مفهوم وآلية الإنجاز في مُخيَّلة العسكر”.. حكم الإنقاذ نموذجاً

بقلم: علي مالك عثمان
(١)
يسود اعتقاد – وهو في ظني خاطئٌ تماماً – وسط قادة الأنظمة العسكرية والسلطوية التي تحكم بلاد العالم الثالث حول مفهوم الإنجاز وطريقة تحقيقه في أرض الواقع. فهم يعتقدون أن الإنجازات التي يفاخرون بها خلال سِنِيْ حكمهم المديدة، وينسبون فضلها لأنفسهم وذواتهم، هي تلك التي تتمثل في إقامة مشاريع البُنىٰ التحتية، مثل الطرق والجسور والسدود، ويعتقدون أن مثل هذه المشاريع كفيلة بإحداث النهضة في مجتمعاتهم ودولهم، وأنها ستغيِّر حياة الناس للأفضل، وستحقق النهضة الإقتصادية المنشودة. وهم في هذا الظن تتلبسهم حالة تقمُّصٍ لثقةٍ شديدة في أنفسهم، تُزيِّن لهم قدرتهم وحدهم على إنجاز تلك المشاريع، وذلك لما عُرِف عن رجال المؤسسة العسكرية من وطنيةٍ وحزمٍ وإنضباطٍ وقدرةٍ فذَّةٍ وسريعةٍ على إتخاذ القرارات وتنفيذها. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف يقومون بفرض وصايتهم على الناس، ويطلبون من الجميع الإبتعاد، والجلوس على مقاعد المشاهدة، وترك العسكر يعملون في هدوء، ودون إزعاجٍ من نقدٍ أو تشكيك في صوابية وجدوىٰ ما يفعلون. ومن لا يتجاوب مع ذلك لابد من إسكاته، وهنا يأتي دور القمع والكبت، المُبَرَّر من قِبَلهم لتحقيق تلك الأهداف السامية!!، لأنها ستَصُبُّ في النهاية لمصلحة كل الناس. لذا لامناص من إنشاء أجهزة الأمن القمعية، ومصادرة حق الناس في التعبير والنقد، وفتح السجون للزجِّ بكل معارضٍ لهذه السياسات، ويبررون ذلك – لأنفسهم قبل الآخرين – بإن هذه الإجراءات مرحلة ضرورية ومؤقتة لتحقيق أهدافهم تلك، لأنه سرعان ما سينسىٰ الناس قسوتها بعد سنواتٍ قليلة، سينزل بعدها الخير العميم، والرخاء الواسع، لذا “صبراً آل ياسر فإن موعدكم الظفْرَ والنصْرَ”، وأنه “لا حلوىٰ من دون نار”…
(٢)
بأخذنا لفترة حكم الإنقاذ كنموذج لإسقاط ما سنذكر، نجد أن ما أوردناه عالياً كان هو بالضبط لسان حال الضابط عمر البشير وهو يتلو بيان إنقلابه الأول صبيحة الجمعة ٣٠ يونيو ١٩٨٩م. فكل الحيْثـِيَّات التي ساقها في بيانه ذاك كالت نقداً شديداً لحكومة الفترة الديمقراطية، ولرئيس وزرائها وقتها السيِّد الصادق المهدي، فقد اتَّهمه حرفياً “بالتردد في المواقف، وكثرة الكلام”، لكأنَّه يريد أن يقول: “أنا لها.. أنا لها..!!”.. أيضاً نلاحظ هذا الوصف ل”مفهوم وآلية الإنجاز في مخيلة العسكر” الذي ذكرناه آنفاً في الطريقة التي كان يمارس بها المقدَّم وقتها يوسف عبدالفتاح، والعقيد طبيب الطيب ابراهيم محمد خير (سيخة)، واجباتهما كنائب لمعتمد الخرطوم (الأول)، ووزير لشؤون مجلس الرئاسة (الثاني)، خلال سنوات الإنقاذ الأولىٰ. فهذا الثنائي كان دائم النشاط والحركة، ولديه سلطات مطلقة في إتخاذ القرارات وتنفيذها في حدود ما منح لهم من مهام. أيضاً يتأكد زعمنا هذا في الطريقة التي كان يمارس بها د. عبدالحليم المتعافي مهامه كوالي لولاية الخرطوم. فقد شهدنا في عهده توسُّعاً كبيراً في رصف الطرق، وإقامة الجسور، وإنارة الشوارع، لكن دون معرفة بماهية الشركات المنفِّذة لتلك المشاريع، أو طريقة رُسُوْ العطاءات التي بموجبها نُفِّذت تلك المشاريع.
(٣)
يمكن تفنيد خطل “مفهوم وآلية الإنجاز في مخيَّلة العسكر”، الذي أوضحناه عالياً، من عدة جوانب:
أولاً: التنمية الحقيقية والنهضة الشاملة بمفهومهما الواسع والكبير تجعل الإنسان محوراً لأهدافها وغاياتها، وبالتالي تجعل هدفها الأسمىٰ هو تحقيق كل ما يؤدي لرَفَاة وسعادة هذا الإنسان، في عقله وبدنه وروحه، مستهدفةً الإرتقاء بصحته وأمنه وسلامته وحريته وتقدُّمه. وبالتالي تحقيق هذه الأهداف لا يكون إلا من خلال إستراتيجية متكاملة تستصحب كل ما ذكرنا، لا تركز على جانب وتترك جوانب أخرى، كما أنها يجب أن تُوضَع بواسطة خبراء، مختلفي التخصصات، وعلى مديات قصيرة ومتوسطة وطويلة. وهذا وحده يحفظ لها الديمومة والاستمرارية.
ثانياً: التنمية الحقيقية تصنعها الشعوب وليست الأنظمة الحاكمة، وهي عملية تراكمية، تُساهم إدارة كل رئيس بحظٍ فيها، وذلك بعد إرساء نظامَ حُكْمٍ فعَّالٍ ومستقر، وبالتالي يُحسَب الإنجاز النهائي لصالح الشعب ككل، ويُقال فقط أن الإنجاز كذا حدث في عهد الرئيس الفلاني، ولكن لا يُقال أنه هو من بناه وشيَّده. عليه فإنَّ المطلوب من الدولة في عملية صنع التنمية في تقديري هو دورها الرقابي والتنظيمي فقط، وأنها يجبُ أن تكونَ حَكَماً عَـدْلاً بين كل فئات الشعب، وأنها فقط توفر الأمن والأمان، وتَكفُلَ حرية التنافس الشريف، لتترك الشعب بعدها هو من يقود التنمية ويحقق المعجزات. هذا هو الفهم الصحيح في نظري لدور الدولة في صناعة التنمية.
(٤)
ثالثاً: لابد من استقرار سياسي نسبي وطويل المدى، لكي تتحقق في ظله هذه التنمية والنهضة. وهذا لابد له من نظام سياسي ينال الرضىٰ والإجماع من السواد الأعظم من الشعب، ويَكفُلَ الحريات، ويقيم دولة القانون والمحاسبة، وذلك لمنع حدوث الأخطاء الكارثية. لذا في تقديري الزمن الذي تستغرقه الشعوب في البحث عن الصيغة المثلى لهذا النظام ليس ترفاً فكرياً، أو جدلاً بيزنطياً، وليس مضيعةً لوقتها أو خَصْماً من تطوُّرِها كما يعتقد العسكر، ولكنه مرحلة ضرورية لابد منها لخلق النظام السياسي الأمثل الذي يقود للاستقرار المنشود الضروري لتحقيق التنمية والنهضة.
رابعاً: العسكر يلجأون لتحقيق إنجازات سريعة في مجال البنىٰ التحتية لأنهم يستبطنون في قرارة إنفسهم فقدانهم للشرعية، ويسعوْن للحصول عليها من خلال خداع السُّذَّج والبسطاء من الناس بمثل كهذا إنجازات مُتَوَهَّمة، على الرغم من بروزها شاخصةً أمام العيون، لأنها سريعاً ما سينكشف زيفها وعدم جدواها، ولكي تحاجج بها أبواقهم الإعلامية المأجورة في إعلامهم أحادي الصوت.
خامساً: قد ينجح العسكر في إقامة مشاريع بنية تحية تضجُّ وسائل إعلامهم بالمفاخرة بها، ولكنهم في الوقت الذي يقومون فيه بذلك تنشأ في المقابل طبقة من الفساد والمفسدين لا تكون باديةً للعيان في أول أمرها، ولا تسترعي إنتباه أحد، ولكنها رويداً رويداً تنمو ككرة الثلج المتدحرجة، سرعان ما ستكبر وتستعصي على العلاج. وهذا كان مُشاهداً بوضوح في عهد الإنقاذ. فالمراقب لتلك الحقبة يستطيع أن يلحظ بجلاء أن كل الإنجازات التي كانت تفاخر بها الإنقاذ، مثل استخراج النفط وإنشاء سد مروي، إنما تم تشييدُها في العشرية الأولى وبداية العشرية الثانية من عمرها، حتى إذا وصلنا للعشرية الثالثة والأخيرة نلحظ عجزاً تاماً على الفعل، لدرجة العجز عن إزالة النفايات من الأحياء، لتنتهي بالعجز الكامل عن توفير السلع الأساسية والضرورية لحياة الناس. وهذا الأمر يمكن تفسيره بما ذكرنا، وهو الحماسة والثقة المفرطة في النفس في البداية، ثم الإنتهاء بتضخم وكِبَر غول ومافيا الفساد، للدرجة التي أصبح فيها هذا الفساد أكبر مهددات بقاء حكم الإنقاذ نفسها. وبالتالي عقلية: “ورووني العدو، وأقعدوا فرَّاجة” هذه التي ردَّدتها الإنقاذ كثيراً في أدبياتها، لن تنتهي بنا إلا إلى قيام مؤسسة الفساد الكبرى، والتي ستصبح لاحقاً مهدداً رئيسياً ليس للنظام الحاكم وحده وإنما لكيان البلد ككل.
(٥)
سادساً: في موازاة قيام العسكر بإنجازاتهم التنموية تلك تحدث الكثير من الأخطاء السياسية القاتلة التي تنعكس بدورها على الوضع الإقتصادي والتنموي في البلاد، مما يقود لتدهور التنمية وإيقاف عجلة النهضة. مثال ذلك إتفاقية نيفاشا التي أضاعت على البلاد إنجاز استخراج النفط الذي طالما تفَاخَرَ أهل الإنقاذ به كإنجازٍ لا مطعنة فيه. وأيضاً أخطاء الإنقاذ السياسية القاتلة في إدارة ملف السلام، والتي أشعلت الحرب في أجزاء أخرى من السودان، كدارفور والنيل الأزرق، لم تكن الحرب مشتعلة فيها أصلاً. هذا فضلاً عن ضياع مؤسسات البلد وتدهور علاقاته الخارجية، وتدمير مشاريعه التي كانت قائمة. وبالمحصلة فإننا نجد، بعد القيام بعملية جرد بسيطة، أن السلبيات والأخطاء الكارثية التي حدثت في عهد الإنقاذ تأثيرها على البلد ككل كان أكبر بكثير من تلك المشاريع التي يعدُّونها إنجازاً.
سابعاً: أيضاً بالنظر للدول التي تبنَّت مفهوم النهضة الشامل – كماليزيا مثلاً – بعد إرسائها لنظام حكم مستقر، كفل الحريات، وأقام دولة القانون والعدل والمحاسبة، نجد أن معدلات التنمية التي حققتها في كل المجالات كانت مرتفعة بنسبٍ كبيرة، وفي فترة زمنية قياسية، مما يُبيِّن أن حصيلة إنجازات الإنقاذ خلال 30 عاماً كانت متواضعة جداً أمامها.
ثامناً: الإنجازات التي تتم في غياب الشفافية والمحاسبة ودولة القانون سريعاً ما سيكتشف الناس زيفها، وعدم مطابقتها للمواصفات القياسية، وعدم جدواها الاقتصادية (مثل كبري توتي، ومصنع سكر النيل الأبيض، وانهيار كبري المنشية، وتصدُّع الكثير من الطرق بعد هطول الأمطار مباشرة، و… إلخ)، وأن الهدف منها كان المفاخرة، والضجَّة الإعلامية، وزيادة الكسب السياسي، وأنها قد أدَّت لزيادة عبء الديون المستحقة على البلد (خُمْس ديون السودان البالغة حوالي 56 مليار دولار مستحقة فقط على سد مروي) وهذا خطرٌ جداً، وقد لاحظنا أن الإنقاذ في أواخر سنواتها عندما عجزت عن سداد ديونها بدأت برهن موانئ ومشاريع كبرىٰ للدول الخارجية الدائنة، وبدأت في منحهم أراضٍ شاسعة لزراعتها، وتغطية حاجتها من المحاصيل التي تريدها تلك الدول، دون أي استفادة تعود على السودان والسودانيين.
تاسعاً: العسكر والأنظمة السلطوية لا ترىٰ في مؤشرات النمو – مثل خفض معدلات الأُميَّة، وخفض نسب الوفيات في الحوامل والأطفال دون سن الخامسة، وصيانة حقوق الإنسان، وغيرها من مؤشرات التنمية البشرية – لا ترىٰ فيها إنجازات يجب العمل على تحقيقها، وذلك للخلل البنيوي الذي أشرنا إليه في مفهومها للتنمية الشاملة، وهذا يؤدي لإنتشار الأمية والجهل والفقر والمرض والتخلُّف في المجتمعات، ويهدم مبدأ قيادة الشعوب لعملية صناعة التنمية التي قررناها آنفاً في صدر هذا المقال. والإنقاذ كانت عندما تُجَابَه بأرقام السودان المتدنية في تلك المؤشرات تسارع بالرد أنها صادرة من جهات استعمارية تستهدف الإسلام والشريعة !!. أيضاً نجد أن هذه التنمية غير المتوازنة تقود لهجرة السكان من الأرياف للمدن، مما يُعطِّل عجلة الإنتاج الحقيقي المتمثل في القطاعين الزراعي والرعوي، ويحوِّل الشعب للإستهلاك بدلاً عن الإنتاج. وقد شاهدنا كل ذلك شاخصاً في عهد الإنقاذ، وشاهدنا كيف تغيَّرت التركيبة السكانية لولاية الخرطوم بفضل النزوح، مما شكَّل تهديداً كبيراً للسلم الأهلي والمجتمعي، وتدهوراً مريعاً في البيئة الحضرية والعمرانية للولاية.
(٦)
خاتمة:
هذه القراءة النقدية هدفت لتعرية مفهوم الإنجاز عند العسكر، وهي في نظري ضرورية لمنع عودة الإنقلابات مرة أخرى، لأن أكبر الذرائع التي يستند عليها العسكر لحظة قيامهم بإنقلابهم هي أن البلد في خطرٍ حقيقي، وعلى وشك الضياع، وأنهم المنقذ والمُخَلِّص، وأن التاريخ لن يسامحهم إذا لم يتحركوا، وأن الأمور بعد إنقلابهم هذا لن تكون كما قبلها، وأن الشعبَ موعودٌ بالمنِّ والسلوىٰ إذا صبر عليهم قليلاً.. وبالتالي فإن هذه القراءة النقدية تستهدف نسف كل تلك الدعاوىٰ، لتصل إلى نَفْيِ أهليتهم وصلاحيتهم للحكم، وذلك لأنهم يمارسون سلطة مُطْلقة ستقود حتماً لمفسدة مُطْلقة.
أيضاً هذه المقالة تريد توجيه رسالة للجميع مفادُها أنه ما لم يتمكَّن الشعب من إرساءِ نظامَ حكمٍ ديمقراطي مستقر، يَرضىٰ به غالب الشعب، ويحقق العدالة والمساواة بين جميع أبناءه، ويحفظ الحريات، ويصون كرامة الناس، ويضمنُ تبادلاً سلمياً وسلساً للسلطة، ويؤسس لدولة القانون والمحاسبة والشفافية، فلا ينتظرنَّ أحدٌ تنميةً ولا نهضةً ولا يحزنون، وإن تحقَّق شيءٌ منهما في غير نظامٍ كالذي وصفنا، فلن يكون ذلك إلا سرابٌ بقيعةٍ، يحسبه الظمآن ماءاً، سرعان ما ستنكشف حقيقته وينجلي زيفه.. والسلام.
علي مالك عثمان
[email protected]