معتمد المحلية: الحرب تسبَّبت في نزوح المواطنين .. رئيس حزب التواصل القومي: إيلا يتحمل المسؤولية

وعورة الطرق تحول دون وصول المسؤولين إلى سكان القرى الجبلية
تردي الخدمات وراء هجرة المواطنين ولا يشجع على العودة الطوعية
عقيق: صديق رمضان
عندما لاحت مدينة قرورة من خلف الجبال كعروس في خدرها هتفت مثلما قال أرخميدس فرحاً “وجدتها وجدتها “، العالم اليوناني صاحب النظرية الفيزيائية الشهيرة، وحينما وصل إلى ما يصبو إليه هتف بلغته “يوريكا، يوريكا”، وذات ما فعلته وأنا أردد بلهجة قبيلة البني عامر “ركبكوها، ركبكوها “، أخيراً عثرت عما أبحث عنه بعد جولة استمرت خمس عشرة ساعة بمحلية عقيق بولاية البحر الأحمر، ففي المدينة التي يفصلها “خور” عن إرتريا وجدنا مواطنين، قد يبدو الأمر غريباً بعض الشيء ولكن هذه هي الحقيقة، فهذه المحلية هجرها نصف سكانها.
أول العقبات:
منذ سبعة أعوام ظللت أسجل زيارات راتبة إلى ولاية البحر الأحمر، وفي كل مرة أعقد العزم على حزم حقائبي والتوجه جنوباً حيث محلية عقيق أو جنوب طوكر كما يحلو للبعض أن يطلق عليها، ولكن ظلت خطاي تتعثر تارة بسبب صعوبة الحصول على إذن رسمي لدخولها، فقد كانت تحت حصار غير معلن، وآخر بسبب وعورة الطرق أو إغلاق فيضان خور بركة، الحركة بين المحلية وأجزاء العالم الأخرى، بيد أن الحظ ابتسم لي أخيراً، حينما رافقت معتمد المحلية محمد علي محمود، وهو في ذات الوقت وكيل ناظر البني عامر بالولاية إلى عقيق التي تعرفت عليها من خلال الكوارث الكثيرة التي ظلت تلاحقها، لم أجد صعوبة في تجاذب أطراف الحديث مع المعتمد داخل عربته التي كانت تنهب الطريق الأسفلتي الرابط بين بورتسودان وسواكن وصولاً إلي مفترق طوكر، لم تستغرق الرحلة وقتاً طويلاً لأن للاسفلت سطوته، كان المعتمد ودوداً ومتحدثاً لبقاً تمكن في زمن وجيز أن يلخص لنا واقع المحلية فجعل أفئدتنا تهفو إليها.
أول العقبات:
بعد وصولنا إلى منطقة دولاب ياي، كان علينا التوقف ليس لأخذ قسط من الراحة لأن الوقت كان ما يزال مبكراً حيث لم تتجاوز الساعة التاسعة صباحاً وساعتها كان الجو غائماً بعد أن تركناه ممطراً ببورتسودان، وقبل أن نترجل عن السيارة أخبرنا المعتمد الشاب أن هذا هو خور بركة، فاستدعينا الكثير من القصص المأساوية والحزينة التي كان مسرحها في الأعوام الماضية، فالسكان المحليون كانوا يواجهون صعوبات بالغة في فصل الخريف عندما تتدفق المياه من الهضبة الأثيوبية وتجري على مجرى الخور، وهو ليس خوراً كما يعرفه أهل الوسط، بل أقرب للنهر لأن مجراه لا يقل عرضه عن السبعمائة متر، فهذا العائق كثيراً ما تسبب في إزهاق أرواح جرفتها المياه الهادرة في طريقها إلى مصبها بالبحر الأحمر (نعم تذهب المياه العذبة إلى البحر الأحمر، ولا تجد من يحصدها ويستغلها)، وكثيراً ما تسبب هذا الخور في عزل عقيق كلياً عن العالم الخارجي لأشهر عديدة لا يجد السكان حيال ذلك غير الدخول عبر محلية همشكوريب جنوباً، استمعنا إلى الكثير من القصص المثيرة للحزن والجالبة للحسرة وجميعها صبت في قناة واحدة أوضحت مدى المعاناة التي يتكبدها السكان المحليون في عقيق.
الضل الوقف ما زاد:
على ذات الخور الذي تنتشر على أطرافه الشاسعة مساحات واسعة من المشاريع الزراعية ينهمك عمال ومهندسون في تشييد جسر عملاق انتصبت أعمدته على امتداد أكثر من ألف متر، وهو لا يقل في طوله عن كباري الخرطوم، اجتاحتنا السعادة وظننا أن السكان سيودعون عهد المعاناة إلى غير رجعة عقب اكتمال العمل في الجسر قبل حلول فصل الخريف منتصف هذا العام ومن ثم جريان الخور في يوليو، بيد أن المعتمد الشاب بدد فرحتنا هذه بإشارته إلى أن العمل في الأعمدة الخرسانية اكتمل منذ أعوام، ولكن لم يتم الانتهاء من سطح الجسر، وحينما سألناه في تعجب عن السبب زاد من حيرتنا، وقال: في كل عام يتم “صب” سطح الكبري بالخرصانة والحديد، ولكن عندما يفيض الخور يجرفه، وهذا تكرر في العامين الماضيين، ونخشى أن يحدث هذا العام أيضاً إذا لم يتم الانتهاء قبل وقت كافٍ من كافة أعمال سطح الجسر، وعلمنا من المعتمد أن شركة مصرية هي التي تتولى تنفيذ الكبري، وأن الجهة الممولة صندوق إعمار وتنمية الشرق، وبصفة عامة فإن كل الذين التقيناهم أكدوا أن العمل في الكبري يمضي ببطء لا يجدون له تفسيراً، وقد أثار شكوكاً في أذهانهم، ويقولون إن الخور إذا جرف هذا العام السطح فإنهم لن يصمتوا وسيطالبون صندوق الإعمار بتغيير الشركة .
مرافيد والطريق:
بعد أن تركنا منطقة دولاب ياي خلفنا لوحنا بالوداع لطريق الأسفلت الذي تعمل فيه أيضا ذات الشركة المصرية، ويمتدد من طوكر إلى قرورة بطول يقترب من المائتي كيلو متر، وقد تمت سفلتة ستين كيلو منه واكتمل العمل في طبقات الأساس حتى محطته الأخيرة، وأيضاً يتم تمويله من قبل صندوق إعمار الشرق، ويمكن القول إن هذا الطريق حطم كل الأرقام القياسية من حيث عدد الكباري الصغيرة والكبيرة التي تبلغ 210 كباري، والسبب في ذلك يعود إلى الخيران الكثيرة التي تجري عبرها المياه المنحدرة من سلسلة جبال البحر الأحمر والهضبة الإثيوبية، أول منطقة وقع بصرنا عليها هي قرية مرافيد المشيدة منازلها من المواد المحلية، حركة السكان تبدو داخلها ضعيفة إن لم تكن منعدمة، لم نتوقف فيها، وواصلنا سيرنا حتى بلغنا مدينة عقيق التي رسمنا لها صورة في أذهاننا وجدناها مغايرة على أرض الواقع.
بين البحر والجبل:
من حيث الموقع، فإن مدينة عقيق تتوسط البحر الأحمر الذي يقع على بعد كيلو متر واحد منها من ناحية الشرق وسلسلة جبال البحر الأحمر من الغرب والتي لا تبعد عنها كثيراً، كنا نتوقع أن نجدها ضاجة بالحركة، بيد أنه وعند توقفنا في “كسرة عقيق” التي نشأ سوق محلي على طرفي الطريق الترابي جنوبها لم نجد سوى عدد قليل من المواطنين ومعظمهم من باعة المحال التجارية المشيدة من الزنك والخشب وموظفي المحلية وبعض من سائقي اللواري، أخذنا قسطاً من الراحة، ثم واصلنا رحلتنا إلى عقيق القديمة التي لا تبعد كثيراً عن الطريق الرئيس، ووجدناها قد تحولت إلى أطلال ينعق فيها البوم وبقايا حطام لمنازل دكتها آلة الحرب التي دارت رحاها في المنطقة قبل عقدين من الزمان، ولم يتبق منها سوى مبان عتيقة اتخذتها القوات المسلحة حامية لها تقع على مقربة من ساحل البحر، وبعد ذلك توجهنا غرباً حيث عقيق الجديدة التي أيضاً وجدنا منازلها خالية من السكان ومرافقها الحكومية تشكو الفراغ، لتزاداد دهشتنا من ضعف وجود المواطنين في هذه المحلية الثرية بثرواتها البحرية والمعدنية .
وسط الجبال:
سمعت كثيرًا عن منطقة عندل التي تقع وسط سلسلة جبال البحر الأحمر فأبديت للمعتمد رغبة لزيارتها إلا أنه كان شفافاً حينما أكد محمد علي محمود صعوبة الوصول إلى القرى الجبلية مثل عندل وغيرها، وقال إن الطرق بالغة الوعورة تحول بينهم والوصول إلى سكان هذه المناطق، مبيناً أن المواطنين في الجبال التي تفصل بين السودان وإرتريا لا يعرفون إلى أي دولة ينتمون ولا يهتمون كثيراً بهذه التفاصيل فهم يتحركون بين الدولتين، وفي الصيف يتجهون بماشيتهم صوب دلتا القاش، بيد أنه قطع بحرصهم على توفير الخدمات في هذه القرى، وعندل التي تمنيت زيارتها يعني اسمها المنطقة القاتلة للأعداء بسبب الأشجار السامة التي تحيط بها من كل الاتجاهات، وتشتهر بالمشغولات اليدوية فائقة الجمال التي رأينا نماذج منها بمدينة بورتسودان.
قرورة خلف الجبال:
ونحن نقترب من مدينة قرورة آخر محطاتنا بمحلية عقيق أيضاً لاحظت أن معظم القرى التي مررنا بها تعاني من ضعف عدد السكان المتواجدين فيها، وهذا وضح لنا جلياً في درهيب، عدبونا، عيتربا، عداريت، دلهنتي، عقيتاي وغيرها، وبعد ذلك من خلف الجبال لاحت لنا قرورة التي تتوسط سلسلة جبلية وتبدو قريبة الشبه من مدينة كاودا بجنوب كردفان، في هذه المدينة تنفسنا الصعداء، فقد وجدنا أن عدد السكان كبير والسوق يضج بالحركة، واتخذنا قهوة محمود محمد علي كرار متكأ قبل أن نصل إلى آخر نقطة حدودية بين السودان وإرتريا كانت تتواجد فيها القوات المسلحة السودانية، ولم نكتف بذلك بل وقفنا في منتصف الخور الذي يفصل بين البلدين والذي لا يتجاوز طوله العشرة أمتار، وكانت ساعتها عربات الكارو تتحرك بين قرورة السودانية ونظيرتها الإرترية بكل أريحية ودون الحاجة إلى أن يبرز أصحابها جوازات سفر، خرجنا من قرورة والشمس قد بدأت في التواري خلف الجبال لتستمر رحلتنا باتجاه بورتسودان في ليل خيم عليه الهدوء والظلام إلى أن وصلنا حاضرة ولاية البحر الأحمر عند الساعة الثانية صباحاً.
أين السكان:
سؤال طرحته على معتمد المحلية محمد علي محمود الذي أعاد عجلة الزمان إلى الوراء وتوقف عند محطة عقد التسعينيات من القرن الماضي، وأشار إلى أن الحرب التي اندلعت في ذلك الوقت كبدت المواطنين خسائر فادحة وأذهبتهم عنهم أمنهم، ولم يجدوا غير النزوح صوب طوكر وبورتسودان، لافتاً إلى أن الهجرة لم تتوقف عندما وضعت الحرب أوزارها وصمتت مدافعها، فقد استمرت بداعي السياسة التي طبقها الوالي السابق للولاية محمد طاهر إيلا بتعمد تهميشه للمحلية ومصادرة حقوقها في التنمية، وأضاف: عندما ضاق بالسكان الحال لم يجد كثيرون منهم غير الهجرة وأستطيع القول إن نصف سكان المحلية من جملة سبعين ألفاً قد هاجروا إلى مناطق أخرى، وفي سبيل جذبهم للعودة تعمل حكومة علي حامد، على تنفيذ عدد من المشاريع التنموية وحينما يكتمل طريق الأسفلت وصولاً إلى قرورة فإن واقع المحلية سيشهد تغييرا كبيراً لجهة امتلاكها الكثير من الموارد الزراعية والسمكية والمعدنية .
حلايب أخرى:
من ناحيته، فإن رئيس حزب التواصل حامد محمد علي يعتقد بأن السياسة التي انتهجها محمد طاهر إيلا من الأسباب المباشرة لهجرة السكان من عقيق، ويضيف في حديث لـ(الصيحة) أنهم كانوا في حيرة من أمرهم بسبب تلك السياسة التي كادت أن تفرغ المنطقة من سكانها وتحويلها الى حلايب أخرى تذهب لقمة سائغة إلى من يطمع في خيراتها، وقال إن الحرب لعبت أيضا دوراً مؤثراً في فقدان المواطنين لمصادر دخلهم، مؤكداً أن عودة المواطنين تتوقف على توفير مشاريع إعاشية مثل تمليك مراكب صيد وإزالة المسكيت من دلتا طوكر التي تقع مساحات منها بالمحلية، ويتفق مع المعتمد في ضرورة حدوث تمييز إيجابي للمحلية.
ولكن:
نعم الحرب وسياسة إيلا من أسباب هجرة المواطنين من محلية عقيق، ولكن وعلى أرض الواقع، فإن تردي الخدمات يعتبر سبباً مباشراً لا يشجع على العودة الطوعية، فهذه المحلية حتى الآن يوجد بها مستشفى وبها فقط مدرستان ثانويتان ويعاني التعليم من نقص يبلغ 103 معلمين، أما مياه الشرب فما تزال تمثل هاجساً مؤرقاً، فيما يخشى السكان الألغام التي أودت بحياة كثيرين، وما يزال الجزء الذي يقع بالمحلية من مشروع طوكر يغطيه المسكيت، وعملياً فإن العودة تبدو عسيرة وتتوقف على أن تحصل هذه المحلية التي عانت كثيراً من ويلات الحرب والحصار الإيلاوي على تمييز إيجابي يعيد إليها بريقها بوصفها محلية حدودية ذات موارد ضخمة قد يغري ضعف السكان فيها من يضمه إليه مثلما حدث لحلايب والفشقة.
الصيحة.