وطن قيد الإقامة الجبرية (4)
د. السموءل محمد عثمان
سردنا في الحلقة السابقة أن محاولات المحجوب للتوسط بين الملك فيصل والرئيس عبد الناصر بدأت حتى قبل اجتماع الخرطوم . يقول حين تأجل اجتماع وزراء الخارجية العرب في الخرطوم في أب1967. تركتها إلى جدة للتحدث إلى الملك فيصل . ، استقبلنا ولي العهد الأمير خالد بن عبد العزيز والسقاف وآخرون من الموظفين السعوديين والسفير السوداني بجدة ، أخذونا إلى قصر رائع ، ولكن شيئاً شوه جمال القصر نوعا وفوراً ، سلمني سفيرنا الدكتور ياجي مذكرة كانت محتوياتها تجعلني أتخلى عن مهمتي تقريباً ، لقد كانت خلاصتها أن الملك فيصل ليس في حالة نفسية تسمح بالبحث في قضية اليمن .
بعد نصف ساعة زارني زميلي الشاعر عبد الله بن الملك فيصل تبادلنا التحيات ثم قال : ” أرجو أن لا تكون قد حضرت للتحدث إلى أبي في قضية اليمن ” .
أجبت : ” ولم لا ؟ هل ذلك محرمً ؟”.
قال أن والده قد فقد الأمل في اتفاق مع المصريين ” لأنهم لا يحافظون على دورهم في الاتفاق ” .
قلت له :” ياعزيزي عبدالله، لقد تغيرت الأمور، ويمر شعبنا العربي الآن بفترة حاسمة ، أن مصيرنا ومجرد وجودنا وتراثنا وتاريخنا وثقافتنا كلها في خطر ، ثم ناشدته أن يقابل والده ، ويحاول تمهيد السبيل لمهمتي .
حددت الساعة الحادية عشرة صباحاً موعداً لرؤية جلالته ، فأدخلت إلى مكتبه وتركنا وحدنا .
أودً أن أذكر في هذه المناسبة أن الملك فيصل قد هيأه أبوه جلالة المغفور له الملك عبدالعزيز للسلطة والحكم منذ كان في السابعة عشرة من عمره ، وشغل في عهد أبيه ثم أخيه الملك سعود منصبي وزارة الخارجية ورئاسة الوزارة ، وأصبح ملكاً حين تنازل أخوه سعود عن العرش في سنة 1964م .
أن الملك فيصل قائد بكل معنى الكلمة ، له وجه نسر، وشخصية قوية مهيمنة ، وعينان جذابتان .
ركز عينيه الجذابتين في حين فتحت موضوع اليمن، وجدت جلالته تماماً كما وصفه سفيرنا وولده عبد الله ، مصراً على ألاتكون له علاقة بناصر ، بيد أن إشارة واحدة أظهرت لي منفذاً ممكناً ، قال لي : ” ياعزيزي محجوب ، أعرفك جيداً واحترمك كثيراً ، وأرجو أن يكون هذا الشعور متبادلاً : ( الواقع أني عرفته منذ زيارتي الأولى للأمم المتحدة مع وفد جبهة الاستقلال السودانية في سنة 1947)
انتهزت هذه الفرصة وقلت : “طبعاً أعرفك جيداً ، وأكن لجلالتك أعظم الاحترام وفوق ذلك أعرف أنك تتمتع بصفة العربي النبيل الذي حين يجد عدوه جريحاً لايقتله بل يعالج جروحه ثم يعرض عليه أن يختار بين المبارزة والتفاهم ، وناصر اخوك وليس عدوك” .
نظر إلى الملك فيصل لحظة ثم أعطاني ورقة وقلماً كانا على مكتبه ، وسأل :” ماذا تريد ؟ “.
وضعت عناوين اتفاقية وقدمتها إلى جلالته ، قرأ الملاحظات وتأملها ، ثم قال :” أقبل هذا مبدئياً ، لكن من الأفضل أن تبحث فيها مع مستشاري الدكتور رشاد فرعون والسيد السقاف ” .
خرجت ورأيت السيدين في مكتب مجاور ، اقترح السقاف أن نجتمع في مكتبه ، مساء ذلك اليوم ، رجعت إلى دار الضيافة حيث كنت أقيم ، ووضعت مسودة اتفاقية مقترحة ، وفي الساعة الثالثة بعد الظهر حضر لرؤيتي الشيخ كمال أدهم صهر جلالة الملك فيصل وأحد مستشاريه ، فذكرت له الاتفاقية وطلبت تأييده ، فقال أنه سيراني في بيت السقاف في المساء .
حين اجتمعنا في المساء أريت السقاف ورشاد فرعون وكمال ادهم مسودة الاتفاقية النهائية ، قرأها الدكتور فرعون ووضع مسودة أخرى خاصة به ، قرأتها وقلت له: “قد تكون هذه اتفاقيتك ولكن التي اتفقت عليها مع الملك فيصل هي هذه” وأريته الورقة التي كتبت عليها عناوين الاتفاقية المقترحة .
استمرت المناقشات إلى أن أخذني السقاف جانباً وقال لي : “دعنا نأخذ المسودتين إلى جلالته . إني متأكد أنه سيختار مسودتك لأنها تمثل ماوافق عليه ، وأنا أعرف أن جلالته لايرجع أبدأً عن كلمته”.
في الصباح لم أعط وقتاً للتفكير ، جاء صديقي السقاف إلى دار الضيافة وأخبرني “أن جلالته قبل مسودة الدكتور فرعون” .
غضبت وانفجرت قائلاً ” لن تكون لي أي علاقة بهذا، ليتفق جلالته مع الدكتور رشاد فرعون” .
ضحك السقاف وقال “لاتهتم كنت أمازجك فقط، قبل الملك مسودتك هاهي مطبوعة ، احتفظنا بنسختين لك موقع عليها بحسب الأصول ” .
قلت له إني أود أن أرى الملك فيصل ، فحدد موعداً لذلك فوراً ، شكرت جلالته على محافظته على الاتفاقية ، واستأذنت بالسفر .
غادرت جدة بعد ظهر اليوم على بيروت ، وبعد يومين في 23 أب ركبت الطائرة إلى القاهرة ، ومع أنني وصلت في المساء استقبلني في المطار زكريا محي الدين نائب الرئيس ، ومحمود رياض وزير الخارجية ، قلا أن الرئيس ناصر ينتظرني توقفنا فترة قصيرة في قصر الطائرة ، حيث أنزلوني ، ثم ذهبنا ثلاثتنا إلى بيت ناصر ، أريته نسخة الاتفاقية التي توصلت إليها مع الملك فيصل ، فأعرب حالاً عن شكوكه وتحفظاته ، قال لي اذا قبلت هذه ، بدأ أن كل ماعملناه حتى الآن ، سيذهب سدى أن مؤسس أسرة حميد الدين ، الأسرة الحاكمة في اليمن ، هو قاسم الكبير (نحو القرن السابع عشر) وستعود الملكية إلى اليمن ، وتذهب الجمهورية ” .
أجبته : ” آسف ، لكن لا أذكر في صيغة الاتفاق بهذه مع الملك فيصل لأسرة حميد الدين أو الملكية أو الجمهورية ، كل هذه أمور سيترك تحديدها لليمنيين ، بعد شئ من المناقشة اقترحت أن يسمح لي بأخبار الصحف أنه وافق على الاتفاقية مبدئياً أيضاً ، لكن مع بعض التحفظات التي سيبحثها حين يجتمعان هو والملك فيصل خلال مؤتمر القمة في الخرطوم .