على ذمة أبي جمال اليعقوبابي2

على ذمة أبي جمال اليعقوبابي2
الدكتور نائِل اليعقوبابي
إلى:
أستاذي المبدع دوماً سيف الدين خواجة..
لأنه لمس قلبي!

*(الغرور علامة على الذل
أكثر منه على الكبرياء..).
– جوناثان سويفت-
.. ذكرتْ كتب الأدب قصة طويلة طريفة حدثتْ إبان موسم الحج في (عكاظ) قرب مكة وخلاصة هذه القصة أن النابغة الذبياني كانت تُضْرَبُ له قبة من أَدَمٍ في عكاظ فيأتيه الشعراء فينشدونه شعرهم ويحكم بينهم.‏
فَمَرةً جاءه الشاعر “الأعشى” فأنشد شيئاً من شعره، ثم أنشده الشاعر حَسَّان:‏
إذا اسْتَدْبَرَتْنا الشمسُ دَرَّتْ مُتُونُنا كأنَّ عُروقَ الجوفِ ينضحنَ عَنْدَما‏
نُسَوِّدُ ذا المالِ القليلِ إذا بدتْ مُروءَتُهُ فينا، وإن كانَ مُعْدِما‏
وإنا لَنَقري الَّضيفَ إنْ جاء طارقاً مِنَ الشحمِ ما أمسى صَحيحاً مُسَلِّما‏
لنا الجَفَناتُ الغُرُّ يلمعنَ بالضُّحى وَأسيافُنا يقطُرْنَ مِن نجدةٍ دَما‏
أبى فعلُنا المعروفَ أن نَنطقَ الخَنَا وقائلُنا بالعرفِ إلا تكلّما‏
***‏
ثم أنشدت الشاعرة الخنساء النابغة الذي قال لها: لولا إنشاد الشاعر الأعشى قَبْلَكِ لكنتُ فضَّلْتُكِ على شعراء هذا الموسم….‏
فغضب حسان لتفضيل الخنساء عليه فقالت له: لقد أضعفتَ فخرك في ثمانية مواضع:‏
قلتَ: لنا الجَفَناتُ، والجفنات مادونَ العَشر، فقللتَ العدد، ولو قلتَ: الجِفان لَكان أكثر، وقلتَ: الغرّ، والغُرَّةُ البياض في الجبهة، ولو قلتَ: البيض لكان أكثر اتساعاً، وقلتَ يلمَعْنَ، واللمعان شيء يُومِضُ بعد شيء، ولو قلتَ: يَشرقْنَ لكان أكثر، لأن الإشراق أَدومُ من اللمعان، وقلت: بالضحى، ولو قلت بالدُّجى لكان أبلغ، لأنّ الضَّيف أكثرُ طروقاً بالليل. وقلتَ: أسيافَنا، والأسياف دون العشرة ولو قلتَ “سيوف” لكان أكثر، وقلتَ: يقطرنَ فدللتَ على قلّة القتل، ولو قلت: يجرين لكان أكثر انصباباً للدماء، وقلت دماً، والدماء أكثر من الدم…‏
قال المجنون قال العقلاء:-
تذاكر جماعةٌ في قول مجنون بني عامر:‏
“أصلّي، فلا أدري إذا ما ذكرتها‏
اثنتين صلّيتُ العشا أم ثمانيا؟”‏
ما الذي جعل المجنون يحصر توهُّمَ خطئه بين ركعتين وثماني ركعات؟‏
قال أستاذ مادة موسيقا الشعر: كان الشاعر مضطّراً لـ”اثنتين” و”ثمانيا”، ليستقيم الوزن، وتتّسق القافية، وما كان له مندوحة عنهما.‏
قال أستاذ مادة الرياضيات: صلاة العشاء أربع ركعات، وقد أخطأ الشاعر بينها وبين نصفها وضعفها، فخطؤه جزء من سلسلة حسابيّة.. وفي البيت حسٌّ رياضيٌّ واضح، تأتي ملاحظته في داخل حالة من التوّهم والاختلاط لتزيد من العمق الشعري للبيت، فالنقيض هنا مبثوث في قلب نقيضه، عنيت الرياضيات في الجنون.. وليس بغريب على الرياضيات أن تدخل في الشعر، ألم يقل النابغة الذبيانيّ:‏
“قالت ألا ليت ما هذا الحمامَ لنا‏
إلى حمامتنا ونصفه فقدِ‏
فحسّبوه، فألفوه كما حَسَبت‏
تسعاً وتسعين لم تنقص، ولم تزدِ‏
فكمّلت مائةً فيها حمامتها‏
وأسرعت حسبةً في ذلك العددِ”‏
ففي هذه الأبيات معادلة رياضيّة من الدرجة الأولى: س+ 1/2 س+ 1= 100 وحلّها بسيط : س= 66‏
قال تراثيٌّ محقّق: قرأت البيت في أحد مصادره، وفيه (الضحى) بدلاً من (العشا)، وعلى ذلك فالخطأ بين اثنتين وثماني ركعات، وهو أدعى إلى الإحساس بشدّة الاختلاط، إذا ما انتفت الأربع من بين الاثنتين والثماني. أما أبيات النابغة فقد وردت في موضع من موضعين في معلقته أشار طه حسين في كتابه (في الأدب الجاهلي) إلى الانتحال فيهما.‏
وتُذكِّر أبياتُ النابغة بما يروونه عن زرقاء اليمامة، وهي امرأة من بقية طسم وجديس كانت توصف بحدّة النظر، وكان لها قطاة، فمرّ بها سرب من قطا بين جبلين، فقالت:‏
ليت الحمام ليه إلى حمامتيه‏
ونصفه قديه تمّ الحمام ميه‏
فنظروا، فإذا هي ست وستون. وهذا وأمثاله من أفاعيل الرواة.‏
قال محلل نفسانيّ: الشاعر؛ على وجه العموم؛ قريب الترجيع، فما بالك إذا كان مجنوناً.. وعندي أن صاحبنا حسب على أصابع يديه، فحين طوى إصبعين منها لم يبق أمام عينيه إلا ما تبقّى، وهو ثماني أصابع، فكان مجال تردّده في خلطه محصوراً بهذين الرقمين، ولو حسب على أصابع يديه ورجليه لما استطاع أن يقول:‏
“أصلّي فلا أدري إذا ما ذكرتها‏
أثنتين أم من بعد عشر ثمانيا؟”.‏
قال الفقيه: واضح أنّ في البيت زمنين: زمن الصلاة، وزمنا يليه، يكون فيه التذكّر والتوهُّم.. والمعوّل عليه ما يكون في الزمن الأول الذي اكتفى الشاعر بذكر أنه يصلّي فيه، ولا يعوّل على ما جاء بعد من توهُّم، فصلاة قيس صحيحة.‏
قال المتكلّم: الأمر وراء الشعر والفقه والرياضيّات. فحين قال الشاعر “أصلّي، فلا أدري” وضع نفسه في شبهة (اللا أدريّة)، فالأمر عقيديّ قبل أن يكون أيّ شيء آخر.‏
قال العاشق: يا الله. هذا إذا ذكرها، فكيف إذا رآها؟!‏
سمع الصوفي كلام العاشق فأُغمي عليه.‏
جزاء سِنِّمار:-
يُروى عن سنمار وجزائه والنعمان وبِنائه، أن (يزدجرد) كان لا يعيش له ولد، فسأل عن منزل صحي صحيح الأدواء، فدل على ظهر الحيرة، فدفع ابنه “بهرام” إلى النعمان وأمره أن يبني “الخورنق” مسكناً له ولابنه وينزله معه، وأمره بإخراجه إلى بوادي العرب فعثر على سنمار لبناء القصر، فلما فرغ سنمار من تشييد القصر عجبوا من حُسْنِهِ وإتقان عمله، ثم أُمِرَ به فَطُرِحَ من أعلى الجوسق ومات، فقالت الشعراء في ذلك أشعاراً كثيرة.. وشاع القول منذ ذلك الحين: (هذا جزاء سنمار): أي مقابلة الخير العظيم بالنكران والهلاك؟!..‏
الخليفة الرشيد ومعلمه:‏-
أقام الرشيد مأدبةً دعا إليها كبار رجال الدولة، فلما تناول الضيوف أطايب الطعام نهض الجميع إلى الأباريق فغسلوا أياديهم ثم عادوا إلى مجالسهم إلا شيخاً هرماً كان يتجاذب الخليفة والإبريق، حتى أقسم عليه بأن يسمح له بخدمته، فوقف الخليفة بجوار الشيخ باحترام، وانحنى بأدب ليصب له الماء إلى أن انتهى من غسل يديه، فعجب المدعوون لهذا الموقف النبيل وتساءلوا بينهم، فمن قائل قال: لِمَ أقدم الخليفة على هذا العمل؟ قال الآخر: أظن الشيخ مؤدب الخليفة. وانتهى إليهم صوت الشيخ، فقطع تساؤلاتهم وهو يخاطب الرشيد: ما كنت لأَمنعَ الكبير في كبره أمراً عَلَّمتُ الصغير فِعْلَهُ في صِغَرِه.‏
الحقيقة العارية:-‏
قال التلاميذ يوماً لأستاذهم الحكيم: مالنا نراك تقول لنا الحقيقة في قصة رمزية؟.. فتطلع الأستاذ إلى تلاميذه مبتسماً وقال: إن الحقيقة كانت في زمن غابر تجوب البقاع، تحيا بين الناس عارية دون قناع، بسيطة دون زخرف، مَنْ يراها يدركها تَوَّاً فيشيح بوجهه عنها خوفاً أو خجلاً… وهكذا كانت الحقيقة تعيش بائسة حزينة، لم تستطع أن تتخذ لها من بين البشر صديقاً. وكانت تسير مُطرِقة مُثقلة بالهموم، فقابلت الرمز في الطريق يخطر نشوان بلباسه القشيب والسعادة تملأ بُرْدَيْهِ، ونظر إليها الرمز فَراعَهُ حالُها وسألها عمَّا بها، فقالت له: إن الناس يُعادونني دون سبب وأتقرب منهم فيهربون مني حتى أصبحتُ أُؤمن أنني غايةٌ في الدمامة… لا يا سيدتي، إن الناسَ لا يكرهونك لأنك دميمة بل لأنك عارية؟! وهأنذا أُعيركَ ملابسي الجميلة فالبسيها وسيري بين الناس وسنرى ما يكون مِن أمرهم!.. ولبست الحقيقة ثياب الرمز الجميلة وسارت تختال بها بين الناس، فوقفوا ينظرون إليها مُعجبين وأخذوا يتوددون إليها وينشدون صداقتها وابتسم الأستاذ ثم نظر إلى تلاميذه وقال: إن الناس يا أبنائي يكروهن الحقيقة عارية ويرحبون بها مُقَنَّعَة.. ولهذا أُوْرِدُ لكم دوماً الحقيقة في قالب رمزي.‏
خلود المكتبة:-
كان (مسكويه) مديراً لمكتبة (ابن العميد) الوزير المعروف، وحدث أن ثار العامة على الوزير ونهبوا داره، فلما عاد إليها بعد ذلك لم يَجدْ فيها شيئاً يجلس عليه ولا كوباً يشرب منه، ولكنه وجد خزائن المكتبة لم تقربها يدُ سوء، فسَرَّى عنه الحزن وقال لابن مسكويه: أشهد أنك ميمونُ النقيبة، فإن لنا عوضاً عما كانت تحويه خزائن المال والجوهر… أما الكتب فلا يوجد ما يُعَوضها.‏
القاضي المحبوب:-‏
مات قاضٍ مشهور بحكمته وعدله حتى أحبه الناس حباً جماً.. أرسل مُريدوه والمعجبون به باقاتٍ كثيرة من الزهر وُضِعَتْ حول نعشه، وجاء شيخ، ليُحُيِّي الفقيد القاضي مُودِّعاً، فَلَقِيَهُ ابنه وقال: انظر يا عم إلى هذه الأزهار الغضة التي بعث بها أصدقاء أبي! فقال الشيخ: لقد قضى أبوك أيام حياته يبذر البذور التي أَنْبَتَتْ هذه الأزهار!!..‏
في مواجهة الصعاب:-
سُئِلَ أحد الأبطال عن سر قدرته على مُواجهة الصعاب فأجاب قائلاً: هل شاهدت حَجَّاراً وهو يكسر الأحجار؟ إنه يظل يضرب الصخر في مطرقته، عشرات المرات دون أن يبدوَ فيها أيُّ أثر يُبَشِّرُ بِكسر أو فلق… وفجأة ربما في المرة الأولى بعد المئة ينشطر الصخر شطرين، ولكن ليس بالضرورة أن تكون الضربة الأخيرة هي التي حققت هذه النتيجة، بل المئة التي سبقتها؟!..‏
اجتماع:-
اجتمع العلم والثروة والتعاسة والشرف في مكان، وقبل المغادرة قال العلم: مَنْ يطلبني يجدني في المدرسة، وقالت الثروة: أما أنا ففي ذلك القصر المنيف، وقالت التعاسة: أما أنا ففي ذلك الكوخ الحقير، أما الشرف فبقي ساكناً، فقال له الآخرون: نحن الآن سنفترق فأين نجدك؟.. قال الشرف: أما أنا فَمَنْ يبرحني فلن يجتمع بي مرة أُخرى.‏
رثاء العمالقة:-
قال (طه حسين) في رثاء العقاد: (أمثالك تموت أجسامهم لأن الموت حق على الأحياء جميعاً ولكن ذكرهم لا يموت لأنهم فرضوا أنفسهم على الزمان وعلى الناس فرضاً وسيُوارى شخصك الكريم في أطباق الثرى ولكن القبر الذي سيحتوي جسمك لن يستأثر بك، فَلَكَ في قلوب الذين يحبونك والذين ينتفعون بأدبك وعلمك ذِكْرٌ لن يموت، ولكنهم لن يستأثروا بذكرك وإنما ستشاركهم فيه الأجيال التي تبقى بقاء الدهر.‏
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..