أخبار المنوعات

محمد أركون: التفاعل بين دولة الحقوق والمجتمع المدني ظاهرة جديدة لم نكتسبها بعد

حوار مع المفكر الجزائري الراحل محمد أركون

نواصل فعاليات ندوات مؤتمر دراسات الشرق الأوسط .. وهو مؤتمر يشترك فية نخبة من المفكرين المهتمين بمنطقة الشرق الأوسط وثقافاته وتم عقده هذه المرة في العاصمة الامريكية واشنطن .. هذه المرة التقيت بالمفكر الجزائري الراحل محمد أركون هذا الحوار الاول الذي تم نشره في صحيفة الشرق الأوسط الدولية في August 2004 

ورأيت إعادة نشره لأنه تعرض لقضايا ما زالت تناقش في دوائر الفكر والثقافة .. ولم أتمكن من إجراء الحوار الثاني لأن برفيسور أركون تلقى مكالمة من جامعة السوربون حيث يعمل بأن يعود فورا إلى العاصمة الفرنسية بباريس .. وإلى مضابط الحوار:

المفكر الجزائري لـ«الشرق الأوسط»: العلمانية لا تشير إلى شيء في الأرضية المعرفية العربية إنما هي كلمة معلقة في الهواء

حوار: د. الفاتح إبراهيم

 واشنطن

* القول بالتعارض بين مفهوم الدولة والإسلام كدين عالمي هو عرقلة معرفية

* مفهوم مشروعية الدولة الإسلامية لا يزال قائما ومفتوح للنقاش

 

* سألني المفكر محمد أركون في البداية إن كنت أفضل إجراء هذا الحوار باللغة الإنجليزية أم بالعربية فقلت الخيار لك. وأردف متسائلا إن كنت سأنشره في مطبوعة عربية؟ فقلت نعم، فأجاب: إذن لنتحدث بالعربية. وهذا ما قادني إلى التساؤل لماذا إذن يكتب أركون بالفرنسية ثم تترجم أعماله إلى العربية التي يجيدها؟ ولعل هذا التساؤل يدور بخلد الكثير من القراء أيضا. وقد أجاب على ذلك بقوله: إن المجال الذي يكتب فيه يزدحم بالمفاهيم والمصطلحات الجديدة وهي متاحة في اللغة الفرنسية. وتتطلب متابعة وترجمة هذه المصطلحات جهدا ووقتا كبيرين قد يعيقان ويؤخران البحث، وتركت هذا الجهد للمترجم الذي قام به على أكمل وجه مما أتاح لمؤلفاتي النشر بالسرعة والدقة المطلوبة. ولعل هذا الذي أشار إليه أركون يثير النقاش من جديد حول دور المؤسسات ومجمعات اللغة العربية في الوطن العربي في ترجمة وتعريب المفاهيم والمصطلحات الحديثة وقدرة اللغة العربية والناطقين بها الآن على الاستيعاب ومواكبة التطور الجاري في عالمنا المعاصر. التقيت بالمفكر الجزائري أركون في العاصمة الأميركية واشنطن حيث ألقى محاضرة أثار فيها الكثير من القضايا التي رأيت أنها تستوجب المزيد من المناقشة والتوضيح فكان الحوار.

 

* أود أولا إكمال ما بدأته معك مناقشة حول موضوع الحدية في مجتمعاتنا أو فرض الفواصل الحادة في القضايا مثل هذا مسلم وهذا كافر علما بأن المسلمين الأوائل لم يكونوا يعانون من مثل هذه القضايا. لقد كان فكرهم منفتح على كل الثقافات، وكان المفكر منهم كابن سينا مثلا مطلعا على كل جوانب الفكر كالطب والدين والفلسفة والتاريخ، فلم تكن هنالك حدة أو حساسية في تقييم الأمور. ما تعليقك على ذلك ؟

 

ـ هذه ظاهرة طرأت على المجتمعات العربية بصفة خاصة لأن المجتمعات الإسلامية عموماً تختلف جدا بالنسبة لهذا الجو الذي نعاني منه منذ العشرين أو الثلاثين سنة الماضية. فإذا قارنا مثلا المجتمع الإندونيسي بالمجتمع السوداني أو المصري أو الجزائري نجد هنالك فروقا كبيرة. ولذلك يجب أن نميز بين ما حدث بالمجتمعات العربية منذ تحرر هذه المجتمعات من السيطرة السياسية للاستعمار الغربي إلى يومنا هذا. ظهرت أشياء لم نكن نعاني منها من قبل حتى في زمن الاستعمار. وأظن أن هذا يتعلق بأسباب أذكر منها ظاهرة الدولة وظاهرة السكان والضغط الديمغرافي في المجتمعات العربية، وأيضا ظاهرة الأيديولوجيا التي هي ظاهرة سياسية متعلقة ببناء الدولة في المجتمع العربي ومتعلقة أيضا بالعلاقات الدولية بين المجتمعات العربية. ظاهرة الدولة مهمة جدا ولم ندرسها كما ينبغي، لأن الدولة كنظام حكومي لم تسبق لنا تجربة في إنشائها منذ زوال الدولة العثمانية التي استمرت حوالي أربعة قرون. وخلال هذه الفترة لم نعتن بالتفكير في الدولة، بمعنى كيف نبني دولة حديثة. وأعني بالدولة الحديثة تلك الدولة التي ظهرت في أوربا لأول مرة ولم تظهر في سائر المجتمعات في العالم، الدولة التي تتبنى الدفاع عن حقوق الإنسان، المرتبطة بالمجتمع المدني والتي تساعد المجتمع أن يبلغ درجة التعبير الحر عن كل ما يرغب فيه، والدولة التي تستمع لما يقوله المجتمع والطلبات التي يرفعها لها. هذا التفاعل بين دولة الحقوق والمجتمع المدني ظاهرة جديدة تعتمد على ثقافة سياسية وعلى ثقافة حقوقية أو شرعية لم نكتسبها بعد. هذه ظاهرة تاريخية. وبمجرد أن أقول ذلك، يحس كثير من المثقفين العرب وأكثر من المثقفين أولئك الذين يحتكرون الدولة بأنهم يُنتقدون، وإنما أنا أذكر ظاهرة تاريخية. فلماذا لا نعترف بهذه الظاهرة؟

 

إن المجتمعات العربية تحت سيطرة الدولة العثمانية التي كانت تحكم في استنبول بعيدة عن سوريا ومصر والسعودية والجزائر وتونس كانت بعيدة كل البعد عن مركز الدولة في استنبول. لم نستفد أي شيء من التجربة السياسية في بناء دولة حديثة. والدولة العثمانية نفسها لم تعتن بتحديث المؤسسات السياسية التي كانت تعتمد عليها، بينما كانت المجتمعات الأوربية في نفس الفترة بعد القرن السادس عشر وحتى الآن، لم تزل تتقدم نحو هذا المفهوم الديمقراطي الجديد المبني على احترام حقوق الإنسان والمبني على الغاية التي استهدفتها جميع الدول الأوربية، وهي الغاية التي أنشأت وأنجزت بناء المجتمع المدني. واليوم لا يمكننا أن نشير إلى مجتمع عربي بلغ المستوى الذي يمكننا أن نشير إليه كمجتمع مدني تحترم حقوقه وتحترم فيه جميع الطلبات والرغبات التي ترتفع من أعضاء المجتمع وتوجه إلى الدول حتى تقوم الدولة بالتنفيذ، وتمكن هذا المجتمع من أن يتقدم ويتفاعل مع الدولة تفاعلا ديمقراطيا. هذا ما يعوزنا، وهذا يعوزنا في الفكر لأن الدولة والمجتمع المدني لا يمكن أن يظهرا إذا كنا لا يمكننا أن نفكر في هذه التطورات..

 

* ربما يعترض البعض على ذلك بقولهم إن مفهوم الدولة state «قد يتعارض مع الإسلام باعتباره دينا عالميا؟

 

ـ هذا التساؤل يعتبر في حقيقة أمره عرقلة معرفية، ولا يعتمد على تعرف تاريخي موضوعي للإسلام كفكر موجود أنشأه وأوجده مفكرون مسلمون كثيرون فيما نسميه بالعهد الذهبي للفكر الإسلامي. ليس الإسلام كدين وعقائد ولكن كاجتهاد فكري للتعبير عن الإسلام كدين. أعني بذلك مثلا تفكير الغزالي في السياسة والدين، وتفكير فخر الدين الرازي والفارابي في هذه القضايا المهمة. من ذا الذي تعلم وتعرف على هؤلاء المفكرين الذين أبدعوا في هذه القضايا؟ إن إبداع هؤلاء المفكرين في القرون الوسطى مرتبط بالمنظومة المعرفية الخاصة تاريخيا بتلك القرون. ما كان لأولئك المفكرين أن يفكروا على المستوى الفكري الذي بلغه مفكرون مثل جون لوك وهوبسن وفولتير وروسو، لأن الثورة الفكرية بالنسبة لجميع ما يتعلق بنظام الدولة، وبالدولة كمفهوم سياسي، قد تغير تغيرا جذريا في مستوى الفكر في أوربا في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر. وهذه الظاهرة التاريخية لا يريدها قسم من المسلمين المعترضون على الحداثة، ولا يريدون أن يدرسوا تاريخ تطور الأفكار السياسية والفلسفية والشرعية كما كانت في هذه القرون الحاسمة بالنسبة إلى إنشاء دولة الحقوق وإلى إنشاء مجتمع مدني. نجهل هذا، ونرفض على أساس جهل يفرض على جميع المفكرين والباحثين من الذين ينتمون إلى المجتمعات الإسلامية اليوم. فهنالك إرهاب فكري يمنع الباحث المسلم إن يقارن ويبحث وأن يحاول أن يفهم ماذا حدث للفكر الإسلامي، وما الذي جعل الفكر الإسلامي، الذي اعتنى بهذه الأفكار في القرون السابقة لا يعتني اليوم بها.

 

* هذا قد يقودنا إلى موضوع العلمانية والدين، إذا واصلنا الحديث عن المنتقدين لدعاة التحديث، فهم يقولون إن المفكرين دعاة التحديث تأثروا بقوة بالفكر الغربي وارتاعوا دهشة من الإنجازات التقنية الغربية ومن ثم يحاولون تكييف الإسلام وإخضاعه للمفاهيم الغربية، فماذا تقول في ذلك؟

 

ـ هذا كلام غير مبني على المعرفة التاريخية والتفكير التاريخي. وهذا ما يعوز الفكر العربي بصفة خاصة اليوم، لأن هذه الاعتراضات مبنية على معرفة خيالية وليس على معرفة محققة بأساليب التحقيق التاريخي لما حدث في تاريخنا نحن المسلمين ولما حدث في تاريخ الآخرين وخاصة في تاريخ أوروبا. يجب أن نحترم الأوضاع التاريخية، ولكن كيف نحترمها إذا ما جهلناها، وإذا فرض علينا أن نبقى جاهلين لها؟ هذه هي الكارثة التي فرضت علينا في السنين الثلاثين الأخيرة لأسباب سياسية كما حدث في الجزائر مثلا، إذ فرضت الدولة جهلا تاريخيا بما حدث في الجزائر كمجتمع، لا بعد الاستعمار فقط ـ والاستعمار له دور كبير ـ وإنما قبل الاستعمار أيضاً؟ كيف يمكننا أن نتصور ظاهرة الدولة بالمجتمع الجزائري قبل الاستعمار؟ ما هي علاقة الجزائر بالدولة العثمانية التي كانت تحكم الجزائر ثلاثة قرون؟ هذه أسئلة تاريخية ـ وقد منعنا عن التفكير فيها.

 

* على هذا الأساس ما هو رأيك بمفهوم الدولة الإسلامية؟

 

ـ أنا لا أعترض على مفهوم الدولة الإسلامية. أقبل المفهوم. ولكن كمؤرخ أدعو لدراسة هذا المفهوم. إلى ماذا نشير عندما نطالب بدولة إسلامية؟ هل نشير إلى الدولة الأموية ونظامها ومفاهيمها السياسية والشرعية، أم نشير إلى الدولة العباسية؟ أين هو النموذج الذي نرجع إليه والذي نريد أن نحييه في تاريخ الإسلام؟ هل نشير إلى الدولة العثمانية التي كانت دولة السلطان وليست دولة الخليفة؟ إن العلماء المسلمين ما رضوا أن يطلقوا على الدولة العثمانية وعلى من كان على رأس الدولة العثمانية لقب الخلافة إنما أطلقوا عليه لقب السلطان. ومفهوم السلطان في اللغة العربية وفي الفكر الإسلامي له أهمية كبيرة لأنه يدل على عدم المشروعية الإسلامية لدولة السلطان إذا ما قارناها بدولة الخلافة. والخلافة الإسلامية أزيلت في عام 1258 عندما دخل المغول بغداد، فمنذ تلك السنة ما سمعنا بدولة الخلافة. انقطعت دولة الخلافة إلى يومنا هذا. وقد ألغى أتاتورك الدولة السلطانية ولم يلغ دولة الخلافة. ومع ذلك ظل رشيد رضا وآخرون عندما ألغيت الدولة العثمانية يدعون ويعترضون على أتاتورك بأنه ألغى دولة إسلامية. وهذا يدل على أن هؤلاء لم يدرسوا تاريخ الدولة ولم يتعرفوا على شروط المشروعية الإسلامية للدولة. ما هي الشروط الإسلامية للدولة، لأن هناك أيضا دولة إسلامية ظهرت في أفريقيا ثم في القاهرة باسم الفاطميين.. وما هو الوضع الشرعي للدولة الفاطمية إذا قارناها بدولة العباسيين ودولة الأمويين؟ مفهوم الدولة الإسلامية ما زال قائما ومفتوحا للنقاش، والمسلمون أنفسهم كانوا طوال القرون الوسطى يتناقشون ويناضلون من أجل المشروعية الإسلامية للدولة. والجواب على هذا السؤال لم يأت به أحد من العلماء إلى يومنا هذا. وقد ذكرت في محاضرتي ذلك النص المدهش لأبي حامد الغزالي الذي يقول فيه في القرن الحادي عشر: إن الإمامة انتهت، وذلك قبل أن تنتهي سياسيا بدخول المغول كما سبق أن قلت. كيف نفهم هذا الكلام للغزالي؟ ولكن الذين يطالبون بدولة الإسلام لا يريدون أن يتعرضوا لهذه الأوضاع التاريخية التي حدثت في الفكر الإسلامي، ويطالبون بإحياء الفكر الإسلامي من دون أن يعترفوا بالباحثين المسلمين الذين يريدون أن يدرسوا هذه القضايا دراسة علمية تاريخية ليغذوا الفكر الإسلامي اليوم حتى نتمكن من إنشاء دولة قد تكون إسلامية، ولكن دولة إسلامية مبنية على تفكير معتمد على جميع شروط البحث التاريخي والبحث الفلسفي فيما يتعلق بمشروعية الدولة بصفة خاصة. هذا هو الوضع الذي نعاني منه..

 

* : ما هو في رأيك الحل؟

 

ـ الحل هو: أن تحمي الدولة جميع الباحثين وجميع المفكرين الذين يريدون أن يفرغوا جهودهم لحل هذه المشاكل. نطلب من الدولة وننتظر من الدول أن تشجع، لا أن ترهب، الذين يقومون بهذه البحوث. إن الدول الأوروبية في القرن السابع عشر والثامن عشر شجعت وأيدت المفكرين والفلاسفة والمؤرخين والباحثين الذين قاموا بتنشيط هذه الأفكار الجديدة التي مكنت المجتمعات الأوروبية من إنشاء دولة الحقوق. هذا ما حدث. ونحن مع الأسف، وأنا أستشهد بنفسي وأنا أستاذ أكتب عن هذه الأمور ومهنتي مخصصة للفكر الإسلامي والتاريخ الإسلامي، طول حياتي ما عرفت دقيقة واحدة ترتاح فيها نفسي حتى أتكلم بكل حرية عن هذه القضايا. أفرض دائما رقابة ذاتية على ما أكتب وعلى ما أقول وعلى ما أدرس لأني أحترم الوضع الذي أعاني منه كما يعاني منه جميع المسلمين. أحترم هذا الوضع وأفهمه، ولكن في الوقت نفسه أتألم من أن العدد الكبير من المواطنين في أي مجتمع عربي اليوم يتعرض لمضايقات عنيفة إما بالكلام أوالقلم وإما لعنف قاتل ومهلك مع الأسف.. هذه ظاهرة قتلت روح البحث وروح تنشيط الفكر في مجتمعاتنا.

 

* تحدثنا قبل ذلك في مسألة العلمانية والدين. نريد رأيك في مفهوم العلمانية، لأن هنالك الكثير من الخلط والتشويه، وحتى ترجمة المصطلح إلى العربية غير دقيق.

 

ـ كلمة العلمانية لا تدل على شيء وليست لها أرضية مفهومية ولا تاريخية ولا فلسفية في اللغة العربية إنما هي كلمة معلقة في الهواء. كيف نهتدي إلى شيء يُعتمد عليه إذا استعملنا كلمة لا تشير إلى شيء في الأرضية المعرفية العربية؟

 

* علق بذهني قولك في المحاضرة التي ألقيتها إنه من المهم بداية تحديد المفهوم لأنه إذا لم يتم تحديد المفهوم بشكل صحيح فإن كل ما يُبنى على ذلك يكون غير صحيح. هلا فصلت لنا هذه الفكرة؟ ـ هذا صحيح فإذا لم يُحدد المفهوم فإن ما يأتي بعد ذلك لا شيء وإنما فراغ يؤدي إلى قتال ونزاعات. وهذا المفهوم الذي نحن بصدده الآن «العلمانية» إذا أردنا أن نبنيه ونجعله مفيدا وعمليا في اللغة العربية يجب أن نؤرخ له. كيف نشأ هذا المفهوم في المجتمعات البشرية والأوربية؟ والأوربيون بشر مثلنا وناس عندهم إيمان بالله. لم يكفروا كلهم بالله، وإلى يومنا هذا هنالك مؤمنون فلماذا لا نحترم هؤلاء المؤمنين؟ هذا يدل على عدم تسامح بين الشعوب والمجتمعات. ولذلك إذا سجلنا تاريخا موضوعيا لمفهوم ما نسميه بالعلمانية عند ذلك نكتشف أن الاصطدام الفكري بين ما أسميه العقل الديني وبين ما أسميه العقل الاختياري النقدي هو نزاع يتعلق بالبنية النفسانية للذهن البشري، وليس بنزاع متعلق بمجتمع من المجتمعات أو بثقافة من الثقافات. هذان اتجاهان نجدهما في جميع الثقافات البشرية التي ظهرت على وجه الأرض.. فهو نزاع إذن راسخ في البنية النفسانية للذهن البشري. ولذلك يجب أن نعرض عن هذه الفكرة التي تركز على العلمانية كشيء خاص بأوربا والغرب ولا يتعلق بما حدث عندنا كمسلمين. إذا قرأنا مثلا مواقف ابن رشد من العقل الديني من جهة والعقل الفلسفي من جهة أخرى، وقد اعتنى بتعريفهما تعريفا علميا فلسفيا في زمنه،.. عند ذلك نجد أن الفكر الإسلامي والمفكرين الإسلاميين في القرون الوسطى قد اعتنوا بهذا المشكل، مع إنهم مع الأسف لم يتقدموا في هذا التفكير حتى ينتهوا إلى ما انتهى إليه المفكرون الغربيون بعد ابن رشد. وهكذا نرجع دائما إلى التاريخ حتى نفهم ما هي الأرضيات الفكرية والثقافية التي تعتمد عليها هذه المفاهيم التي نستعملها من دون أن نفهمها ودون أن نحللها. مفهوم ما نسميه بالعلمانية قد تطور تطورا حاسما في القرن الثامن عشر عندما حدثت حادثة فكرية وحادثة سياسية، والحادثة الفكرية هي التي أدت إلى الحادثة السياسية. والحادثة الفكرية هي التي تقول إن الأديان ظاهرة بشرية. وهذه الظاهرة البشرية تعتني بالعقائد والعقائد خاصة بكل إنسان ويفهمها الإنسان حسب ميله إلى ثقافته إلى أن يتدين بدين من الأديان، أو أن يتدين بمواقف فكرية يجدها في الفلسفة أو في العلوم وغير ذلك.لقد أتوا بفكرة الحرية في الاعتقاد، ولم يقولوا قط بإلغاء العقائد أو رفض الأديان كعقائد، وإنما قالوا بضرورة فتح المجال لحرية الاعتقاد حتى يتفق المواطنون على بناء دولة تعترف لجميع المواطنين بحقوق الحرية في الاعتقاد. هذا هو الأساس الفلسفي للتمييز بين المناطق التي تعتني بها الدولة، وتنظمها والمناطق التي تختص بالأديان، وهي مناطق شخصية خاصة وليست بمناطق عمومية، لأنها إذا فرضت العقائد الدينية فرضت على جميع الناس الذين يعيشون في مجتمع من المجتمعات،فإن ذلك سيؤدي بلا شك إلى الحروب الدينية كما أدى إلى الحروب في أوروبا في القرن السادس عشر والسابع عشر بعد ظهور البروتستانت ضد الكاثوليك.

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..