خيرُ جليسٍ في الزمان راديو

نشأت علاقتي الحميمة مع الاذاعة منذ سني طفولتي الاولى . فكان الصندوق الخشبي الذي يحوي جهاز الراديو اول اكتشاف لي في هذه الدنيا , حيث بهرني وشدني اليه , بل استفز عقلي الصغير وانا استمع مشدوها الى الاصوات البشرية المنبعثة من جوفه . وتزداد صدمتي الحضارية وتشتد حيرتي ودهشتي عندما التفت حولي فلا ارى اثرا لبشر و اظل اقلبه ذات اليمين وذات الشمال في همة ونشاط عليّ اجد خيطا يقطع الشك باليقين فتبوء كل محاولاتي بالفشل الذريع , ويبلغ بي الجهد مبلغا استسلم على اثره الى نومة عميقة وبين احضاني جهاز الراديو وفي نفسي اشياء عدة من هذا الطلسم العجيب .
ثم يمضي بي الزمان ويكبر عقلي قليلا , فتغدو افكار الماضي ضربا من السذاجة ومدعاة للضحك والتفكه . ثم تتوطد علاقتي مع اذاعة ام درمان العريقة وتصبح استاذي الاول قبل ان التمس خطاي الى المدرسة الابتدائية , واظل اترقب بصبر نافد وشوق عارم برنامج ركن الاطفال صباح كل جمعة مع العم مختار مستمتعا بالحكاوى والطرائف المثيرة والاناشيد التربوية الهادفة التي تركت اثرها العظيم في نفسي حتي هذه اللحظة .
وفي الفصل الاخير من المرحلة الابتدائية تنظم لنا ادارة المدرسة زيارة الى مقر اذاعة ام درمان . فإذا بالتاريخ يعيد نفسه لكن بصورة مغايرة هذه المرة ؛ حيث اتمكن من الولوج الى جوف الاذاعة بلحمي ودمي والتجول في احشائها قسما قسما و ان ارى بأم عيني البشر الذين كنت اسمعهم ولا اراهم , ويتحقق حلم طفولتي الاولى ويصير حقيقة ماثلة امامي .
كان موضوع الانشاء التحريري بعد تلكم الزيارة التاريخية , بعنوان : زيارة اذاعة ام درمان . واذكر انني لم اجد كثير عناء في رسم تلك الزيارة بالكلمات , رغم ذخيرتي اللغوية المتواضعة بحكم المرحلة الدراسية . فوُفقت في رد بعضٍ من الجميل الذي طالما طوقتني به اذاعتي الحبيبة . فاجتهدت وكتبت ووصفت وقلت ما لم يقله مالك في ام الكبائر ? حسب تعليق مدرس اللغة العربية انذاك ? فكانت مكافأتي على ذلك (الشغل) تصفيق حار من زملاء صفي ونظرة اعجاب وتشجيع من مدرس اللغة العربية , اصبحت حافزا لي استعين به واتوكأ عليه كلما امتشقت قلما اغوص به في دنيا الكلمة الرشيقة المعبرة .
مرت السنون وانتقلت الى المرحلة المتوسطة ثم الثانوية , ولم تزل علاقتي بالاذاعة مؤطرة ومعطرة , فنالت اعجابي برامج جديدة كنت خلالها كما الفراشة متنقلا من برنامج الى آخر . فتكونت لدي ثقافة خاصة صاغت وجداني وهذبته ايما تهذيب واكتسبت ملكة حسن الاستماع وفن الاصغاء واحترام الرأي الآخر , اضافة الى الاستفادة من تجارب الغير .
كان فضولي يدفعني للاستماع الى الاذاعات الاُخَر خارج حدود الوطن مثل اذاعة البي بي سي العملاقة وصوت العرب و مونت كارلو وصوت المانيا وغيرها الا أن حبي لم يكن الا للحبيب الاول اذاعة ام درمان العريقة , فكانت وما زالت عبارة : هنا ام درمان الدافئة الحنون مفتاحا من حرير يلج بواسطته المذيعون الى قلوب ملايين المستمعين في السودان وخارجه دونما استئذان وتتنزل بردا وسلاما على افئدتهم وآذانهم المرهفة والمتعطشة دوما لكل جميل .
ورغم توجس الغيورين على اذاعة ام درمان من ظهور ( البكاسي ) الجديدة من اذاعات اف ام في السودان الا أن اذاعة ام درمان ستظل ( دفارا ) قويا يصارع الاجيال و ( تٌقّابة ) نار الثقافة السودانية التي لن تنطفئ بإذن الله تعالى وكل عام واذاعة ام درمان بألف خير وعقبال تطفي الشمعة المية .
[email][email protected][/email]
الأستاذ / مالك أبو أديب رمضان كريم .يا لها من ذكريات اذاعية مذياعية أمدرمانية . الاذاعة السودانية في عهدها الذهبي الذي ذكرت كانت بالنسبة لنا قاطني الأقاليم البعيدة في غرب البلاد وجنوبها مثلا – كانت بمثابة الحبل السري للتعرف بالمركز ثقافة ومعلومة، خبرا وغناءا وسياسة. بالطبع لم يكن بامكاننا زيارة دار الاذاعة كما كنتم تفعلون _ أبناء أم درمان، ولكننا كنا أطفالا نسأل الكبار عن الكيفية التي ينبعث بها الصوت من ذلك الصندوق السحري العجيب، الأمر الذي أظنه أفحم الكثير من الأباء في حينه. الاذاعة أسهمت كثيرا في رفد الريف بالمفردة السودانية الأمدرمانية خاصة من خلال الدراما الاذاعية، فأنت كما تعلم ، الكثير من قاطني الأطراف النائية كانوا يتحدثون بلغات غير العربية أغلب ساعات اليوم (جبال النوبة، الجنوب، الانقسنا) ولكن مسرح الفاضل سعيد رحمه الله ، مثلا ، كان يجبرك لتعلم المزيد من المفردات العربية لاستيعابه والاستمتاع به اذاعيا. شكرا لك فقد أعدتنا الى سبعينيات القرن المنصرم وزدتنا ألما على ألم ولكنه ألم مستطاب. صحيت وطاب يومك أبو أديب.
لكل منا ذكرياته مع إذاعة أم درمان وقد مضى علي زمان كنت أترصد أخطاء المذيعين من باب الفكاهة وقد قمت وبعض الأصدقاء بتكوين جمعية محدودة العضوية لهذا الأمر في مطلع السبعينات من القرن الماضي. غير أن من أطرف ذكرياتي مع إذاعة أم درمان هي أنها كانت تمثل بالنسبة لي الساعة التي أضبط بها توقيت الذهاب لمدرسة كسلا الأميرية الوسطى في نهاية الحمسينات وبداية الستينات ، فكنت إذا ما سمعت شعار برنامج صباح الخير وهو لحن مميز في موقع جغرافي معين أعرف أنني سوف أتعرض للجلد بالبسطونة في ذلك اليوم فاجتهد في حث الخطي والجري أحيانا بالرغم من المتقلات التي أحملها والمتمثلة في شنطة الكتب وعمود الفطور….
نسال الله أن يمد في عمر إذاعتنا القومية فقد كانت في زمان مضى واحداً من أهم ترسيخ فكرة القومية السودانية بالرغم من انحيازها لأم درمان حيث المقر مع الشكر للابن مالك