مقالات وآراء

العلاقة بين الإبستمولوجيا والدين

 

د. كمال عبدالعزيز

شكرًا للبروفيسور عبدالمنعم همت على المجهود الثوري القيّم في إنتاجه الفكري والسياسي المقدر عبر كتابه (إبستمولوجيا الدولة الإسلامية)، وأراه من المراجع المهمة في المشهد السياسي السوداني والعالمي حول علاقة الدين بالدولة أو المعرفة كنظرية والدين كقيمة أخلاقية في حياة البشرية. وانطلاقًا من ذلك أحببتُ التوقف عند العلاقة بين الاثنين.
تُعد الإبستمولوجيا أو نظرية المعرفة أحد الفروع الرئيسة في الفلسفة؛ إذ تبحث في طبيعة المعرفة الإنسانية ومصادرها وحدودها ومعايير صدقها.
أمّا الدين فيُقدَّم عادةً كمنظومة إيمانية وأخلاقية وروحية تتضمن رؤى حول الكون والإنسان والحياة، وتستند إلى الوحي أو الخبرة الدينية أو التقليد. من هنا يبرز السؤال المركزي: كيف تتقاطع الإبستمولوجيا مع الدين؟
أولاً. الدين نفسه يطرح ادعاءات معرفية كبرى تتعلق بحقيقة الوجود الإلهي وبالقيم الأخلاقية والغاية من الحياة. هذه الادعاءات تمثل مادة أساسية للفحص الإبستمولوجي؛ فالفيلسوف يسأل: ما مصدر هذه المعارف؟ وما مدى صدقيتها أو مبرراتها العقلية؟ بهذا المعنى يصبح الدين موضوعًا لدراسة إبستمولوجية مثله مثل العلم أو الأخلاق.
ثانياً. كثير من الأديان تقدّم بدورها تصورًا خاصًا للمعرفة، فتقرّ بثلاثة مصادر رئيسة: الوحي، والعقل، والتجربة الروحية. فالإسلام – مثلاً – يجعل الوحي أساسًا للمعرفة الغيبية لكنه يدعو إلى استخدام العقل في التفكر والنظر. والمسيحية الكلاسيكية عند توما الأكويني ترى أن العقل يمكنه إدراك بعض الحقائق الإلهية بينما يظل الوحي ضروريًا للحقائق فوق العقلية. هذه الرؤية المزدوجة تعكس تداخلاً بين الإيمان والعقل داخل المنظومات الدينية نفسها.
ثالثاً. تثير العلاقة بين الإبستمولوجيا والدين أسئلة مهمة مثل الفرق بين الإيمان والمعرفة، أو إمكانية تبرير الاعتقاد الديني منطقيًا، أو العلاقة بين المعرفة الدينية والمعرفة العلمية. وقد عالج الغزالي هذه القضايا في «المنقذ من الضلال» حين بدأ بالشك في مصادر المعرفة الحسية والعقلية وانتهى إلى يقين وجداني بالكشف الإلهي، في حين عمل فلاسفة غربيون معاصرون مثل ألفن بلانتينغا على بناء “إبستمولوجيا الإيمان” لإثبات أن الاعتقاد بالله يمكن أن يكون مبرَّرًا معرفيًا مثل الإدراك الحسي.
أخيراً. يوضح هذا التفاعل أن الإبستمولوجيا ليست مجرد نقد خارجي للدين، بل يمكن أن تسهم في تعميق فهمه وتجديده من خلال دراسة أسس الإيمان، وأن الدين بدوره يثري نظرية المعرفة بتقديم مصادر ومعايير غير تقليدية للمعرفة تتجاوز الحس والعقل الصرف. وبذلك تتأسس علاقة جدلية بين المجالين، حيث يُغني كل منهما الآخر في البحث عن الحقيقة.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..