الهوامل والشوامل : عودة الميرغني وإعادة هوامل النخب الفاشلة

طاهر عمر
خطر بالبال بسبب عودة الميرغني ويا ليت لو قلنا عودة الوعي لأن الوعي لا يمكن أن يعود مع الميرغني وما أحوجنا لعودة الوعي كما كتب توفيق الحكيم معنونا كتابه وعلى أي حال عودة الميرغني وغياب الوعي تربطهما علاقة عكسية اما عودة الوعي أو عودة الميرغني فكانت عودة الميرغني . لكن لماذا عاد الميرغني وتأخرت عودة الوعي؟ يمكن أن تكون الإجابة على سؤال عودة الميرغني وغياب الوعي سببها سيطرة عقل الحيرة والاستحالة المعشعش على تلافيفه الخوف المرضي الذي يجعل من النخب السودانية أسيرة وحل الفكر الديني.
عودة الميرغني تفتح أبواب مغلقة وقد رأينا كيف سيطر الجهل المؤسس وكيف تكون العقول عليها أقفالها كما يقول محمد أركون وقد إستلف مصطلح الجهل المؤسس من اوليفيه روا الكاتب الفرنسي صاحب كتاب الجهل المقدس وهذا ما حدث مع عودة الميرغني وفقر فكر النخب السودانية المتفرنج والمعمم منهم كلهم قد أصبحوا ينطبق عليهم جهد عالم الاجتماع العراقي فالح عبد الجبار وكيفية عجز النخب العراقية في فك ارتباطها بالعمامة وأقصد جهده في كتابه العمامة والأفندي وها نحن نشاهد كيف ترتبط العمامة والأفندي وعقل النخب السودانية بوحل الفكر الديني.
إرتباط عقل النخب السودانية بوحل الفكر الديني تجلياته كثيرة جدا وهي علاقة الأفندي والعمامة مثلا مثول قادة الحزب الشيوعي أمام شيخ كدباس وتخفي الكيزان خلف مبادرة وبدر وغيرها من جهود المفكرين السودانيين وقد قرأنا مقال الواثق كمير وهو يتحدث عن توحيد الاتحاديين وتدخّل مصر في الأمر وكله يدخل في لوثة فكر يصعب الخروج منها.
لأنها قد أصبحت نتيجة توهان نخب سودانية على مدى قرن من الزمن أي منذ أيام أندية الخريجين وبعده كأتباع لمؤتمر الخريجيين وبعد إنهياره قد سيطرت فكرة العمامة والأفندي على عقل النخب الفاشلة وهم يتسابقون الى أحزاب الطائفية والى لحظة عودة الميرغني الأخيرة وغياب الوعي.
العمامة والأفندي نجدها أيضا في تحلّق الأفندية حول دراويش الصادق المهدي لتخليد فكره وتقف خلفهم جامعة الأحفاد وكلها مؤشرات توضح عجز النخب السودانية وغياب إدراكها الذي يفصل ما بين الدين والدولة ومعروف عداء الصادق المهدي لأي فكر ينزع نحو الأنسنة لدرجة أن في أيامه الأخيرة حاول محاولة خجولة بأن يصف المفكريين ذو النزعة الانسانية بالدهريين قلنا خجولة لأن الصادق المهدي كان يدرك بأن له سطوة على النخب السودانية وخاصة المتفرنجة منهم لكنه لا يتطاول على مفكري الخارج.
نضرب مثل بمهادنة كمال الجزولي للصادق المهدي والحديث على أن الصادق مفكر بل كان من ضمن من حاولوا تخليد فكر الصادق وهيهات ولا ننسى الحاج وراق وهو من نادى بمهادنة الطائفية ونسخة الشيوعية السودانية فلنترك الصادق رحمه الله ولكن ما يوجع مهادنة أمثال كمال الجزولي والحاج وراق لأمثال الصادق المهدي ولا نجد لذلك تفسير غير العمامة والأفندي كما فسر فالح عبد الجبار عدم فكاك النخب من عباءة رجال الدين ولهذا إذا تسألنا من يقف خلف عودة الميرغني وغياب الوعي ستكون الإجابة قد جاء الميرغني من علاقة الأفندي بالعمامة.
نعم قلنا أن للصادق المهدي سطوة على أمثال كمال الجزولي والحاج وراق ولكن لا يستطيع فتح أبواب الجحيم على غير النخب السودانية الفاشلة وهي مرتبطة بفكرة العمامة والأفندي.
نقولها بكل وضوح لا يستطيع الصادق المهدي ولا أتباعه مهاجمة فكر محمد أركون وهم مرتكزين على وحل الفكر الديني وتغيب عن أفقهم أفكار النزعة الإنسانية وقد تجلت في شعار ثورة ديسمبر حرية سلام وعدالة وهذا ما جعل الصادق يصفها ببوخة مرقة لأنها قد أوحت له بأن في ثورة ديسمبر تكمن نزعة انسانية مفارقة لعلاقة الأفندي بالعمامة وهذا ما لا يريده الصادق المهدي بل مصدر هم كبير له ان تكون هناك نزعة انسانية تحقق فكرة القطيعة مع وحل الفكر الديني.
وكثر لا يريدون لثورة ديسمبر أن تتدثر بثوبها ذو النزعة الانسانية الواضحة ويحاولون جهد ايمانهم أن تكون علاقة الأفندي والعمامة علاقة أبدية وهيهات لأنهم نسوا أن ثورة ديسمبر ثورة ديمقراطية بمعناها الهائل ولا يستوعبه غير الذي يستوعب التحول الهائل في المفاهيم وقد رأينا شعارات ثورة ديسمبر وكيف توشح الثوار بالعلم السوداني وأنشدوا هذه الأرض لنا وقد اشتروا المجد بأغلى ثمن.
وعندما نقول ثورة ديمقراطية نعني مفهوم صيرورة الديمقراطية وهي تعني أن تكون الديمقراطية بديلا للفكر الديني وعندما نقول أن تكون الديمقراطية بديلا للفكر الديني نقصد بالمعنى الواضح أن ليس مع الديمقراطية مرشد كما للكيزان ولا امام كما للانصار ولا مولانا كما للختمية بل للديمقراطية علاقة فرد بمفهوم الدولة التي يسودها مفهموم السلطة كمفهوم حديث بالتالي عودة الميرغني تعني غياب وعي سببه أن هناك علاقة للأفندي بالعمامة.
وعودة الميرغني لا تبتعد كثير من فكر الشفيع خضر الذي قد نادى ذات يوم بمساومة تاريخية بين يسار سوداني رث ويمين سوداني غارق في وحل الفكر الديني ولا تبتعد عن فكر محمد ابراهيم نقد في حوار حول الدولة المدينة حيث توصل فيه لعلمانية محابية للأديان وما هي إلا تحورات علاقة الأفندي والعمامة.
وأفكار محمد ابراهيم نقد هي امتداد لأفكار عبد الخالق محجوب منذ منتصف ستينيات القرن المنصرم وهو يبحث لدور للدين في السياسة السودانية وها هي حقنة السم التي حقنت بها شراين النخب السودانية لتقع في علاقة الأفندي و العمامة تعطي مفعولها مع عودة الميرغني.
بمناسبة عودة الميرغني التي تكشف علاقة الأفندي والعمامة هل ننسى مؤالفة النور حمد بين العلمانية والدين كما طرحه يوم خدعهم الكوز خالد التجاني النور في لقاء نيروبي وكان معه كل من كمال الجزولي ورشا عوض وقد شارك عبد العزيز حسين الصاوي بفكره من على البعد دون أن يذهب ومعهم كثر يعرفون أنفسهم.
عودة الميرغني تتويج لعلاقة نخب فاشلة بعمامة رجال الدين منذ ما يقارب الثمانية عقود. نخب سودانية ليس لها علاقة بثورة ديسمبر كثورة شعب متقدم جدا على نخبه الفاشلة. ونقول عودة الميرغني هي عنوان كبير لغياب الوعي ولا يهم إن جاء ليصطف في صف العسكر أم في صف من يزعمون أنهم أنصار الثورة وهم ليسوا كذلك ما داموا أبناء لأحزاب الطائفية والمرشد والسلفيين الذين فقدوا بريقهم في السعودية.
ثورة ديسمبر ثورة نزعة انسانية أعداءها كثر في الداخل وفي الخارج ففي الداخل أعداءها متدنئ الوعي الذين يتحلقون حول الثورة وهي تعاني من فكرهم الديني المتحجر وأعداء الخارج كمصر التي أرسلت الميرغني كآخر محاولة لها لفرملة الثورة المجيدة والسعودية التي لا تريد تحول ديمقراطي في السودان حتى لا يذكر شعبها بأن هناك نظم حكم مصدرها الشعب كمصدر للسلطة. والإمارات التي تريد أن تصير عملاق باستثماراتها في ظل نخب خايبة يقودهم عسكر يتأهبون للخروج من التاريخ.
سوف يمضي الزمان وتنقضي أحداثه وسوف تنجح ثورة ديسمبر وستنتصر النزعة الانسانية وتتصدر مشهد الفكر أفكار الثورة آجلا أم عاجل وستكون الديمقراطية كصيرورة بديلا للفكر الديني من كل شاكلة ولون ويوما سيعود الوعي الغائب لأزمان طويلة وسيختفي الميرغني كما اختفى الامام الصادق والمرشد الترابي وستنتصر انثروبولوجيا الليبرالية حيث تسود معادلة الحرية والعدالة لأننا في زمن الفرد والعقل والحرية.
وعلاقة الفرد بالدين شأن فردي لا يحتاج لا للميرغني ولا للمهدي لكي يدخلا الهوامل الى زريبة الهوامل فلا الميرغني ولا المهدي بقادرين أن يكونا من الشوامل لكي يعيدوا الهوامل الى زريبة الهوامل.
في الختام كتاب الهوامل والشوامل هو كتاب متكون من أسئلة ابوحيان التوحيدي الموجهة لمسكويه الذي أجاب عليها وأطلق على الأجوبة الشوامل وهي كما الحيوانات التي تعيد الهوامل من الدواب الى قطيعها.
وقد كان فكر محمد أركون بحث عن قطيعة الفكر الاسلامي مع نزعته الانسانية وقطيعته مع الحداثة وقد وجد في الهوامل والشوامل نزعة انسانية منقطعة النظير. وما أحوجنا للنزعة الانسانية التي تخلصنا من نخب فاشلة يعيدهم الميرغني كهوامل لزريبة الهوامل.
أحييك يا طاهر