حالة اشتياه – الحلقة الأولى

حالة اشتباه
الحلقة الأولى

1
عند منتصف الليل تماماً تم اعتقالنا, أنا وصديقي, العائدان من رحلة شاقة, زاد مشقتها اعتلائنا لظهر شاحنة رفض قائدها أن يمدد مشواره حتى مدخل المدينة, فأنزلنا عند بداية الطريق البعيد عن المدخل. بالرغم من توسلاتنا, أحالنا للصمت والبرد والظلام والطريق الموحش, ومضى.
حملنا متاعنا القليل، وأجسادنا المنهكة, وبدأنا المسير, أملين أن تدركنا سيارة ما، فتُغنينا عن تكبد المشاق.
ماهي إلا بضعة كيلو مترات قطعناها في صمت، إلا من صفير الريح، ونقيق الضفادع, ووقع أقدامنا التي بالكاد تحملنا, حتى لاحت أضواء سيارة من خلفنا, فوقفنا بجانب الطريق نلوح للقادمين, ولم يخب ظننا. توقفت السيارة قليلاً إلى الأمام، فهرعنا ناحيتها، وقبل أن نصل إليها، فُتح بابها الأمامي وأطل منه شخص لم نتبين ملامحه جيداً. حين اقتربنا، أوقفنا بإشارة من يده:
– من وين ياشباب؟
بلهفة وعجلة، وأنفاس مبهورة، وكلمات مبتورة، وجمل متداخلة, حكينا قصتنا. ساد الصمت برهة, قطعه الشخص الآخر من داخل السيارة:
– يارقيب عثمان، ديل الظاهر عليهم حرامية
لحظتها, وتزامناً مع وقع المفاجأة, وإدراكنا أن هؤلاء الأشخاص من رجال الشرطة، استبشرنا خيراً. أقله سنكون في حماية الأمن, أو هكذا ظننا. الرقيب عثمان لم يعقب على ملاحظة زميله, والتي بدورنا تغاضينا عنها. تفحَصَنا الرقيب ملياً، ثم طلب منا أن نعتلي صندوق السيارة. بآخر رمق فينا ركبنا, رمينا أجسادنا المرهقة على أرضية السيارة الصلبة، وتوسد كل منا ذراعه، وأغمضنا أعيننا نحلم بالوصول إلى بيوتنا. نغتسل من وعثاء السفر, ونشبع جوعنا للأكل والنوم. في رقدتنا تلك, داعبت خيالنا صورة الأسرّة في ساحة الدار, وأغطيتها التي يحركها نسيم خفيف, وكم تكون باردة في هذا الوقت من الليل. فتحتضن أجسادنا التعبة، وتسلمنا لنوم عميق0
تحركت السيارة. حتى هذه اللحظة التي نحن فيها الآن، لا أدري ماذا دار بين الرقيب عثمان وزميله في مقدمة السيارة، الذي أعلمه وأخرس ألسنتنا وأرجفنا رعباً، أن السيارة حين توقفت, كنا داخل مركز الشرطة.
2

أمرنا الرقيب عثمان بالنزول، فنزلنا. والخوف يكبل خطواتنا, مشينا خلفه، فأدخلنا مكتباً به طاولة ممتدة من الجدار إلى الجدار، يقبع خلفها شرطي آخر، وأمامه دفتر ضخم. اقترب الرقيب عثمان من الشرطي الجالس خلف الطاولة، وهمس له بشيء ما وهو يشير نحونا. تجادلا طويلاً, يبدو أنهما اختلفا, إذ سمعنا الرجل الآخر يقول للرقيب أنه لا يستطيع, لا يستطيع ماذا ؟ الله أعلم:
– خلاص نتنظر الضابط المناوب
قالها الرقيب بصوت مسموع, ثم أردف وهو ينظر نحونا:
– انتو خليكم هنا
ثم تركنا الرقيب عثمان مع الرجل الآخر، وانصرف0
أصابنا القلق والتوجس، إذ لا نعلم لماذا بالأصل نحن هنا, وماهي التهمة الموجهة لنا. تشجعنا وسألنا الرجل القابع خلف الطاولة, تأملنا الرجل برهة, أغلق دفتره، وتقدم نحونا، وقف قبالتنا يتفرس فينا. بعد لحظة صمت، خاطبنا بصوت رقيق:
– يبدو أنكم أولاد ناس, إلا أن هيئتكم تبعث على الشك
حقيقة لم ننتبه إلى ذلك, وحقيقة أن من يرانا في هذا المكان، لا يخالجه الشك بتاتاً، في أننا من المجرمين، بالنظر إلى ملابسنا المتسخة، ووجوهنا، ونظراتنا الخالية من التعبير، وأجسامنا المغبرة. فصديقي بشعر رأسه المنكوش، الممتلئ بالغبار، كمن خرج لتوه من معركة حامية, وهو الذي كان يفاخر بهندامه، وتسريحة شعره المميزة. ثم جلبابه الذي كان ابيضاً، الآن هو بلا لون محدد, تقطعت أزراره, وبانت من تحته الملابس الداخلية كأقذر ما يكون. وأنا لا أقل عنه اتساخاً وقذارة. أضف إلى ذلك أن علامات التعب والإرهاق والخوف والقلق، كست ملامحنا بؤساً وكآبة لا تخطئهما عين.
وهو يقدم لنا كوبا من الماء، قال الرجل:
– على أية حال الرقيب عثمان يقول أنه يشتبه بكم
– يشتبه فينا ؟ كيف؟ ولماذا؟
قلناها بصوت واحد
– لا أعرف, الرقيب عثمان يظن أنكم هاربون من مكان آخر، وتريدون الاختباء هنا
قالها الرجل بصوت يغلفه عدم الاقتناع, ثم تابع حديثه وهو يدلف خلف الطاولة:
– أنا رفضت أعمل ليكم محضر، كما طلب مني الرقيب عثمان, ماذا أكتب ؟ لا توجد ضدكم تهمة محددة, على أية حال، ننتظر الضابط المناوب وما سيقرره بشأنكم
لفنا الصمت, نسينا جوعنا وعطشنا وحاجتنا للنوم, وبتنا نتقلب على جمر الانتظار.
وجاء ( الضابط المناوب). علمنا بقدومه قبل أن يدخل علينا، فأصوات خبط الأرجل على الأرض، وصيحات:
– تمام يا فندم
كانت كافية للإعلان عن مقدمه0

يتبع

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..