مهرجانات المريسة

عبد الرؤوف فضل الله

في ثديها الأيسر ترقد أغنية ناعسة لطفل لم تستوي صرخته بعد، وعند رشفة الحليب الأولى يبدو ضاحكاً، هازماً للجوع، مستشفّاً للحياة من طعم حنين اللبن.
كانت أداو أم ساقين تصنع لحظتها عند الغروب الأخير للشمس، تحت راكوبتها المسقوفة بعرق الداخلين إليها والخارجين للتو من نشوتهم.. وكان كوال شول، طويلاً كالحنين، متجاوزاً كالنهر، لكنه نسى أو تناسى عهده لي باتخاذ الكوب الأخير، في جلسة الوداع الأخير للشمس، على راحة الفرش الممدود على أرض الراكوبة أن يكون الكوب موضع رهان..!
تراهنّا أنا وكوال شول أن يظل كوب الماء متخذاً وضع الوقوف إذا غربت الشمس، وكان كوال شول يرى أن هذه الشمس لن تغرب أبداً!! لذلك نظفت أداو أم ساقين راكوبتها جيداً للرهان، ثم استوت مضطجعة على عنقريب حديث الحياكة بالحبل البلاستيكي ولكنه بالٍ، تترقب حضور المتراهنين، المشجعين، العابرين بالراكوبة وقت الرهان، السُّكارى، العطالى، والذين لا جهة لهم، وكانت المريسة تملأ حيزاً معقولاً من جوف البرميل البلاستيكي، والذي شرب منه كوال شول، وشربت أنا، شرب قور، شرب عابر، ثم عابر آخر، وتلاهما عابرون.
آه يا شمس الله الملقية على سطح نهار غبران، كُفّي عن جدك في وقت حضور الروح، وإشراق الأعين، هيا اغربي منسية خلف حقول البرسيم الشتوية، هذا أنا.. قبل أن تغرب الشمس.. وغربت شمس!!
وكان الكمبو، يمور بأنفاس الناس، تتهادى نشوته كلما هطل رزاز، أنفاس، تتبع أنفاس.. ولذلك كان حرّي بكل من قور وكوال شول أن ينتهزا الفرصة ويبدآن بمطاردة أداو أم ساقين.. فالنشوة تسبقها شهوة… كان الرهان هنا أن الأطول صبراً على بلع لحم (الشرموط) سيرقد مع أداو أم ساقين، لكن الطفل صرخ، وتناول جرعة من حليب الأم المسكينة… كيف لأم تبقى جائزة لطويل صبر!!
.. كيف؟
شربنا المريسة كلها في كشحة كأس، وكان الكوب لا يزال معلقاً في خيط بطولته، إذا مال.. إذا مال يميناً فزت أنا.. وإذا مال يساراً فاز كوال شول، وكل منّا يمنّي نفسه بالفوز العظيم، عقب ميلان كامل من حافة الكوب.
خارج الراكوبة، يرقد كلب مسؤول عن الحراسة، وخلف الكلب يرقد قط يرقب حركة ذيل الكلب… وخلف القط هنالك فأر صعلوك، وهذا الفأر تحديداً هو ما كان يرسم معنى الخوف الكبير في قلب كوال شول، وذلك عندما كان يرقد مع أداو أم ساقين، وكنت أنا وقور نكاد نتميز غيظاً من فوز كوال شول بليلته تلك مع الحسناء أداو أم ساقين، لحظتها نط الفأر على فراش المتعة منهياً أجمل لحظات مرت على الراكوبة التي تقع أقصى شرق الكمبو، وتحدها حقول البرسيم الشتوية من كل جانب.
صنعت لنا أداو أم ساقين وجبة فطورنا التي تتكون من كبد الماعز، أمعاء الضأن المذبوح بليل، لسان الثور الثغاء،….. و(أم فت فت)، قمت بتقطيع البصل إلى دوائر محسوبة، اعتصر كوال الليمونة.. قالت (احييي)
قلت.. أنا حيّ على الفلاح..
قال قور .. حيتكم الملائكة في عودتها من المشاركة في دفن شهداء كجبار..!!
والطفل صرخ، عاود صرخته تلك والتي تعتريه كلما حاول فك أزرار قميص أداو أم ساقين، ومحاولاً البحث عن الثدي الأيسر ليرضع، وتقول أمه عنه.. أن هذا الطفل يعرف جيداً أين أخبيء الحليب الطاعم منه!!
آه يا ملاك الهبباي.. لماذا طعنت الوردة في حمرتها؟؟
في اليوم التالي أصبحت أداو أم ساقين بحالة نفسية سيئة، وكان قور قد فاز في الليلة السابقة برهان ميلان الكوب المملوء بالمريسة، لكن أداو أم ساقين رفضت أن تهبه جسدها، فأصبح هو أيضاً بحالة نفسية سيئة، وأنا أيضاً أصبحت بحالة نفسية سيئة، إلا أن الشخص الوحيد الذي أصبح مسروراً هو كوال شول لأنه تأكد من أن أداو أم ساقين له وحده.
في الخارج نشبت مشكلة كبيرة في حقول البرسيم الشتوية أقصى شرق الكمبو، وذلك أن صاحب الحقول وجد أن كلب الحراسة الخاص بالراكوبة قد تبرز وسط حقل من حقول البرسيم الشتوية..
حسناً…
الآن يقف صاحب حقول البرسيم الشتوية يحمل عكازاً، وخلفه أبناء عمومته ويحملون عكاكيزهم أيضاً، وينوون قتل كلب الحراسة.. وتقف أداو أم ساقين بينهم وبين كلب حراسة الراكوبة حائلة لهم من قتله، ويقف قور بعيداً يرقب مجريات الأحداث وفي فمه ابتسامة ماكرة وبعض السعادة، ويقف كوال شول بعيداً يتبول واقفاً خلف صخرة وبدون إبريق، واقف أنا متهيئٌ لكتابة تقرير للشرطة…
وقبل أن يهوي الرجل صاحب حقول البرسيم الشتوية بعكازه على رأس كلب حراسة الراكوبة، التفتنا لنرى أن الطفل الرضيع يمشي على قدميه ويبحث عن أمه..
هنا ضاعت علامة الرهبة وارتسمت على وجوهنا ابتسامة دهشة، وجهي أنا، وجه كوال شول، وجه قور، ووجه أداو أم ساقين، ووجوه أبناء عمومة الرجل صاحب حقول البرسيم الشتوية.. عندما حمل الطفل الرضيع حجراً ورمى به وجه الرجل صاحب حقول البرسيم الشتوية.. ففقأ عينه..
حمل أبناء عمومة الرجل صاحب حقول البرسيم الشتوية على حمار كان ينهق ساعة أن فُقئت عين الرجل صاحب الحقول.. وبعد أن حضرت الشرطة سلمتها تقريراً مزوراً عن مشكلة الكمبو الوراني البعيد.. وكان الضابط المناوب ينظر في عينيّ خجلاً، ربما لحضور الدورية متأخرة شيئاً ما.. هنا قمنا بحمل الطفل الرضيع، وطفنا به أرجاء الكمبو الوراني البعيد، واعتبرناه بطلاً قومياً وأقمنا مهرجاناً للمريسة على شرف النصر الكبير الذي حققه ذلك الطفل، وتداخلت في المهرجان حالات شتى بتعبيرات أدق من المشاعر المتبادلة، حيث تصالح قور وكوال شول بنظرات تشيء بالرضا والتسامح، شربا على إثرها نخباً من المريسة، وأنا اضع كتفي على ورك أداو أم ساقين التي بدأت تتغنى بأغنية حزينة، ثم أردفتها بأغنية راقصة من تراث الزاندي وعلى إيقاع (الجركانة) الخفيف والتي كانت تعزف عليها، امتلأت الراكوبة بالطرب، أرسلت لنا حقول البرسيم الشتوية نسيماً بارداً، غنت خلفها طيور (ود أبرق)، جدول الماء الذي يسقي الحقول إنساب مرحاً وكأنه يردد مع أداو أم ساقين أغنيتها، وصار المهرجان حفياً بالمكان عندما حضر بعض الأعراب ومن على ظهور حميرهم تتشابى أعينهم إلى داخل الراكوبة في طرب بديع مع صوت أداو أم ساقين…
وفي ختام المهرجان عاد الصفاء إلى نفوس الأصدقاء الثلاثة وحبيبتهم وبعد أن فرغ البرميل البلاستيكي من المريسة توجهت أداو أم ساقين إلي آنية الطبخ لتعد وجبة الغداء، يتبعها طفلها، وتركت بعض الأعراب يتآنسون مع الأصدقاء الثلاثة…
في الحقيقة أنا وقور شخصية واحدة، وكوال شول هو صديقي الأوحد، إلا أن الراوي هنا فرّق بيننا لشيء في نفسه، أو ربما كثرة وتعدد الشخصيات في قصته يعيد إليه علاقة الحب القديمة التي تربطه بـ أداو أم ساقين … فكثرة العشاق تجعل الحبيب الأول محل احتفاء دائم…
إلى أداو في فردوسها…

تعليق واحد

  1. روعة الأسلوب وسلاسته تشير إلى أن شمعة الإبداع ما زالت متقدة بعد إذ ظننا أنها خمدت مع موت كل شيء فينا حتى رغيف الخبز

  2. روعة الأسلوب وسلاسته تشير إلى أن شمعة الإبداع ما زالت متقدة بعد إذ ظننا أنها خمدت مع موت كل شيء فينا حتى رغيف الخبز

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..