مقالات وآراء

الحاج مالكوم إكس والسودان

“مالكوم إكس والسوداني” هو فلم وثائقي صدر حديثا وانضاف إلى عشرات الافلام التي انتجت عن حياة ونهاية الناشطالداعية والمناضل الكبير مالكوم إكس. كما يمثل محطة أخرى من المحطات التي ربطت قدر ذلك الإنسان الاستثنائي بالسودان. و” السوداني” الذي يرد في عنوان الفلم هو أيضا إنسان استثنائي آخر شاءت الأقدار ان تضعه في طريق مالكوم إكس وأثر فيه تأثيرا أدى إلى تغير جذري في مساره حياته ومسار دعوته، جعلته يتحول من داعية يركز نضاله من أجل حقوق السود في أمريكا وفقا لمبادئ حركة ” أمة الإسلام” القائمة على طهارة الجنس الأسود وجعل الرجل الأبيض مقابلا للشيطان نفسه وعلى سيادة الإسلام على انه دين الرجل الأسود إلى مسلم سني معتدل يحارب العنصرية أينما كان ومن أي عرق أتت بعد رحلة للحج نظمها صديقها السوداني غيرت مسار حياته رأى فيها أن لا مكان لسيادة عرق على آخر والجميع سواسية أمام الله.
كيف تقابل أحمد عثمان السوداني والحاج مالك شاباز وهو الاسم الذي أطلقه مالكوم إكس على نفسه بعد اعتناقه الإسلام وحج البيت. أحمد صديق عثمان مواطن سوداني نوبي من اقصى قرية في شمال السودان غدت معروفة الآن بعد أن صارت معبرا بريا لدخول مصر من السودان وهي قرية أرقين. قدر لهذا الشاب النوبي الذي كان في المدرسة الثانوية في مطلع الستينات ان يفوز في مسابقة جريدة الهيرالدتربيون للشباب وجائزتها السفر لمدة قصيرة إلى أمريكا وكان ذلك أيام الحرب الباردة والمعونة الأمريكية والحديث عن تهجير أهالي النوبة. فاز أحمد بتلك الجائرة وسافر إلى أمريكا وأكمل تعليمه الثانوي ثم عاد إلى السودان ليلتحق بكلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم التي قضى بها عاما واحدا ولم يستمر لأن فيروس السفر كان قد أصابه كشأن الكثير من أهله النوبيين الذين خبروا السفر إلى الأقاصي البعيدة قبل غيرهم من السودانيين. تقدم أحمد لمنحة فلبرايت فقبل في جامعتين، وفضل جامعة بورتماوث لأنها كانت تشترط على الطالب المقبول أن يبقى لمدة عام في إحدى الأسر من قدامى الخريجين مما أتاح له فرص التعرف على المجتمع الأمريكي عن كثب.
يحكي الفلم الوثائقي قصة الصداقة – التي نشأت بمحض الصدفة بين الرجلين – والأقدار التي ربطت مالكوم إكس بالسودان. تتبعت الباحثة إميلي أوديل التي تعمل أستاذا مساعدا بجامعة السلطان قابوس في عمان وتكتب في كبرى الصحف الأمريكية حياة مالكوم وخطواته في إفريقيا ومن ذلك رحلته إلى السودان كداعية لمنظمة أمة الإسلام في عام 1959، التي قادته أيضا إلى غانا ونيجيريا. تقول إميلي أوديل “إن لقاء مالكوم إكس واحتكاكه بالطلاب والأساتذة والقادة الدينين السودانيين في بيروت والسودان وامريكا ساعده في إعادة صياغة مفاهيمه عن العرق وعن الدين كما اتاحت له لقاء معظم القادة التقدميين في ذلك الوقت”.
ويحكي أحمد عثمان في الفلم عن لقائه الأول بمالكوم إكس قائلا ” في منتصف عام 1963، كنت في زيارة لبعض أصدقائي في بعثة السودان في نيويورك وبينما كنا نتجول في حي هارلم مررنا من أمام المعبد المحمدي رقم 7، فقلت لهم: هذا هو المسجد الذي يلقي فيه مالكوم إكس خطبه، دعونا ندخل لنرى ماذا يحدث. وبالفعل كان مالكوم يخطب بحماس شديد ويلحق كل رذائل الدنيا بالرجل الأبيض، وعندما فتح باب النقاش رفع أحمد يده وسأل مالكوم إكس طالبا من أن يبين له أي سورة في القرآن تقول بأن أليجا محمد زعيم منظمة أمة الإسلام هو نبي، وأي سورة تقول بأن الرجل الأبيض هو الشيطان؟ كان أسئلته شيئا ناشزا في ذلك الحشد من الأنصار والمؤيدين وهمهم بعضهم استنكارا، ولكن مالكوم إكس هدأهم وحاول الإجابة على الأسئلة الحرجة، وفي ذلك يقول أحمد عثمان أنه قد خرج من ذلك المكان و”أنا منبهر بمالكوم إكس وسعة صدره ولكني لم أكن مقتنعا بإجابته على الأسئلة” وتبادلا الرسائل من بعد، وأهدى أحمد عثمان كتبا عن الإسلام لمالكوم من المركز الثقافي في جنيف وعرفه بمدير المركزالإسلامي في نيويورك الذي دعاه لزيارة الأراضي المقدسة في رحلة حج تاريخية تولى أحمد عثمان كل تفاصيلها.
لم يكن معظم المسلمين في أمريكا يوافقون على طرح “امة الإسلام” الديني السياسي ولكنهم لم يكونوا يعبرون عن ذلك خشية إعطاء وقود لأعداء الإسلام. وكان أول اعتراض يتعرض له مالكوم ليس المواجهة مع احمد عثمان التي ذكرنا ولكن كانت أول مواجهة مع طالب سودانيي آخر سبقتها بأشهر قلائل في جامعة بنسلفانيا وكان اسم ذلك الطالب”حيدر هواري” قال لمالكوم أنه يجد صعوبة في أن يعتبر أن “أمة الإسلام” تنتمي فعلا إلى الإسلام.! وردعليه مالكوم في جريدة محلية ردا عنيفا قال فيه “انه لا يصدق أن يكون حيدر مسلما من السودان” وانه “لا يستبعد أن يكون زنجيا أمريكيا من الذين غسل دماغهم بطول المكث مع الأمريكان المسيحيين البيض” وكان مالكوم إكس قد عبر عن إعجاب شديد باهل السودان وإسلامهم عند زيارته للسودان عام 1959 حيث استضافته مدرسة الأحفاد للبنات وتعرف فيها على مالك بدري الذي ونشأت بينهما صداقة وقد زاره في زيارته إلى بيروت بعد أداء الحج عام 1964 ونظم له مالك بدري لقاء في دا الجالية السودانية في بيروت أمه عدد كبير من الناس كان من بينهم عميد الجامعة الأمريكية في بيروت التي كان يدرّس فيها مالك بدري والذي رفض ان يكون اللقاء في إحدى قاعات الجامعة الامريكية لان مالكوم في نظره كان من أعداء أمريكا كما يصنف في داخل أمريكا.
تشاء الأقدار من جديد ان تضع في طريق الحاج مالك شاباز سودانيا آخر أثر في تشكيل حياته وأفكاره وهو الشيخ أحمد حسون وهو شيخ سلفي كان زعيما لجماعة أنصار السنة المحمدية في السودان ثم انتقل إلى مكة وظل يدرس الشريعة لمدة ثلاثين عاما وقد استفادت رابطة العالم الإسلامي من معرفته الجيدة باللغة الإنكليزيةحيث كان يعمل موظفا في مصلحة البريد قبل استقلال السودان. عين الشيخ أحمد حسون مرشدا دينيا للحاج مالك بأمر من الأمير فيصل بن عبد العزيز باقتراح من الشيخ الصبان الذي صارلاحقا امينا عاما لرابطة العالم الإسلامي وقد تعلق مالكوم بالشيخ الصبان أكثر من غيره من العلماء العرب والسعوديين ربما لأنه كان سعوديا من السود. ولقد انتقل الشيخ حسون للعمل مرشدا دينيا مبعوثا من رابطة العالم الإسلامي في نيويورك حيث توطدت صلته بمالكوم وزاد تأثيره عليه، وقد أسر له يوما “إني لأعجب أنني كنت داعية إسلاميا ولم أكن أعرف كيف أصلي عندما كنت ناشطا في منظمة أمة الإسلام” ولقد قدر للشيخ حسون ان يكون هو من غسل جثمان مالكوم عندما اغتيل وجهزه وإن لم يصلي عليه لأنه كان قد اختفى بعد ان نصحوه بأن جهاز الإف بي آي ينوي اعتقاله.
يقول صاحب فكرة الفلم هشام عايدي أنه قد تعرف على بطل الفلم “أحمد عثمان” بمحض الصدفة ذلك أنه كان قد دعي بوصفه صاحب مشروع بحثي عن التأثيرات الخارجية في حياه مالكوم إكس للمشاركة في الذكرى الخمسين لوفاة مالكوم إكس فتصادف ان جاوره في المنصة شخص يسمى “عثمان” وبعد الفعالية سأله إن كان هو عثمان المذكور في سيرة مالكوم إكس التي أعدها أليكس هيلي بالاشتراك مع مالكوم، وعندما رد عليه بالإيجاب، سأله هل أنت حي؟ وضحكا وولدت فكرة الفلم في تلك اللحظة. يقول هشام عايدي لأنه لم تكن له درايةبصناعة الأفلام فقد عهد بذلك لسيدة عالمة أنثربولوجيا ومخرجة أفلام هي السيدة صوفي شراغو. طول الفلم حوالي 30 دقيقة ويقوم على السرد الحي من أحمد عثمان مع فلاش باك من السيرة المعروفة لمالكوم إكس وتتخلله موسيقى بالعود لمرسيل خليفة. الفلم أعد لأغراض غير تجارية ويمكن مشاهدته وتحميله مجانا. بقي أن نشير إلى أن السيد أحمد عثمان هو حاليا في أواخر السبعينات من عمره ولقد اشتهر بالتواضع على الرغم من نبوغه وتميزه فبعد ان اكمل الدراسة الثانوية في أمريكا عاد ليدرس في جامعة الخرطوم لمدة عام ثم حصل على منحة كما رأينا وحصل على بكالريوس الاقتصاد من الدرجة الأولى من جامعة بورتماوث التي أهلته للالتحاق لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة هارفارد في السبعينيات، ولنيل زمالة ما بعد الدكتوراه من جامعة هارفارد في الثمانينيات ولقد أكمل كل هذه الدراسات ممنوحا لتفوقه في كل درجة جلس لها، ولقد ظل هذا التفوق مطردا منذ أن نال جائزة التفوق منذ المرحلة الثانوية. وعمل محاضرا في جامعة هارفارد وخبير تنمية في البنك الدولي وغيره من المؤسسات الدولية والخاصة.

د. أسامه عثمان – إيطاليا
[email protected]
.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..