المشروع الثالث – البديل المصري الخليجي

انهار مشروع الاسلام السياسي سريعا وقبله انهار المشروع القومي على مراحل. ثمة حاجة حقيقية لانطلاقة مشروع عملي يبتعد عن الشعارات يخرج بالمنطقة من أزماتها الكثيرة.

بقلم: عبدالله كمال

ربما تكون اللحظة التاريخية المناسبة قد حانت لإنضاج «المشروع الثالث»، كي يملأ الفراغ الذي نشأ بُعيد السقوط المتتالي لمشروع القومية العربية، خلال ربع القرن الفائت، والهزيمة المبكرة التي لحقت سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا بمشروع الإسلام السياسي في أعقاب إنهاء المصريين لحكم جماعة الإخوان.

إن إهمية «المشروع الثالث» تنبع من كونه يقوم على أساس «لاشعاري»، يحقق المصالح المتبادلة، في نفس الوقت الذي يتضمن مكونًا ثقافيًا واسعًا يلبي طموحات كتل سكانية عريضة في المشرق العربي ومصر.

مثَّل «30 يونيو» تغييرًا جوهريًا في مصر، في ذات الوقت فجر أوضاعًا إقليمية جديدة. لقد أطاحت الملايين التي جابت ميادين مصر بإصرار لعدة أيام، بحكم جماعة الإخوان، ودفعت الجيش لعزل الرئيس مرسي. وبدون أن تخطط لذلك فإن هذه الجماهير الثائرة هدمت استراتيجية أوروبية – أميركية متكاملة قامت على إعادة بناء معادلات الشرق الأوسط بأنظمة حكم يسيطر عليها الإسلام السياسي بأطيافه، لاسيما جماعة الإخوان.

لقد أنهت موجات ما عُرف بـ «الربيع العربي»، بدءًا من يناير 2011 المشروع القومي العربي، الذي كان يتلاشى بالتدريج بدءًا من 1990، لصالح المشروع الديني الهادف لتحقيق «دولة الخلافة». وكان من بين نتائجها زوال عصر جمهوريات ما بعد الاستقلال. لكن جماعة الإخوان لم تصمد أكثر من عامين في مواجهة أنواء الشرق الأوسط بعد أن سيطرت على الحكم في دولتين (مصر وتونس)، بالإضافة إلى سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، والتصاق الحكم في السودان بالتنظيم الدولي للإخوان.

سقوط «المشروع القومي العربي» كان متدرجًا، وبدأ ذلك بالصدمة التي سببتها اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، ثم بالزلزال الذي أحدثه غزو العراق للكويت. أعقب ذلك شيوع تقسيم المنطقة العربية إلى محاور متناقضة تتبدل من مرحلة إلى أخرى، وصولًا إلى غزو الولايات المتحدة للعراق، وعدم قدرة النظام العربي على الصمود في وجه ذلك. لكن سقوط مشروع الإسلام السياسي كان مفاجئًا ومدويًا وغير متوقع ونتيجة لتحرك جماهيري واسع وغير مسبوق في دولة عربية محورية هي مصر.

صاحب نشأة المشروع القومي العربي نجاح نضالات الاستقلال في مختلف الدول العربية، التي أصبحت جمهوريات فيما بعد. وأعطى ذلك له زخمًا قويًا، بالتوازي مع ذلك منحه المشروع الناصري في مصر دفعة مثمرة استمرت ما يزيد على عقد قبل أن تتلقى الناصرية ضربتها القاصمة في 1967.

في المقابل فإن مشروع الإسلام السياسي بذل محاولات عدة للصعود، لاسيما بعد الثورة الإيرانية، وكانت تفشل دائمًا، إلى أن حقق ما سعى إليه خلال العامين الأخيرين. لقد صاحبت النجاح المؤقت لمشروع الإسلام السياسي مجموعة من الاضطرابات والحروب الأهلية في أربع دول عربية على الأقل. وكان قد أدى إلى تقسيم في الأقاليم الجغرافية، في كل من السودان وفلسطين.

في العامين الماضيين أظهر عدد من الدول العربية، لاسيما في الخليج، مواجهة بدرجات متفاوتة مع مشروع الإسلام السياسي.. على الرغم من انطباعات راسخة لدى عدد من الباحثين بأنها ذات علاقات وطيدة معه.

بالتوازي شهدت مصر في مواجهة تطبيق الرئيس لمشروع الإسلام الرئاسي صعودًا جارفًا للتيار القومي المصري، كرد فعل لمحاولات طمس الهوية المصرية على يد جماعة الإخوان. بعد أيام قليلة جدًا من إزاحة محمد مرسي كانت ثلاث دول خليجية كبرى، السعودية، الإمارات، الكويت، قد قدمت دعمًا اقتصاديًا لمصر بلغ 12 مليار دولار. مثل هذا الدعم عنوان إحياء تحالف سياسي كانت له جذور من الممكن أن يمثل نواة لما أسميه بـ «المشروع الثالث».

لقد كان من أسباب فشل المشروع القومي العربي حالة التنافس التي ضربت العلاقات بين دول عربية مختلفة، تعود جذور بعضها إلى التخاصم بين جمهوريات ما بعد الاستقلال وملكيات الخليج في ستينيات القرن الماضي. وهي مرحلة انقضت، ليس فقط لانتفاء مبرراتها وإنما لنشوء مصالح بديلة.

لقد اختل التوازن في علاقات الدول الخليجية ومصر بالتحديد، خلال عقود ماضية، حتى في أفضل حالات التعاون، نتيجة لأنه كان لدى الخليج يد عليا اقتصاديًا في مواجهة كبرياء مصري تاريخي وثقافي. خلال عقود عصر مبارك تم جسر هوة كبيرة فيما بين القاهرة وأغلب العواصم. وأدى صعود مشروع الإسلام السياسي في مصر إلى تأكيد غير مخطط للأهمية الاستراتيجية للعلاقات النفعية المتبادلة بين مصر ودول الخليج. إن الـ 12 مليار دولار التي قدمتها الدول الخليجية الثلاث لمصر بعد عزل محمد مرسي جسدت أكبر عملية استثمار سياسي يؤسس لتحالف من نوع مختلف.

يمكن لهذا التحالف أن يتطور تدريجيًا من المرحلة السياسية إلى مرحلة المشروع البديل اعتمادًا على العناصر التالية:

* يقوم على التعاون النفعي لا الشعاري.

* يستهدف تحقيق مصالح جماعية، على المستويين الحكومي والشعبي.

* يوظف النزعات الوطنية داخل مجتمعات مصر والخليج دون أن يطمس أي منها لصالح الآخر.

* ينطوي في داخله على القيم الأساسية للمشروع القومي العربي، ويقوم على ثقافة الاعتدال الديني في مواجهة الإسلام السياسي.

* يأتي في مرحلة دخول دول الخليج مرحلة تحديث واسعة النطاق، تتضمن قدرًا من الاهتمام بالقيم العصرية بدرجات متفاوتة، ومع دخول مصر مرحلة ما بعد جمهورية الاستقلال.

* يتحقق التوازن فيه بين مصر بسكانها وجيشها وعمق جذور دولتها، والخليج بقدراته الاقتصادية التي صارت لها علاقات دولية فعالة، بالإضافة إلى القيمة الجيوسياسية لموارد الطاقة التي يسيطر علىها.

* يمثل هذا المشروع- التحالف إطارًا واسعًا لما بين منابع الطاقة وممرها الرئيس.

* لا يهدف المشروع إلى الصدام مع العالم الغربي كما كان حال المشروع القومي العربي في صورته الناصرية، وإن كان من المفترض أن يستفيد من حالة السيولة التي عليها النظام الدولي مع صعود التأثير السياسي لكل من روسيا والصين.

في أعقاب موجات ما عُرف بالربيع العربي، نشأ اتجاه في الخليج دعا إلى تحالف الملكيات وبما يشمل مد جسور التعاون بين كل من ممالك وإمارات الخليج وكل من الأردن والمغرب.. وهو ما افتقد توافر عناصر القوام المتماسك، بسبب تناثره الجغرافي واستناده إلى توافق طبيعة أنظمة الحكم. في المقابل يوفر «المشروع الثالث» مجالًا جغرافيًا متماسكًا، مستفيدًا من النسق المتحقق لـ«المشرق العربي»..لاسيما أن التحديات الجوهرية التي يواجهها الإقليم العربي هي في الأساس «مشرقية» جغرافيًا وتاريخيًا وثقافيًا.

من هذه الناحية «المشرقية» يمكن لـ«المشروع الثالث» أن يملأ النطاقات التالية:

– نطاق الماء المالح، ما بين الخليج العربي والبحرين الأحمر والمتوسط، وما يواجهه من تحديات أكدتها صراعات العقدين الماضيين، وما يتيحه من فرص ترسيخ العلاقة بين نطاق منابع الطاقة وممرات انتقالها.

– نطاق الماء العذب، إذ يمكن للتعاون بين مصر ودول الخليج تحديدًا كمحور ارتكاز في المشرق العربي أن يؤدي إلى تجاوز احتمالات الصراع المائي في دول حوض النيل.. فضلًا عن توفير فرص لحل المشكلات المائية والزراعية المستقبلية في الخليج.

– نطاق التوازن- لا الصراع – بين المشروع المشرقي.. والمشروعين التركي والإيراني.

– النطاق الديني السني الممتد الذي يمكن أن يمثل ردعًا يمنع احتمالات تطور الحروب المذهبية، خصوصًا الشيعية – السنية، وتأثيرات ذلك على أمن الخليج.

– النطاق المغاربي المجاور للشطر المشرقي، وهو ما يجب استيعاب ترابطه التالي في إطار جامعة الدول العربية التي لا ينفي نشوء «المشروع الثالث» وجودها.

على أن أهم تحديين يواجهان هذا المشروع على المدى المتوسط سيكونان ما يلي:

– الأول، هو معضلة المشرق الأساسية، أي الصراع العريق مع إسرائيل على حقوق الشعب الفلسطيني. لقد اختصر السلوك السياسي لكل من نظام الإخوان وحركة حماس تجاه إسرائيل مسافات كبيرة كان الإسلام السياسي يفجر بها مشاعر شعبوية تعوق إمكانيات التسوية. ويمثل السقوط المدوي للإخوان عامل ضغط حقيقيًا على حركة حماس في قطاع غزة سيتضاعف مع تصاعد العمليات العسكرية التي ينفذها الجيش المصري في سيناء.

إن «المشروع الثالث» من المفترض إنه يتمتع بنضج كافٍ، بحيث أنه لا يريد أن يمثل تحديًا لأي من دول الجوار، بما في ذلك إسرائيل، وإنما تحقيق التوازن معها، بما يضمن الحد الأدنى من الاستقرار للإقليم. ولاشك أن حالة الفراغ التي سببها إخلاء تأثير مصر في الصراع خلال العامين الماضيين كان سيؤدي إلى تسوية ظالمة لا توفر هذا الحد الأدنى من الاستقرار.

يتضمن ذلك ضرورة أن يضع «المشروع الثالث» في أفقه الاستراتيجي الاستيعاب النوعي للأراضي الفلسطينية ثقافيًا واقتصاديًا، بالتوازي مع استيعاب آخر لسورية الجديدة في مرحلة ما بعد بشار الأسد.. ما سوف يكون له تأثيره على لبنان.

– التحدي الثاني سيكون ثقافيًا وإعلاميًا، ما يتطلب جهدًا مكثفًا ومنسقًا، يرسخ عمليات الاستثمار السياسي، وبما ينقل وعي الشعوب من مرحلة التنافس ومرحلة الشعارات، إلى مرحلة تكامل النطاق المشرقي وتحقيق المصالح. ومن المؤكد أن مجموعة الدول الأساسية في نواة هذا المشروع تملك أصولًا وإمكانيات قادرة على تحقيق ذلك.

عبدالله كمال

كاتب سياسي مصري

[email][email protected][/email]

ميدل ايست أونلاين

تعليق واحد

  1. تحليل علمي جميل جميل جميل ورائع ونخلص من هذا المقال الى أن :

    1- مشروع القومية العربية كان مشروعا عنصريا لم يراعي مكونات واثنيات الاقليم الاخرى اضافة الى عدائه السافر للغرب بدل تغليب المصالح المتبادلة.0( الناصرية والبعث )

    2- مشروع الاسلام السياسي هو أيضا مشروع غارق في العنصرية وهضم حقوق الآخرين من غير المسلمين .مشروع يحمل في طياته شعارات جوفاء تجافي الواقع وتدغدغ المشاعر في سبيل الوصول الى دست الحكم بكل الطرق .كما أنه يشترك مع مشروع القومية العربية في رفع شعار العداء للغرب اعلاميا بيد أنه يمارس في الخفاء تعاونا تاما مع الغرب .

    بقي المشروع الثالث المرتقب عسى أن يتبلور مستفيدا من أسباب سقوط المشروعين القومي العربي والاسلام السياسي وهو ( الديمقراطية التعددية السليمة ) إن وجدت المناخ الخصب وأعطيت الفرصة في ممارستها

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..