبناء الأقاليم بالعمل فى أقاليمهم كما إتهمنى البعض بالتهور والقفز في المجهول في ظروف يعلمها الجميع بقساوتها ومرارتها ، لكننى لم ألتفت أو أستجب لكل هذه النداءات والمحاولات ولم تزدنى إلّا إصراراً . لم أكن أشعر أبداً بهول المصيبة التى أقدمت عليها وأن الحياة قد توقفت عن دورانها وأن القيامة قد قامت وأننى فى مهب الريح ، بل كنتُ في غاية الهدوء والتصالح النفسى ؛ لأننى مؤمن بقدرى ومعتدل في تدينى كمعظم أهل السودان أخطئ وأصيب ولم يعترينى أبداً ما أصاب الناس من هلع وتزمت وهوس دينى.
في نادى أساتذة جامعة الخرطوم ، نلتقى يومياً كما ذكرت لتناول وجبة الغداء والقيلولة أو لإنتظار صديق أو زميل أو لتزجية الوقت حتى يحين موعد محاضرات المساء. أصبح النادى ملتقى للجميع على مختلف ألوانهم ومذاهبهم ، نأتى لنتفاكر حول الأوضاع السياسية التي أصابت البلاد في مقتل وما إنفكت . حيث كان يدور جل حديثنا ونقاشنا حول الوضع السياسى القائم وأثره على الحالة الاقتصادية والاجتماعية. ثم رويداً رويداً تتداخل دوائر النقاش ، تتسع وتضيق حتى تصبح دائرة واحدة هي دائرة المعاش اليومى.
أدمن الجميع النادى وجلساته وحلقات النقاش فيه ، حتى وإن صادف أن غاب أحدنا عنه يوماً أحس كما يحس المدمن من فراغ ووحشة ولاسيما والنادى يرتاده كل ألوان الطيف السياسى والإجتماعى من أساتذة ، منهم من يعمل ومنهم المطرود للصالح العام ومنهم المستقيل لصالح نفسه . يأتون إليه ليتفيئوا ظلاله هرباً من شمس الخرطوم الحارقة وهموم الوطن الماحقة يرجون الأمن والسلوى عند زملاء الأمس واليوم . وحين تأتى الساعة الخامسة بعد الظهر يبدأ رواد النادى في مغادرته كل إلى حال سبيله بعد أن يكون قد إستراح وروّح عن نفسه وخفف عنها عناء ما تحمله من هموم وشجون .. هذا هو النادى الذى إنضممت إلى جلسات القيلولة فيه بعد أن جئت من الفاشر أبو زكريا.
وكنا حين ننظر فى أمر بلدنا السودان يتراءى لنا أنه فى أزمة حقيقية . أجمعت مجموعتنا على أنه يهوى في هاوية عميقة ليس لها من قرار وأنه لا سبيل إلى إنقاذه ولا أمل يرجى في إسعافه في المستقبل القريب . وأن إنقاذه إن وجد يحتاج إلى معجزة وإلى عناية إلهية لم نكن نر إليهما سبيلا . وحتى إذا إفترضنا أن جاءت المعجزة ونبت المبعوث الإلهى من تحت أو نزل من علٍ ، فإن عملية الإنقاذ ذات الأبطال البشرية والتي تتخذ الدنيا مسرحاً لها تحتاج إلى زمن ومراحل تطور لا تصلح بدونها ولابد من أربع قوى لإنجاز هذه المراحل .. قوة توقف هذا السقوط المريع وقوة ترفعه إلى السطح أي إلى وضع ما قبل بداية السقوط وقوة تعمل على الوفاق والسلام والإرتضاء بنظام حكم يقبله ويرتضيه الجميع وتلتزم فيه الأقلية برأى الأغلبية وتحترم فية الأغلبية حقوق الأقلية وقوة رابعة وأخيرة تعمل على الاستقرار والتنمية. و هذا في عمر الزمان يحتاح إلى خمسين عاماً تقريباً ، عمر لن يحضره جيلنا ! هذا إذًا تمت المعجزة وتحقق المستحيل ، وإن كنا ننظر إلى إستحالة الأمر وصعوبة المهمة ولا سيما وأن أغلب أهل السودان لا حول لهم ولا قوة ما لم ينتبهوا لأنفسهم ويغيروا ما بها.
كثيراً ما كنا نختلف وتتباين رؤانا ونحن نتساءل عن الكيفية المثلى لحكم السودان. أي نظام للحكم مرتضى للسودان وأهله ؟ التعددية أم الشمولية ؟ هناك من يرى أن طبيعة السودان الجغرافية وتركيبته السكانية تقتضى نظاماً شمولياً يضبط مسار نهج العمل السياسى فيه ويشرف على برامج التنمية ويحميه من الإنهيار ؛ وذلك لعدة أسباب منها:
أن السودان بلد واسع مترامي الأطراف ، يقطنه شعب متعدد الأعراق متنوع الديانات لم يتلق معظمه حظاً من التعليم والمعرفه وأن الممارسة الديمقراطية في هذا البلد القارة تناط بقلة من الناس وهم الصفوة من أهل العلم والزعامة القبلى منها والدينى. أما الغالبية من أهله فهى إما منقادة أو متفرجة. وأن مثل هذه الديمقراطية سوف تكون ناقصة ولن تقود البلاد إلى ممارسة حكم ديمقراطى سليم وإن صدقت النوايا.
الحريات التي تتيحها الممارسة الديمقراطية حين تضاف إليها عوامل أخرى مثل إتساع رقعة البلاد ، تفشى الجهل ، تدنى الاقتصاد مع قسوة الحياة تصير إلى الفوضى أقرب ، إن هي لم تجد الإدارة الضابطة الحازمة في الوقت المناسب.
المعارضة السياسية في ظل وضع كهذا لن تكون بناءة بقدر ما هى هدّامة و ذلك ؛ لمسعاها الذى يتسم بالغيرة والحسد والكيد في سبيل تقويض ما هو قائم من حكم والجلوس على أنقاضه مهما كان الثمن ، وإن لم تستطع فلسان حالها يقول علىّ وعلى أعدائى .
وهناك من يرى أن النظام الشمولي لن يصلح لبلد كالسودان ، لأن:
معظم أهله ، أهل بداوة وترحال يعشقون التنقل والحرية ويأنفون التحكم والتسلط والغطرسة والتعالى. وشعبه متعدد القبائل والبطون والأفخاذح . ترى كل قبيلة وبطن وفخذ أنها الأفضل ذات الجذور الأعمق في ترابه.
النظام الشمولي يقوم على المحاسيب والولاءات الشخصية ، الأمر الذى يقود في النهاية إلى خلق بطانة من المنتفعين والإنتهازيين الذين لا يقيمون وزناً ولا يحفظون عهداً للوطن وهمومه. تنتصب هذه البطانة حاجزاً غليظاً بين الحاكم وشعبه . هذا إذا إفترضنا في الحاكم الشمولي الحس الوطنى والغيرة والصلاح بأنواعه.
النظام الشمولي يصادر الحريات ، يختزل الآخرين وينتهك حقوقهم ويحول البيئة الاجتماعية إلى طبقات : طبقة مستفيدة ومنتفعة وطبقة متضررة ومسحوقة. وضع كهذا لا يقود إلّا للبلبلة والتزمت والتصدع.
ويرى فريق ثالث أن السودان في حاجة إلى نظام حكم تعددى يقبل بنوع من الوصاية. وصاية تحكمه ولا تتحكم فيه. أى أن يكون هناك برلمان منتخب وجهاز تنفيذى منتخب وقضاء مستقل وصحافة حرة تحت ظل مجلس وصاية وطنى على ألّا تتعدى الوصاية مراقبة الأداء وحماية النظام الديمقراطى من الإنقلابات العسكرية والإنهيار.
وكنت أجد نفسى مع من يميلون إلى التعددية ويعتقدون في الديمقراطية الحقة بلا وصاية. وكنت أرى أن الصبر على الممارسة الديمقراطية ليس مطلوباً فحسب ، بل واجب لكيما نعطى الشعب الفترة الزمنية الكافية ليطور أدواته ويمتلكها وذلك بالتعلم من الممارسة نفسها بنجاحاتها وإخفاقاتها وإننى لعلى يقين من أن الممارسة وحدها كفيلة بأن تطور نظام الحكم في بلادنا. ولو كنا صبرنا على الديمقراطية الثالثة (1986م – 1989م) لكنا اليوم فى وضع أفضل.
((ويعتقدون في الديمقراطية الحقة بلا وصاية))؟؟؟
يعني يادكتور سايقنا بالخلا كل هذه الحلقات وشاد معانا تلفزيون كمان لتوصلنا لما أسميته الديمقراطية الموصى عليها؟؟؟
شوف من الآخر الديمقراطية الحقة إما أن تكون حقة أو لا تكون ديمقراطية بمجرد وجود جسم غير البرلمان يقوم بالوصاية على الأداء – أداء كافة أجهزة الدولة التنفيذية والقضائية والعدلية والعسكرية. ثم إن الديمقراطية الحقة هي الديمقراطية المباشرة – أي من غير واسطات سياسية بين الناخب والنائب – أعني الديمقراطية غير الحزبية حيث يرشح النائب نفسه ويتعهد بأنه لا يمثل غير دائرته الجغرافية أو الفئوية وليس أي جهة كانت ومسئول مسئولية كاملة لدى ناخبيه في دائرته قبل البرلمان الذي سيكون عضواً وأنه يفقد هذه العضوية بمجرد طرح الثقة عنه في دائرته – شايف كيف في وصاية دون البرلمان كمان – فكيف انتهيت إلى طلب المزيد من الصبر على الديمقراطية – يعني تعاميت تماماً عن كل ما قيل ويقال عن الدائرة الخبيثة وتجريب المجرب وجاي تقول نعطي الأحزاب فرصة خامسة مع الشمولية المفهومة التي تأتي بعدها كلازمة من لوازمها – فماذا ستقول لنا بعد ذلك؟ إلى متى تتعلمون أيها الناس أم حقاً أنكم لا تعلمون بوجود أنواع أخرى لممارسة الديمقراطية بدون الوصاية عليها؟
؟؟ولو كنا صبرنا على الديمقراطية الثالثة (1986م – 1989م) لكنا اليوم فى وضع أفضل؟؟
لمن هذا الكلام؟ طبعاً الذين لم يصبروا الديمقراطية الثالثة هم الأنجاس وحدهم هم الذين انقلبوا عليها- فهل أنت كوز تتحدث نادماً نيابة عنهم أم من المعني ب(صبرنا)؟
تحليل موضوعي، ومداخلات الآخرين أكثر موضوعية، وبدمج الموضوعين ، نكون – سنه أولى – ديمقراطيين حقا، ومن ثم نخطو الى الأمام.