إبطال مفعول الحجارة كسلاح

فيروز عمر

* في جامعة كاسل الإلمانية لخصت مشروعي الفني في إلباس الحجارة الملقاة على الطّرقات بالقماشة، شريطة أن تكون كسوة الحجر من قماشة الملبوسات المستعملة الّتي حملت عطر إنسان ما وعرقه.

* رسالتي كفنانة، ومؤهلة، إلى حدٍ معقول، أن أدفع الظلم والعدوان، وأحرِّض على طرح اللاعنف بين البشر، وأؤمن، تمامًا، أن جل ما يستحقه الإنسان، من أخيه الإنسان، أن يبسط له يد السلم، وإن عظم جرمه، حيث لا يستحق أن نرجمه بغير السماح والعفو، خصوصًا أن الرّجم هو فعل سلبي للجماعة تجاه فرد واحد. وطوبى لصانعي السلام في الأرض.

* جاء مشروعي ليوضح اهتمامي بالربط الذكوري المحكم الذي تمّ بين (الحجر، الرّجم، المرأة)

* في مرحلة ما اعتمدت الخياطة كعملية تأتي ضمن تدوير النفايات وبدت روحي مقتنعة أن الخياطة هي إعادة إلتئام لأشياء من الضروري أن تكون ملتئمة.

قبل عشر سنوات من الآن، انتابتني بكية عميقة سالت فيها دموعي؛ لا علاقة لهذه البكية بالمشاعر الإنسانية الناتجة عن الإحساس بالظلم والضيم، ولا علاقة لها، أيضًا، بكوني أنثى تربّت في مجتمع يتفنّن في طرق قهرها ومحو شخصيتها! كنتُ وقتها طالبة في مجال التّشكيل بالمدرسة العليا للفنون بجامعة كاسل الإلمانية، وكان يتعين عليّ أن أقدِّم مشروع تشكيلي تحت إشراف البروفيسورة المهيبة، دوروتي فون فيندهايم (Dorothe Von Windheim)، ولم يكن من السّهولة أن أقف أمامها لتقديم المشروع المقنع، نظرًا للمشكلات التّي يواجهها الطّلاب أمثالي، المنحدرين من أفريقيا، أو غير أفريقيا، طالما هم غير أوربيين. أشدّ هذه المشكلات فداحة هو التّنميط الذي يدرج أعمالهم ضمن (الفنأفريقانية) بتشعباتها المفهومية المختلفة(1) ويؤطر أعمالهم بوصفها أعمالاً تندرج ضمن الفن الأفريقي فقط، وليست عقلانية بالضرورة.. صممت مشروعي التّشكيلي ليكون بسيطًا من حيث الخامة المستخدمة، وعميقًا في الوقت نفسه، وأرجو ألا تحمل عبارتي لتصفني بأنني أضع هوة كبيرة بين البساطة والعمق.. ونويت أن يكون العنوان العريض الابتدائي لمشروعي هو “إبطال مفعول الحجارة كسلاح”، وربما اختصرت لي قصة هابيل وقابيل الدينية الطريق، وجعلت رؤيتي المناهضة لقيمة الحجر كسلاح ممكنة.

سأقوم خلال مشروعي الذي قدّمته في الجامعة بلف وإلباس الحجارة الملقاة على الطّرقات، شريطة أن تكون كسوة الحجر من قماشة الملبوسات المستعملة، الّتي حملت عطر إنسان ما وعرقه، بل كانت بمثابة جلده بطريقة ما، لتتحقق، تمامًا، قيمة المشاركة في تحويل دلالات الحجارة.. في ذلك اليوم، أعدت القاعة، وتقدمت أمام الطّلاب وعرضت الفكرة، وعقب الفراغ من الشرح، رجوت، من داخل نفسي، أن تكون فكرتي مقنعة.

يا للمفاجاة! بادرت البروفيسورة دوروتي فون فيندهايم وكانت أوّل من قطعت من بلوزتها القطنية قطعة كبيرة وناولتي إياها، وسط دهشة الحضور الذين فوجئوا! لحظتها بكيت وسالت دموعي!

هنا أنا مدينة للفنان التشكيلي الدكتور حسن موسى الذي كتب، لاحقًا، في موقع (سودان فور أول) الشهير يقول: “… لكن فيروز لا تكتفي بمعالجة عواقب العنف الذي يطال بناتها، لأن طموحها يلهمها معالجة الحجارة وتحويلها من مقام سلاح الرجم لمقام الأثر الجمالي المسالم.. وهذا يتجسد في عملها المدهش المكون من خمسمئة واثنين حجرا اختارتها فيروز وغلفتها بالأقمشة المستعملة الملونة وخاطتها بعناية”… ولن تشرق شمس اليوم الذي تنتهي فيه تشكراتي للدكتور حسن إلى نهاية وتقيف.

لا أدري كيفية شرح الطّريقة التّي واتتني بها فكرة استخدام الملبوسات القديمة المستعملة، إلى جانب المواد الأخرى، وتوظيفها في منحوتاتي ومجسماتي؛ لذلك سأطلب، بعد قليل، مساعدة المرأة المجنونة (مكلية) التّي كانت تهيم في شوارع مدينة عطبرة، حيث ولدت أنا ونشأت هناك مثلما نشأت وعاشت هي. كانت مكلية تنقِّب، اليوم كله بلا كلل، في مكبّات النفايات المفتعلة، وتتحرك من مكبِّ إلى مكب.. وهكذا كنت أنا، ولكن على طريقتي الخاصة، ربما وعيت لاحقًا أنني كنت اختزن سلوك واهتمام مكلية، لذلك، حملت اسمها في وسط عائلتي، منذ طفولتي، ولم أعد فيروز، إنما مكلية، بل حتى الآن، أنا مكلية بكل ما لها من صفات بالنسبة لأمي! لكن قبل أن أطلب مساعدة مكلية، ينبغي ألا أنسى تنبيهكم إلى أنني كنت في مشروعي مهمومة بالربط الذكوري المحكم الذي تمّ بين (الحجر، الرّجم، المرأة)، هل قلت الرّبط الذكوري؟ نعم، الرّبط الذكوري الذي أسس له منذ القرون الوسطى، حيث كان يتم حرق المرأة بوصفها ساحرة، وفي ذلك حرب اجتماعية في تجلٍ من تجليات الحرب المكتومة، أو هي مباراة بلا هدف مقنع، كتب لها أن تكون سرمدية.

الشاهد أن الرّجم كعقوبة، أداتها الحجارة، ترجع إلى أساطير وخرافات هيرودوت وأوديب في الحضارة اليونانية، حيث حكم على أوديب بالرجم، وذلك عندما كُشف أمره وهو يتعلم كيفية قتل أبيه… وقد ورد الرّجم، لاحقًا، في التّوراة كعقوبة في حق الزاني والزانية، جاء في التوراة: (-20- وَلكِنْ إِنْ كَانَ هذَا الأَمْرُ صَحِيحًا، لَمْ تُوجَدْ عُذْرَةٌ لِلْفَتَاةِ ? ‏21- يُخْرِجُونَ الْفَتَاةَ إِلَى بَابِ بَيْتِ أَبِيهَا، وَيَرْجُمُهَا رِجَالُ مَدِينَتِهَا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى تَمُوتَ، لأَنَّهَا عَمِلَتْ قَبَاحَةً فِي إِسْرَائِيلَ بِزِنَاهَا فِي بَيْتِ أَبِيهَا. فَتَنْزِعُ الشَّرَّ مِنْ وَسَطِكَ -‏22- إِذَا وُجِدَ رَجُلٌ مُضْطَجِعًا مَعَ امْرَأَةٍ زَوْجَةِ بَعْل، يُقْتَلُ الاثْنَانِ: الرّجُلُ الْمُضْطَجِعُ مَعَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ. فَتَنْزِعُ الشَّرَّ مِنْ إِسْرَائِيلَ -‏23- إِذَا كَانَتْ فَتَاةٌ عَذْرَاءُ مَخْطُوبَةً لِرَجُل، فَوَجَدَهَا رَجُلٌ فِي الْمَدِينَةِ وَاضْطَجَعَ مَعَهَا -‏24-فَأَخْرِجُوهُمَا كِلَيْهِمَا إِلَى بَابِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَارْجُمُوهُمَا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَا. الْفَتَاةُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا لَمْ تَصْرُخْ فِي الْمَدِينَةِ، وَالرَّجُلُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَذَلَّ امْرَأَةَ صَاحِبِهِ. فَتَنْزِعُ الشَّرَّ مِنْ وَسَطِكَ)(2)..

لست هنا بصدد تناول الكيفية التّي جاء بها الرّجم إلى مجتمعي المسلم، ثم، اعتمد كعقوبة بحق الزاني المحصَّن، وقد حاز على التباس الفقهاء طويلًا، إنما ما يعنيني، هنا، هو أن الرّجم، في عصرنا الحالي، أصبح، عمليًا، واقع على المرأة دون الرّجل، ويمكن الرّجوع إلى عمليات الرّجم في الدول التّي تتبنى هذه العقوبة: السّعودية، إيران، الصومال، أفغانستان، باكستان، السّودان، أندونيسيا، العراق، مالي، نيجيريا. فكل العقوبات فيها كانت من نصيب النساء. بل أنه تاريخيًا قد أهمل الرّجل الزاني في العقوبة التّي تواتر أن الرّسول (ص) أقامها على المرأة الغامدية، وفي الواقع التاريخي المضحك أن الغامدية زنت، ولكن، حتى الآن، بلا مساعدة رجل!

الآن، جاء زمن الاستعانة بمكلية.. مازالت تحتل الجانب العظيم من مخيلتي، ومازلت آراها في دأبها المعتاد، تنقِّب في الجادة لتخلق علاقات تناسبية بين أشياء لايبدو، من الوهلة الأولى، أنها تتناسب، وتعيد تدوير وتفعيل الأشياء التي نظن أنها لا تصلح إلا لتكون نفايات، وبالطبع لا يمكنني الإشارة إلى أنني استلهم تجربة مكلية بحذافيرها.

في مرحلة ما اعتمدت الخياطة كعملية تأتي ضمن تدوير النفايات، وبدت روحي مقتنعة أن الخياطة هي إعادة إلتئام لأشياء من الضروري أن تكون ملتئمة.. فنحن نخيط الجرح كي يبرأ الجلد كما كان، ونخيط الأقمشة إلى بعضها؛ بل نحن أنفسنا سنخاط إلى الأرض في نهاية الأمر، وذلك في معنى من المعاني الفلسفية التي صاغها الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري:

جسدي خرقة تخاط إلى الأرض.. فيا خائط الخرائق خطني!

“أعبد حجرًا إن شئت، ولكن إياك أن تقذف به أحد”! أشعر أنني مؤهلة تمامًا لتبني هذا المفهوم كجزء من رسالتي كفنانة، ومؤهلة، إلى حدٍ معقول، أن أدفع الظلم والعدوان، وأحرِّض على طرح اللاعنف بين البشر، وأؤمن، تمامًا، أن جل ما يستحقه الإنسان، من أخيه الإنسان، أن يبسط له يد السلم، وإن عظم جرمه، حيث لا يستحق أن نرجمه بغير السماح والعفو، خصوصًا أن الرّجم هو فعل سلبي للجماعة تجاه فرد واحد. وطوبى لصانعي السلام في الأرض.

الميدان

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..