الصحة والأمراض في السودان القديم من خلال دراسة المعثورات الأثرية

بروفيسور عبدالرحيم محمد خبير
عميد كلية الدراسات العليا بجامعة بحري
مقدمة:
سطر هذا الموضوع تلبية لدعوة ورشة علمية بعنوان “الصحة والمرض في مملكة سنار” تندرج ضمن مشروع سنار عاصمة للثقافة الإسلامية للعام 2017م.وتجدر الإشارة الى أن صاحب فكرة هذا الملتقى العلمي المزمع عقده بالمؤسسة السودانية للتراث الطبي (الخميس 16/4/2015م) هو البروفيسور أحمد الصافي الطبيب والباحث المعروف والأستاذ بكلية الخرطوم للعلوم الطبية. ويشارك في هذه الورشة باحثون في تخصصات الطب والآثار وعلوم المكتبات من عدة جامعات (الخرطوم،بحري وكلية الخرطوم للعلوم الطبية).
ويلزم التنويه إلى أن مواضيع هذه الورشة متنوعة تشمل التاريخ الإجتماعي لمملكة سنار الإسلامية،جغرافية الصحة والمرض في العالم القديم،العادات والتقاليد التي تؤثر في في الصحة،ببلوغرافيا الدراسات الأثرية التي تؤثر في الصحة والمرض ،كتابات الرحالة والمكتشفين القدامى،علاوة على إيضاح دور علم الآثار في تتبع الصحة والمرض في السودان القديم.
وما يورده كاتب هذه الأسطر ملامح عامة تشكل جزءً من ورقة علمية موسعة ستقدم للورشة العلمية المذكورة.وتهدف هذه الفذلكة التاريخية تنوير القارئ العام والمتخصص بموضوع الصحة والأمراض في السودان القديم بغية تبيان دور علم الآثار(الآركيولوجي) في تنمية الوعي بالأهمية المعرفية(العلمية والثقافية) للأمراض القديمة.
إهتم علماء الآثار بالصحة والأمراض منذ بواكير العمل الآثاري منذ نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر وظهر ما عرف بعلم الأمراض القديمة (Paleopathology). وهو العلم الذي يهتم بدراسة الأمراض القديمة وتاريخها. ويدخل هذا العلم في كثير من التخصصات الأخرى مثل علم الآثار والعلوم الطبيعية وغيرها.
ويهتم علم الباليوباثولوجي بشكل أساسي بدراسة الأمراض التي تؤثر على الهياكل العظمية للإنسان القديم لأن العظم هو أكبر مصدر للمعلومات والبيانات الخاصة بالأمراض القديمة. ويعتمد علم الأمراض القديمة على رصد الأنسجة الصلبة، كالعظام، والأسنان، والأنسجة، ويستعمل التحليل المجهري والإشعاعي للتشخيص. وبذا يمكن دراسة أمراض الأفراد ومن ثم صحة المجموعة ككل.
أهداف علم الأمراض القديمة ? الباليوباثولوجي:
تتلخص هذه الأهداف في الآتي:
أ. تشخيص تأثير أمراض معينة في البقايا الإنسانية الأثرية.
ب. تحليل وتفسير مختلف الأمراض للمجموعات السكانية في مختلف العصور والأمكنة.
ت. تصنيف التفاعلات التطورية بين الإنسان والأمراض.
ث. تمدنا البقايا البيولوجية للسكان القدماء بمعلومات عن العديد من الأسئلة الخاصة بالجوانب الفيزيقية والثقافية بعلم الأجناس.
ظل علماء الآثار لسنوات عديدة لايأبهون لبقايا الهياكل العظمية الإنسانية والحيوانية التي يعثرون عليها في الحفريات الأثرية ويركزون كل إهتمامهم على المعثورات الحضارية. ولم يدر بخلدهم أن هذه المواد البيولوجية (بقايا عظمية إنسانية وحيوانية)، تمدنا بمعلومات ذات قيمة لا تقدر بثمن تعيينا ليس فقط على معرفة الكائنات البيولوجية بل أيضاً لتفسير العديد من التغيرات الحضارية التي أثرت على هذه الموجودات الحضارية مركز إهتمامهم الأساسي .
وبالإمكان دراسة الأمراض القديمة من خلال بعض المناهج منها النقوش والكتابات الصخرية، سيما وأن الإنسان حاول التعبير عن مشاكله وأحواله بأساليب عديدة وعكس لنا أسلوب حياته وما أصابه من أمراض عن طريق النحت والرسومات الصخرية في عصور ما قبل التاريخ. ومن خلال التنقيبات الآثارية بإمكاننا مشاهدة العظام التي قد يظهر فيها آثار كسور أو التهابات أو تشوهات وإختلفت المعلومات الطبية عند الشعوب بإختلاف التجارب، وتنوع البيئات والأمراض.
? الصحة والأمراض في السودان القديم:
كشفت التنقيبات الآثارية معلومات ثّرة عن أوضاع الصحة والأمراض في السودان منذ آجال موغلة في القدم. ونورد أدناه نماذجاً لبعض الأمراض التي كانت سائدة في السودان القديم خلال أحقاب حضارية متلاحقة.
موجزعن أنواع الأمراض في السودان القديم:
1. مملكة كوش الأولى – كرمة (2500- 1500 ق. م):
وهي تمثل أول دولة في السودان القديم وأفريقيا جنوب الصحراء الكبري.
? الأمراض البكتيرية (السل): عثر على مثالين للإصابة بالسل خلال فترة كرمة القديمة (2500 ? 2050 ق. م) (Welsby 2001: 494 ).
? الأمراض الأيضية (الأنيميا): ظهرت علامة هذا المرض على العديد من الأفراد الراشدين في فترتي كرمة القديمة (2500- 2025 ق. ) والوسطى (2050 ? 1750 ق. م) على شكل ثقوب في الجمجمة مطابقة لحالة الأنيميا المكتسبة (هادية 2002: 45).
? الأمراض الصناعية (الكسور): إنتشرت أمراض الكسور في فترتي كرمة القديمة والوسطى أكثر من أي فترة أخرى مما جعل بعض الدارسين يميل إلي رأي مفاده أن العنف في هذه الفترة قد إذداد بصورة أكثر من أي فترة أخري.
? أمراض الأسنان: وتمثلت في الضعف الشديد على مينا الأسنان لدي الكثير من الأفراد (100 هيكلاً) وهو ناتج عن إضطرابات التكوين وإرتبط بمشاكل التغذية والأمراض مثل التسوس والخراج وجذور الأسنان بجانب التكلس وإلتهاب اللثة بدرجة كبيرة مما يبرر وجود الخراج كعامل أساسي لها ( أحمد الحاكم وشارلس بونيه 1997: 103 -104).
2. مملكة مروي (900 ق. م ? 350 م):
وهي ثمثل مملكة كوش الثانية. وإمتدت في بعض فترات التاريخ لتحكم وادي النيل وطراً. ونورد أدناه نماذجاً للأمراض التي كانت سائدة في هذه المملكة:
? الأمراض البكتيرية (السل): وجدت حالات للإصابة بمرض السل في موقعي عكاشة ومسيمينا بأقصى شمال السودان ولكنها كانت قليلة (هادية 2002: 39).
? التشوهات الخلقية: عثر على زوائد عظمية في السلسلة الفقرية لبعض الأفراد في موقع قباتي الذي يقع في الطريق بين البجراوية وعطبرة (Filer 2002: 13-20).
? الأمراض الصناعية (كسور العظام): وجدت العديد من الأدلة على كسور العظام في المواقع المروية. ففي موقع عمارة غرب والكوة بشمال البلاد أشارت التحاليل إلي كسور عظمية كانت نتاج حوادث مختلفة وليست نتاج عنف بدني أو معارك حربية (نيل سبنسر وآخرون 2014: 58).
3. عصر المماليك المسيحية (543 -1504م):
? الأمراض البكتيرية (السل): إنتشر هذا المرض في العديد من مستوطنات المماليك المسيحية وبخاصة موقع فرس (مملكة نوباتيا) بأقصى شمال السودان مما يشي بأحوال إقتصادية وصحية سيئة للغاية (هادية 2002: 60).
? الأمراض الصناعية (كسور العظام): أمراض المفاصل وتكسرالزوائد العظمية والناتج عن الإصابة بارتفاق المفاصل في المجموعات المروية وصلت نسبة الإصابة فيه إلي 8% في الفترة المروية وفي فترة ما بعد مروي إرتفعت النسبة إلي 10.3% (هادية 2004: 56).
? أمراض أخرى (الأورام): تم التعرف في هذه الفترة على حالتين فقط لبداية ورم في الجمجمة لبعض الأفراد (Strouhal 1998: 7).
الأوضاع الصحية في السودان القديم: نماذج مختارة من مملكة مروي:
لم ترفدنا الأدبيات الأثرية بصورة متكاملة عن الأوضاع الصحية في السودان القديم منذ آجال موغلة في القدم لقلة الدراسات العلمية في هذا المجال. وسنورد أدناه نماذجاً للأوضاع الصحية التي كانت سائدة في عهد مملكة كوش الثانية (مروي، 900 ق. م- 350م) من خلال التقارير العلمية للحفريات الآثارية لمستوطنتي الكوة جنوب الشلال الثالث “وعمارة غرب” شماله.
الأوضاع الصحية لسكان الكوة:
تم حفر ما يقرب عن (70) شخصاً من الجبانة الشرقية لمدينة الكوة المروية. ومن الجلي أنهم عاشوا بالمدينة خلال القرون الأولى الميلادية. هؤلاء الذين تم إكتشافهم يعطون أمثلة للفئات العمرية للسكان من الأطفال وحتى البالغين. ومن خلال التحاليل التي أجريت على الهياكل تبين أن نسبة الأطفال أو البالغين تصل إلي الربع، والآخرون يبدو أنهم توفوا ما بين 20 إلي 50 سنة والقليل منهم وصلوا حتى سن الكهولة.
لوحظ أن الإصابة بكسور العظام لدي العديد من البالغين. ولا تظهر الهياكل أي أثر للعنف. وإرتبطت هذه الكسور الدائرية الشكل بالجبين والجزء الأعلى من الجمجمة وربما هي نتيجة للنشاط اليومي أو بسبب عنف شخصي.
وإنتشرت أمراض المفاصل لدي العديد من البالغين. كما ظهرت أمراض الصحة مثل الأورام الحميدة للسحايا وتسمي السحائية. ومعظم هذه السحائية حميدة وليست مهددة للحياة. ويبدو أن الحياة لم تكن سهلة لهم. فبعض الأفراد عانوا من فقر الحمية وسوء التغذية. وأظهرت الأسنان في العديد من الهياكل علامات التفتت مما يشير إلي أن السكر غالباً ما يكون من الفواكة. وتم التعرف على حالات الإصابة بالجيوب الأنفية أعلى الأسنان (ولسبي وطوني 2014: 33-34).
الأوضاع الصحية لسكان عمارة غرب:
أبانت دراسة الهياكل العظمية لـ (250) فرداً من سكان عمارة غرب أن المنية قد وافتهم قبل بلوغ سن الـ 35 عاماً. ويوضح ذلك أن البيئة المحيطة بهم لم تكن صحية البتة. ولم يعرف على وجه الدقة سبب تلك الوفيات المبكرة. غير أن قرب “عمارة غرب” بالقرب من شاطئ النيل يجعل تعرض سكانها لأوبئة مثل البلهارسيا والملاريا هو الأكثر إحتمالاً. كما وأن التواجد القريب من الحيوانات ? في المنازل والممرات والحقول ? كان له أثر كبير في تسهيل إنتشار الأمراض مثل الدرن وأنواع كثيرة من الحمى، وهناك حالات عديدة عن أمراض الجهاز التنفسي وحالة نادرة لمرض السرطان (نيل سبنسر وآخرون 2014: 59،66،105-106).
خاتمة:
مما تم إيراده آنفاً، يتضح لنا أن الأوضاع الصحية في السودان القديم كانت سيئة للغاية. فقد إنتشرت أمراض عديد بسبب سوء الأحوال البيئية. وقد أدي ذلك إلي إرتفاع في نسبة الوفيات للأفراد في سنوات مبكرة لا تتعدى العقد الثالث في كثير من الأحيان
قائمة المراجع:
? أحمد محمد علي الحاكم وشارلس بونيه 1997م. كرمة مملكة النوبة، دار الخرطوم للطباعة، الخرطوم.
? نيل سبنسر وآخرون 2014م. مدينة عمارة غرب، منشورات المتحف البريطاني، لندن.
? هادية محمد شوقي 2002م. الطب والأمراض القديمة في مصر والسودان في الفترات التاريخية. بحث تخرج، غير منشور، قسم الآثار، جامعة الخرطوم.
? درك ولسبي ودانيال طوني 2014م. مدينة جماتون الفرعونية والكوشية (ترجمة مرتضي بشارة محمد). منشورات المتحف البريطاني، لندن.
? Filler,J.2002.Rescue Excavation in the Gabati Cemetry?? In: Uncovering Ancient Sudan(edited by D.welsby and Vivian Davies) :16-26. London.
? Miller,E. et al 1996: Accuracy in drybone diagnosis: Comment on Paleopathology International Journal of Osteo-archaeology6:221-229
? Strouhal,E.1998.? A contribution to Anthropology and Paleopathology of the Batn Elhagar region.? Cahier de recherché de Lille .No.17/3:1-7.
? Welsby, D.2001. Life on the Desert Edge Vo1-11. London
المقصورة الأثرية-النقعة مملكة مروي
كسور ملتئمة لعظمة الساق-موقع الكوة مملكة مروي
عظام الجزء العلوي من جسد شاب ملئ بثقوب سرطانية-موقع عمارة غرب مملكة مروي
[email][email protected][/email]
أولاً نعالج الموجود … سأل مرة البروفسير عبد الله الطيب عن ظاهرة فنية إسمها وردي (ربنا يرحمهما) فرد البروف بأنه لم يسمع بها وعندما سأل وردي بأن البروف لم يسمع به قال ضاحكاً له الحق لأنه مازال يعيش في العصر الجاهلي (يقصد إهتمامه) لذلك أغضل نبدأ بسياسة بسمارك الداخلية قبل الخارجية