بِرِش ياسر جعفر السنهوري!

عام 1992م توفي خالي شقيق والدتي ، رحمة الله عليهما الأثنين ، كان خالي رجل شهم بمعني الكلمة لا يكره الناس ، كل أخواته في الأسرة يحبونه بشدة ، وأصدقاءه يريدونه بمحبة شديدة ، حتي أصدقاء الأسرة يكنون له أحترام كبير وتقدير لا مثيل له ، ذات مرة دب خلاف حاد وسط أشقاءه في الأسرة ، خلاف لا أول له ولا نهاية ، وصل حد القطيعة بين الأخوات الذين خرجوا من رحم أم واحدة ، وتربطهم مصير واحد ، ويهمهم أي شيء يحدث للأسرة ، سواء كان فرح أو كره ، خلاف من ذلك النوع الذي يجعلك تركب رأس أو تدفن دقن ، علي كل حال ، الخلاف وصل إلي درجة كل إمرءٍ بدء يأكل زاده ، ويفكر في مستقبله منفرداً عن باقي الأشقاء ، كان خالي هذا يسكن في مدينة الفاو الرائعة ، بينما أخواته منتشرين ما بين جبال النوبة ، سنار ، مدينة ودمدني ، القضارف ، قلع النحل ، الشوك ، الخرطوم الدامر ، والقطينة ، ولما توفي خالي في الفاو ، أقامة أسرته يوم حداد أشبه بالتأبين عند السياسيين ، دعوا فيه جميع أخواته من مختلف الأماكن للحضور والمشاركة ، وعندما علمت خالتي المقربة من والدتي أن شقيتها سوف تحضر هذا اليوم ، رفضت الذهب وحرضت الأخرين إلي عدم المشاركة حتي يفشل يومهم ، ثم وعدتهم بإقامة يوم تأبين يليق بالخال المحبوب ، وبالفعل سافرت إلي الفاو وأحضرت ” بِرش المرحوم ” .. هنا لابد من شرح بعض الشيء ، ( بِرش المرحوم ) .. هو ذلك السجاد المصنوع من جريد النخل ، يضع عليه جثمان المتوفي ، ثم يتم لفه ويضع في العنقريب ، ومن ثمة يحملونه نحو مصيره الأخير ، وبعد إجراء مراسم الدفن ، يتم حفظ البرش بعناية ، ويمنح إلي أقرب الأقربين ليحتفظ به ، في عاداتنا بالقبيلة يتم تداوله بين أبناء المتوفي أذا كان له أبناء كبار ، أو أشقائه إذا كان لديه أخوات ، كي يقام عليه مأتم سنوي ، تسمي هذه العادة بالبكاء السنوي ، وهكذا دواليك ، يلف البرش بين الجميع . ” وكل زول يعمل البكاء بتاعه ” طالما ما الِبرش موجود ! .. علي هذا الأساس تم تداول بِرش خالي في أكثر من مكان بالسودان ، في سنار ، قلع النحل ، الخرطوم ، ودمدني ، الدامر .. صرفوا أموال طائلة في التأبين والترحال ومصاريف الإنتقالات والإقامة والإعاشة وغيرها من الأشياء ، كل خال أو خالة أقاموا مأتمهم ، وظل الخلاف قائم ، لو كان فكر أحدهم وجمع شمل الأسرة في يوم تأبين خالي وإنتهز تلك الفرصة ودع إلي لم الشمل ونبذ الخلافات التي حدثت في الأسرة ، كان يمكن يحدث لم الشمل ويتوحد المأتم ، لكن كل واحد منهم همه هو ، أن يقيم مأتمه وكفي ، كي يثبت حبه للخال المرحوم . الذي مات وشبع موت ، لا يسمع ما يحدث ولا يشاهد مأتامهم المستمرة بالبرش .
هذه الواقعة تذكرتها وأنا أشاهد الرفاق ، يتعاركون بينهم كي يقيم كل كمرد مأتمه أو تأبين للرفيق ياسر جعفر السنهوري ، ليس من باب حبه للرفيق ، ولكن أعتقد ، وأتمني أكون مخطئ ، من باب الخلاف الذي حدث بيننا ، الرفيق ياسر جعفر كان مثل خالي تماماً ، يحب كل أخواته في الحركة الشعبية ، لا يميز بين هذا وذاك ، كان يتمني أن ينتهي هذا الصراع بأسرع وقت وبأقل خسارة ، قبل أن يموت ياسر جعفر بشهرين تقريباً حدثني عن ضرورة وحدة الحركة الشعبية ، وعن أهمية جميع الرفاق ، وقال ” اسمع يا ضحية والله العظيم ، الحركة الشعبية دي إن لم تتوحد بأخوي وأخوك في ناس بجوا بوحدوها بالقوة ، وكلامي ده بعدين تشوفه ) ، الأن مات خالي ياسر جعفر وصار بِرشه يتداوله الرفاق في كل مكان بالسودان كي يقيموا عليه مأتماً وعويلا ، فهل ينتهز أحدهم ، هذه الفرصة ويدعوا إلي وحدة الصف بين الرفاق الذين خرجوا من رحم معاناة واحدة ؟! .

أ/ ضحية سرير توتو / القاهرة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..