بين النقد و الضرورة: السودان في حاجة الي شراكة دولية لنجاح الفترة الانتقالية
استيفن امين أرنو

على مدار الأسابيع الماضية أبدى عدد من المعلقين السودانيين وجهات نظر متناقضة؛ بعضها داعم و أخري منتقد لدعوة رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك تكليف بعثة أممية جديدة لبناء السلام بالسودان. أغلب المنتقدين إعتبروا الأمر بمثابة الطعن في السيادة الوطنية، لأنها تضع السودان تحت الوصايا الأجنبية. من منطلق أكاديمي هنالك الكثير من اللغط و النقد لنظرية بناء السلام الليبرالي المدعوم من الخارج خصوصاً بعد إنهيار القطب الشرقي ولإرتباطه بالقطب الغربي المؤسس علي أُطروحات إيمانويل كانت (Immanuel Kant ) و طرح فكره المبني علي “السلام الديمقراطي” لتأطير كونفدراليات السلام و لتأسيس ركائز لأنظمة جمهورية و ديمقراطية ليبرالية و دستورية لتحصين السلام. هذه الأفكار اخذت حيزاً واسعاً من النقاش في فترة تأسيس عصبة الامم (1918) حيث لعب الرئيس الامريكي الأسبق وودرو ويلسون دوراً بارزاً في عملية تسويق نقاطه الأربعة عشر (Woodrow Wilson- fourteen points) و دعوته لبث القيم الديمقراطية حول العالم و رسخ لمفهوم بأن الديمقراطيات لا تنخرط في الحرب بسهولة لأنها تخلق نوعاً من الإعتماد المتبادل و التواق للتبادل التجاري و صون الحريات. فعندما إنهار النظام الشرقي صرح فرانسيس فوكياما متنبئاً بنهاية التاريخ وبزوغ حقبة جديدة من استبداد النظام الليبرالي الغربي دون تنافس ايديولوجي يذكر. فاعطي انطباعاً بأن النظام العالمي الجديد يسعي لتوسيع نفوذه من خلال بثه لقيمه السياسية و مؤسساته لخلق توابع في العالم الثالث تخضع لانظمة الغرب الليبرالية و تستقي سياساته العامة من اقتصاديات السوق ومفاهيم الحداثة (modernism) في توجهها للتنمية. وكانت اغلب الانتقادات الموجهة لعمليات بناء السلام تنبثق من افتراضات تنبثق من المناهج المناوئة للنظام الليبرالي مثل التبعية (dependency) و نظرية النظام العالمي لوليرستين (Immanuel Wallerstein) و نظام ما بعد التنمية (post-development) و التي قادها منظرين من العالم الثالث مثل سمير امين و ايفان اوليش و آخرين.
هذه المقدمة ضرورية لنؤكد بان عمليات بناء السلام تواجه تحدي حقيقي في الممارسة و التطبيق ليس فقط في السودان فهناك قضايا كبيرة مثل توطين مبادئها في مختلف البيئات و فشلها في بعض الاحيان في خدمة الاجندة الوطنية. لكن هذا لا يعني بالضرورة عدم جدوي مساهمتها في تحقيق الاستقرار و خصوصاً عند اعتبار الدور الوطني في توجيه بوصلة البناء المنشود لخلق “اجماع وطني/دولي في مفاهيم بناء السلام” و لخلق منهج هجين يبني السلام و يراعي التباينات و الفوارق الاجتماعية و الثقافية كما حدث في تجربة سيراليون.
و نسبة لحساسية الانتقال السياسي الحالي نجد ان السودان يحتاج لبعثة بناء سلام تُبني علي الشراكة الحقيقية لإرساء دعائم الإنتقال السياسي الهادف و المستدام، آخذين في الإعتبار ضيق الفترة الانتقالية والتجارب السلبية في الفترات الانتقالية السابقة. فرغم تباين و إختلاف المفاهيم و المعطيات ستظل دعوة الحكومة الإنتقالية لبعثة اسناد اممية من أهم الخطوات التي إتخذتها الحكومة الإنتقالية منذ تشكيلها؛ وهذا بالضرورة يعكس إلتزام رئيس الوزراء في قيادة أنتقال حقيقي وموثوق من شأنه أن يضع السودان على المدى الطويل في الطريق الصحيح لنهضته السياسية والاقتصادية والاجتماعية المرغوبة. فتجربة السودان في الانتقال السياسي تحمل خليطاً من نجاحات و اخفاقات، بينما أفضت تجارب السودان عند إشراكه مؤسسات دولية في قضايا الانتقال السياسي إلي نتائج أفضل؛ كما سأتناولها باستفاضة في هذا السفر.
هناك الكثير من العقبات التي تواجه عمليات الانتقال الحالي منها تمدد المكون العسكري الانتقالي في الملفات السياسية مثل السلام و الشؤون الخارجية و الإقتصاد و الخدمات؛ مما يثير الشكوك حول إذا كان العنصر العسكري سيتخلى عن رئاسة مجلس السيادة بعد 21 شهراً المحددة حسب الوثيقة الدستورية. هذه التطورات تثير أسئلة كثيرة حول ما إذا كانت المرحلة الانتقالية ستحقق هدفها العام المتمثل في العدالة الاجتماعية (السلام الإيجابي) أو سينتهي بها الأمر إلى وضع أجندة انتقالية بسيطة تهدف في المقام الأول على الحفاظ على الوضع الراهن.
التطورات الحالية تنبئ بإحتمالية إختزال و تدجين دور العنصر المدني الانتقالي في مسارات ليس لها تأثير في مجري السياسة العامة، بينما يواصل القطاع العسكري في التمدد و يحتكر كل مفاتيح العملية السياسية و التي لها ارتباطات جوهرية بمجمل مسارات الإنتقال السياسي مثل قضايا السلام، العدالة، الإقتصاد واصلاح قطاع الأمن بعيداً من امننة القضايا المصيرية و الإهتمام بقضايا الأمن الأنساني المرتبط بقضايا المواطنة العادلة.
للخروج من مثل هذه التكهنات اذاً لا بد ان نتعظ من تجارب الانتقال السياسي في السابق و لبروفيسور عطا البطحاني روشتة متكاملة لمتلازمة فشل الفترات الإنتقالية في السودان ضمنها كتابه “إشكاليات التحول السياسي في السودان (2019)” و فيها اشاد بنجاح تجربتان من اصل اربعة و دون شك؛ تلك التجربتان حققتا أهدافهما المعلنة.
الفترة الانتقالية الأولي (1953-1956) ساهمت في انتقال السودان من يد الاستعمار إلى الحكم الذاتي و افضت للاستقلال ، بينما أنهت الثانية (2005-2011) الحرب بين الحكومة السودانية ضد شعب جنوب السودان. تميزت تلك الفترتان في طريقة ادارتهما للانتقال السياسي حيث كانت بشراكة بين الحكومة الوطنية و أطراف دولية/ خارجية. الأولى كانت بالشراكة مع سلطة الحكم الثنائي الإنجليزي- المصري ، بينما اتفاقية السلام الشامل (2005-2011) كانت بالشراكة مع مجوعة الإيقاد و الترويكا ( النرويج، بريطانيا و الولايات المتحدة الامريكية) مدعومة ببعثة الأمم المتحدة في السودان (UNMIS) المفوضة بموجب الفصل السادس من ميثاق الامم المتحدة (1945). فكانت إدارة الفترة الانتقالية 2005 مبنية على قصور الترتيبات الادارية في اتفاقية أديس أبابا للعام 1972، التي افتقرت للشراكة الدولية. المثير للاهتمام أن اتفاقية السلام الشامل تميزت ببعدها الإقليمي و الدولي من خلال الشراكة الدولية التي تضمنت منتدى شركاء الإيقاد(IGAD Partners Forum) ولجنة التقييم والتقويم(Assessment and Evaluation Commission).
هذه الملاحظات ليست مثيرة للاهتمام فحسب ولكنها مهمة بنفس القدر لأنها توضوح أهمية الوكالة الوطنية و المشتركة (وطنية و دولية) في نجاح الإنتقال السياسي في السودان. أشارت تجارب السودان السابقة بوضوح إلى أن أي عملية تفتقر إلى الشراكة الدولية إما أُلغيت/عُدلت مثل اتفاقية أديس أبابا (1972) أو لم تكتمل مثل الانتقال السياسي للعام 1964 و 1985 الذي لم يرتقي لتلبية تطلعات المتظاهرين. حتي انجاز الوثيقة الدستورية الحالية تمت بشراكة الايقاد و الاتحاد الافريقي بعد اربع شهور من الماطلات و غياب الارادة الوطنية.
الفترة الانتقالية الثانية للعام 1964 توضح بجلاء فشل النخب في ترميم الساحة السياسية بل عززت للعنف المؤسسي و أطرت للفوارق الإجتماعية؛ بينما ساندت الأحزاب السودانية موقف الدولة لتبني نهج عسكري تجاه الحرب الأهلية في جنوب السودان. بالرغم من المحاولات الرسمية لحل مشكلة جنوب السودان؛ لم يتمكن المشاركون في مؤتمر المائدة المستديرة (Round Table Conference) وخليفتهم في لجنة الإثنتي عشرة رجلاً (Twelve Men Committee) من الاتفاق على صيغة مقبولة لإنهاء الحرب في جنوب السودان. وهذا ينطبق أيضًا لفترة الانتفاضة الثانية في عام 1985 وما تلاها من انتقال سياسي غير ناجح لم يفلح في نزع سياسة العنف، بل ساند في تأجيج الحرب الأهلية مما أدى لتفاقم النزاع وتوسيع رقعة الصراع الأهلي ليشمل جبال النوبة و الإنغسنا بجنوب النيل الأزرق.
بالعودة للموضوع الرئيسي، نجد أن المطالبة بشراكة دولية في عملية انتقال السودان هي خطوة ممتازة من قبل رئيس الوزراء ربما قد تعزز فرص الانتقال الحقيقي والموثوق. هناك تجارب ناجحة من بعثات الإسناد الاممي لبناء السلام في ليبيريا وسيراليون و جمهورية أفريقيا الوسطى حيث نجحت تلك البعثات في استقصاء العنف و بناء السلام و في تعزيز كفاءة وشرعية تلك الدول الهشة. فنجحت بعثة الاسناد بالنهوض بليبريا و سيراليون كما ساعدت جمهورية افريقيا الوسطي في الانتقال من حكم المليشيات إلي حكم الدولة و القانون.
و المثير للاهتمام أيضاً؛ نجاح الأفارقة (بطرس غالي من مصر والاخضر الإبراهيمي من الجزائر وكوفي عنان من غانا) في تفعيل وتطوير الإطار النظري لممارسة بناء سلام مواكب للواقع الفريقي العربي. و قام بطرس غالي بتطوير مفهوم بناء السلام في كتابه “اجندة السلام ” (ِAn Agenda for Peace, 1992) ليدرك التحول البنيوي في النزاعات الحديثة خصوصاً بعد إنتهاء الحرب الباردة فصارت أغلب النزاعات داخلية و مرتبطة بنظام الحكم و الفوارق الاجتماعية. فعملية صناعة السلام أو حفظه أصبحت غير مجدية في غياب استراتيجية تبعث الأمل بعدم الركون للحرب، وذلك من خلال العمل علي بناء مؤسسات لحماية السلام و ربطها مع قضايا الرعية برتق النسيج الاجتماعي و ترميم الفوارق الاقتصادية. فارتبطت عمليات بناء السلام ببناء مؤسسات الدولة لثلاث أسباب رئيسية: منها أن للدولة المقدرة على ضمان إستدامة النظام، وكذلك لديها القدرة لتنظيم وسائل العنف و إعادة التوزيع العادل لترميم الفوارق المجتمعية و المناطقية.
بالنظر الي النزاع في السودان فقد ارتبط بنظام الحكم المتبع فالتجربة السودانية مرت عبر دوائر حكم معروفة من حكم ديمقراطي (1956-1959) (1965-1969) (1986-1989) تخللتها انقلابات عسكرية (1959) (1969) (1989) ، وكذلك انتفاضات شعبية (1964) (1985) (2019)؛ بينما فشلت أغلب الفترات الانتقالية في تصحيح مسائل الحكم. و اصبح السودانيون سجناء تلك الدوائر المفرغة و المفزعة لستون عاماً و اليوم يجدوا انفسهم في مفترق الطرق ليقرروا جدوى الاستمرار في السلسلة الجهنمية أو كسرها.
من المبكر جداً الحكم علي الفترة الانتقالية الحالية، لكن جميع المؤشرات تشير إلى أنه بدون إسناد و دعم خارجي فإن النتيجة لن تختلف عن التجارب السابقة. لقد ناقش اليكس دي وال (Alex de Waal) فرص نجاح الانتقال الحالي مستعيناً بنظرية الاطار التحليلي لسوق السياسة السودانية (Political Marketplace) لخصت دراسته لنتائج مخيبة و مزعجة و اجزم بأن الأمور لم تتغير كما هو مفترض. و يعتبر دي وال أن التحدي الأكبر لهذه الفترة الانتقالية يقبع في امكانية إدارة أو تغيير فعالية سوق السياسة السودانية القائم و المؤسس على عاتق مليشيات ارتزاقية (تحارب بالوكالة لتحقيق مكاسب مالية) ورأسمالية طفيلية (تخدم مصالح اقتصادية لقوى خارجية). فالمحصلة النهائية للفترة الانتقالية ستفضي الي كليبتوقراطية مركزية وظيفية (أفرادها اقوياء و فاسدون و يستخدمون مواقعهم لاستغلال الموارد الطبيعية لتوسيع ثروتهم الشخصية)، أو احتكار قلة تؤطر لمنافسة غير حرة وغير منظمة (Oligopoly). هذا يجعل من التحول السياسي الحالي عرضة لصراعات مخيفة مع كليبتوقراطية مركزية ؛ بينما تتنافس القوات الامنية من جيش ودعم سريع علي القطاع العام لكسب الهيمنة والمقبولية تمهيداً لدور سياسي قادم.
هذه التطورات تمثل وضعاً بالغ الخطورة لعملية الانتقال السياسي السلمي المنشود، وبامكاننا الجزم انه بدون اسناد خارجي مشروع ستظل العملية الانتقالية بالغة التعقيد. فسودان نظام الانقاذ تحول لنظام شبه اقطاعي بصعود العسكر و المليشيات في قطاع الاستثمارات الوطنية دون سلطة الدستور. لقد اعطي النظام البائد صلاحيات اقتصادية واسعة للمكون الامني خارج سلطة القانون فاصبحت لهذه القوات امبراطوريات استثمارية في مجالات الذهب و الثروة الحيوانية وخلافه، بينما لا تخضع هذه المؤسسات لسلطة المراجع العام أو لمبداء المحاسبة و الشفافية.
فنجاح الفترة الانتقالية مرهون بقدرة السلطة الحالية في اعادة هيكلة المؤسسات الحكومية دون استثناءات و ذلك من خلال بناء ثقافة قوية لسيادة حكم القانون. و لأجل انتقال ديمقراطي حقيقي لا بد ان يخضع القطاع الأمني لسلطة الحكومة المدنية كما هو الحال في جميع الدول تحت حكم الدستور. و في وضعنا الحالي هذا التحول الاساسي لا يمكن تحقيقه دون جهد و إسناد دولي ليس فقط للعمليات المعقدة مثل مسائل نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج لمختلف الفصائل المسلحة في السودان؛ وإنما لإصلاح قطاع الأمن بعيداً من امننة القضايا السياسية.
استيفن أمين أرنو باحث في قضايا فض النزاعات و السلام والامن و مرشح لنيل الدكتوراة في العلاقات الدولية والتنمية الدولية بالجامعة الامريكية بنيروبي [email protected]