البشير : الهروب عبر الأبواب الخلفية..!!

بسم الله الرحمن الرحيم

عبدالله مكاوي

يبدو أن مشاركة البشير في القمة الأفريقية الأخيرة، سحبت البساط من تحت أقدام القمة وأجندتها، وجعلتهما معلقان في الهواء الطلق! وإحتمال الأحداث الداخلية أيضا، من تشكيل الحكومة(سفينة نوح الوزارية الدستورية المستشارية!) وخلافه. بعد أن تحولت الإهتمامات برمتها، تجاه المواجهة الحامية الوطيس، بين القضاء الجنوب أفريقي والحكومة الجنوب أفريقية والمحكمة الجنائية الدولية، من جهة! وبين البشير والوفد المرافق له وبقية مكونات الحكومة في الداخل، من الجهة المقابلة. وبقية جماهير وأنظار العالم، إتخذت موقع المشاهد والمتابع، وأحيانا موقف الطرف او الحكم، في هذه المواجهة الدولية، المنقولة علي الهواء مباشرة. وكانت المواجهة، تدريب وتثقيف قانوني، او تنشيط للذاكرة القانونية عابر للدول والمجتمعات، وتاليا تَصدَّر التعليقات نجوم الشأن القانوني، بعد أن إستقرت الكرة في ملعبهم. والأصح، بعد أن تحول البشير نفسه، الي قضية عالمية متحركة او متهم دولي! تثير حركته الخارجية، قرون إستشعار المحكمة الجنائية الدولية و ريبة منظمات المجتمع المدني، ذات الطابع الحقوقي. بمعني آخر، تم حشر الدولة السودانية كلها، في قفص الإتهام والتشهير (شيل الحال!)الخارجي، أو أقلاه إندياح الآثار السلبية للتهمة والمتهم، علي الدولة والمجتمع! المختطفان بين يدي البشير وصحبه (الرباطة!). وكل هذا يشير الي حضور طاغٍ للمحكمة الجنائية الدولية، إعلاميا وجماهيريا، وتاليا يرسخ من أقدامها ووظيفتها ومكانتها دوليا، بعكس ما يشيِّع بعض أنصار النظام المصدومين والأصح المخلوعين. وعموما، لا أعتقد أن القمة الأفريقية خسرت كثيرا، من هذه السيطرة الإعلامية لقضية البشير او سابقة البشير، بإستلاف تعبيرات أهل القانون. فإضافة الي أن الهيئات الدولية والإقليمية تعقد فاعلياتها، من أجل إبراء الذمة وإعلان الحضور وتبرير الإمتيازات الدبلوماسية والمادية فقط! بعد أن طاولها عجز الفعل والتحكم في الأحداث، من كل جانب! إلا أن الإتحاد الأفريقي، قد يكون من بين تكويناتها الأكثر سوءا وعجزا والأقل تنظيما وإعدادا. وذلك ليس بسبب كونه تجمع يكاد أن يكون حكرا، علي المستبدين، من كل شاكلة ولون ومرحلة تاريخية! ولكن لأنه حاول أن يشرعن هذه الإستبدادات، بالإبقاء عليها كما هي، علي أن يمنع الإنقلاب عليها! أي تجريم إرتكاب نفس الجريمة!! بمعني، إن حساسيته الديمقراطية ونزعته الحقوقية العدلية، في غاية التدني والإنخفاض! ولا تعدو كونها أحد مظاهر الوجاهة للإتحاد، كغيرها من البدل الأنيقة، التي يرتديها قادته بكل ثقة وشموخ، كتعبير عن مبلغ حداثتهم وتحضرهم. مضاف لها بالطبع، فوائد الأسفار والمؤتمرات العديدة، كتسليط الأضواء والمزيد من شرعنة الأوضاع القهرية، التي ترزح تحت نيرها، بلدانهم وشعوبهم المغلوبة علي أمرها! بعد رفدها بالدعم الدولي(مشاركة الأمم المتحدة وغيرها!) والإقليمي! أي المصالح والمنافع القيادية الأفريقية المتبادلة. من هذا المنظور، تصبح خسارة القمة محصورة فقط، في سرقة الأضواء الإعلامية، بعيدا عن ونسة وبدل القادة الأفارقة العظام. أما ما يلي الدولة السودانية من هذه المشاركة في القمة، فيكفيها بلاءً وخسرانا، أن مجرد مشاركة رأس الدولة في فاعلية إقليمية، لا تتعدي كونها أمر روتيني لا يثير حتي الإهتمام الجاد. إلا وتتحول الي فضيحة وطنية بكل المقاييس، ووبال علي الحكومة الإنقلابية، وحصار وتمريغ كرامة لرأس الدولة، الذي أصبح كالفأر في المصيدة! تتربص به الشرعية الدولية وتحاصره الطلبات القانونية القضائية المحلية، وتطارده منظمات المجتمع المدني الطوعية. وهو يستجدي الرحمة والعطف من رأس الدولة المضيف! الذي تكبدت صورته ومكانته خسائر فادحة. من جراء السماح بقدوم رئيس مطارد ومتهم، الي أرضه وبين شعبه. وبكل ما تحمله هذه الإستضافة، من تحدٍ للمحكمة الجنائية الدولية وأوامرها الصادرة بالإعتقال! في دولة ديمقراطية وموقعة علي قبول تكوين المحكمة وسلطاتها. ولذلك ملابسات هذه الدعوة تحتاج للمزيد من التقصي! خصوصا وأنه ليس هنالك مصلحة واضحة، يمكن أن يجنيها رئيس دولة جنوب أفريقيا، من هذه المخاطرة! او المغامرة بدعوة رئيس مطارد، يتفاده كل الرؤساء الديمقراطيون، خوفا من الإحراج مع شعوبهم. ولكن من المحتمل أن رئيس دولة جنوب أفريقيا، يطمع في إحداث إختراق حاسم في المأساة السودانية المتطاولة، كإنتصار خارجي وإنجاز شخصي يساهم في رفع شعبيته المتداعية، وأعتقد وأهما أن التقارب مع البشير مدخله لذلك. وكتخمين شخصي لا يستند علي معلومات، أعتقد أن مبادرة المشاركة كانت من البشير شخصيا، وليس من الرئيس الجنوب أفريقي الذي إلتقط القفاز فقط! أما كيفية إقناع رئيس دولة جنوب أفريقيا بقبول مبادرة(شرك!) كهذه، وهو متمرس في العمل الديمقراطي، ويعلم طبيعة القوانين الحاكمة لدولته، وقبل ذلك قبولها الأنضمام للمحكمة الجنائية! فهذا ما يستعصي علي التفسير رغم المجازفة بالإحتمال أعلاه. وإذا صدق هذا التخمين، لا أعتقد أن للمستشارين القانونيين حول البشير ذنب في هذه المشاركة، إلا بقدر مجاراتهم لرغبة البشير خوفا منه! وعمل المستحيل للوصول بها الي بر الأمان. وما يؤكد هذه الفرضية، أن البشير لم يقم بمحاسبة أي شخص، بعد عودته سالما جسديا محطما معنويا، من هذه المحنة! التي تحولت بقدرة قادر الي إنتصار يستحق الإستقبال! مع الوضع في الإعتبار، أن مسرحية الإستقبال نفسها، كانت تمويه او شغل للبشير! بمعني، لو حدثته نفسه للتضحية ببعض الأفراد، وإتخاذهم ككباش فداء لغسل عار هذه المحنة! فالإحتفال والإستقبال والطرب كفيل بكف شره. المهم، إذا صدق الإفتراض أعلاه، ما هي الأسباب التي تدعو البشير للمشاركة في هذه القمة (الملغمة) بالمخاطر المحدقة! هنالك عدة أسباب:

أولها، ما ذكره الأستاذ التوم هجو، علي القناة الفضائية الفرنسية العربية، في برامج يتعلق بأصداء الزياءة، وهو محاولته إقناع البسطاء بأنه بطل وقادر، او هذا ما فهمته من إجابته. وكإمتداد لإجابته، ما ذكره البعض، عن إثبات تحديه للمحكمة الجنائية الدولية، او إحراج المحكمة، كما يقول أنصاره وهم(منفوشين كالديوك!).

ثانيها، وهو الأهم في إعتقادي، محاولة ترميم شرعيته المطعون فيها عزوفيا عن الإنتخابات! فهذه المسألة أعتقد أنها تؤرق البشير حقيقة، لأنها تغالط وهم الإلتفاف الشعبي حوله، الذي يبرع أنصاره في تأكيده له، عبر المواكب الجماهيرية مدفوعة الثمن! خصوصا بعد أن رأي بأم عينه، فراغ مراكز الإنتخابات من الناخبين. بما لا يمكن إنكاره او إثبات عكسه. إلا بمحاولة إنتحارية كالتي قام بها البشير! والتي أعتقد أنها جاءت بنتائج عكسية، علي كل المستويات. أي إجتمعت عليها، إضافة الي نقص الشرعية الداخلية! إهانة الكرامة والجرسة الخارجية. وهذا يمثل أول مسمار حقيقي، يدق في نعش البشير المحطم! أي الهزيمة النفسية وإنهيار جدار وهم التأييد الشعبي.

وثالثها، من أسباب المجازفة، هي قلة معرفة البشير بطبيعة العلاقات الدولية، وصرامة وطول نفس تطبيق القوانين الدولية(علي الضعفاء خاصة) وقوة وإستقلالية المنظمات المدنية في الدول الديمقراطية، من جهة! ومن الجهة المقابلة، تمتعه بنوع من التهور والرعونة كصفات شخصية، تدفع بصاحبها الي المجازفات غير محسوبة العواقب! وبتعبير آخر، يصدق أنه أسد أفريقيا الحقيقي، بالمعني الحرفي والغابي للكلمة! أو إنه(أرجل!) قائد في أفريقيا بالمعني الشعبي للكلمة! ولذا فهو قادر علي تحدي المحكمة الجنائية الدولية(الكابوس الملازم له)، وفعلها أكثر من مرة(ولكن أين؟).

والبشير المسكين، بعد إعطائه الضوء الأخضر داخليا(من مستشارين مرعوبين!) وخارجيا(رئيس دولة جنوب أفريقيا الطموح!). ذهب البشير الي دولة جنوب أفريقيا، متوهما أنه سيعلن تنصيبه الآخر(القاري) من دولة جنوب أفريقيا! كما سيعلن من أرضها، تحديه وإزدرائه للمحكمة الجنائية الدولية، ومحتمل أنه جهز ألفاظ السباب والشتائم التي سيكيلها لها. ليفاجأ بعد وصوله بسيناريو مُغاير! تحول فيه البطل علي الورق، الي مجرم مطلوب ومطارد علي أرض الواقع! يتحسس طريق فراره في العتمة، مستجديا العطف، متوسلا بالضمانات التي وعد بها! وتاليا إنقلبت خطط الهجوم، الي وسائل إستعطاف للخروج من المأزق! لينسَ خلالها القمة وشجونها، بعد أن تحولت في رمشة عين وإنتباهتها، أو عند وصوله أرض الأحرار والبطولات والتضحيات، الي غمة خانقة ومرعبة. ذُرفت فيها دموع مرافقيه من قلة الحيلة والعجز والإحباط! وخرصت فيها أجهزة الإعلام الداخلية، وتضاربت آراء وأحوال أعضاء الحكومة في الداخل والخارج! بعد أن أُسقط في أيديهم، ووجدوا أنفسهم في مكانة لا يحسدون عليها، كحالهم في الملمات. تتنازعهم المخاوف والأطماع، من تبعات الحدث الجلل! أي الخوف علي مصالحهم، في حالة عدم عودة البشير، الحامي والمدافع عن هذه المكاسب غير الشرعية! وفي نفس الوقت، الطمع في وراثة منصبه وإحتكار دفة القيادة! وتاليا توظيف السلطة المغتصبة، في الصعود و جني المزيد من المكاسب والمصالح. ليقضِ البشير أسوأ وأطول مأساة في حياته، منذ إعتلائه الغادر لسدة السلطة! مما يذكر بما يحكي عن النميري، أيام الإنقلاب عليه، وفقدانه معينات الشجاعة وأدوات السطوة والغرور، وتحوله الي عصفور مهيض الجناح. وبعد فترة الحبس الإجباري، والمنازعات بين الحكومة الجنوب أفريقية من جهة، والهيئة القضائية من جهة أخري. وجد البشير وسيلة للفرار عبر الأبواب الخلفية، وهو غير مصدق! مستفيدا من ثغرة المطارات العسكرية، وحصانتها العصية علي الرقابة القضائية. ولكن المؤكد، أنها عودة تحمل من الإنكسار والخسران، أكثر مما تحمل من فرحة النجاة، رغم أنف الإحتفالات المخادعة. لتبدأ مسيرة وقصة أخري، في حكاية البشير مع السلطة من ناحية! والمحكمة الجنائية الدولية، من الناحية المقابلة! مع إمكانية منحه ألقاب إضافية، كالرئيس الهارب و الفارس الفار..الخ.

وهذه الأحداث الدرامية أكدت عدد من الحقائق، التي أشار إليها البعض، ولكن أهمها:
أولا، قوة منظمات المجتمع المدني في دولة جنوب أفريقيا، وهي دلالة علي مدي التطور الديمقراطي والدستوري، الذي وصلت إليه الدولة! وهو ما يعكس التطور العام في كل المجالات. بمعني، تطور منظمات المجتمع المدني، هي دلالة علي تطور الدولة وحيوية المجتمع، والعكس صحيح.

ثانيا، إن حكومة دولة جنوب أفريقيا إرتكبت خطأ كبير بدعوتها للبشير، مما جعلها في مواجهة مباشرة مع القضاء الجنوب أفريقي، الذي يتمتع بالإستقلالية. مما يُنذر بتدحرج كرة الصراع الثلجية، بين الهيئات الدستورية والإدارات الحكومية. وكان الأفضل والأوفق، أن تقوم حكومة دولة جنوب أفريقيا، بواجب إعتقال البشير. إن لم يكن لخاطر أرواح الشهداء، التي ترفرف فوق ضمائرنا وهي تستصرخ القصاص القصاص. فمن أجل الإلتزام الديمقراطي القويم و الحس الحقوقي العدلي المستقيم. ولكن تجدر الإشارة الي أن حكومة دولة جنوب أفريقيا، إستفادت من أن الفاعلية المنظمة داخل أرضها، فاعلية إقليمية(ينظمها الإتحاد الأفريقي!) وهي منظومة لها قوانينها وحصاناتها، ولها حساسية خاصة تجاه المحكمة الجنائية الدولية(بحكم الريش الذي يغطي رؤوس قادته!). وعموما لوم حكومة جنوب أفريقيا او غيرها لا يجدي. لأن المسؤولية الحقيقية لإزاحة البشير عن السلطة، ومن ثم محاسبته، هي مسؤولية وطنية وسياسية وأخلاقية، تخص السودانيين حصريا. وهذا غير أن التدخلات الخارجية بأي شكل من الأشكال ودرجة من الدرجات، لها نتائج سلبية في المدي الطويل، علي سلامة وإستقلالية القرارات والمصالح الوطنية العليا. ولكن ذلك لا ينفي توظيف التناقضات الخارجية، في سبيل المصلحة الوطنية! ولو أن الدول الضعيفة، دائما ما ينحسر هامش مناوراتها ومصالحها، عند مصادمتها للدول الكبري! وهو ما يشير من طرفٍ خفٍ، الي أن الإرادة الدولية لمحاسبة البشير، ليست جادة او تعاني من قلة المصداقية وتضعضع المبدئية! وإلا لتم هذا الأمر منذ وقت مبكر، ضد نظام بهذه الدرجة من الضعف الخارجي والكره الداخلي. بتعبير آخر، وكما دلت التجارب التاريخية الحديثة، أن المصالح الخارجية، تجد الدعم والرعاية، في ظل وجود حكام مستبدين، وبصورة أكبر ضعفاء ومطاردين! أكثر مما تجدها في ظل وجود رؤساء منتخبين وأقوياء، يستمدون شرعيتهم من القبول الشعبي والروح الوطنية الأصيلة.

وثالثا، تعود البشير علي إهدار الفرص، والإستفادة من الأخطاء، علي الأقل بتقديم إستقالته لإنقاذ ما تبقي من ماء وجهه! ولمنحه بعض الحصانة ضد العقوبات المنتظرة، التي تترتب علي هذه الأخطاء والكوارث المتتالية التي أدمنها! وهذه المحنة الأخيرة تمثل واحدة من هذه الفرص المهدرة! ولكنها تؤكد المؤكد للمرة الألف، ألا فائدة ترجي او تتوقع منه في هذا الشأن، رفعت الأقلام وجفت الصحف ويئست الحناجر المطالبة به.

رابعا، أثبتت هذه الحادثة أن الدول المختطفة بواسطة المستبدين، تعاني من نفس أمراض وهواجس المستبدين، والأسوأ تنال نفس الإهانة والعار الذي يلحق بالمستبدين! جراء محاسبتهم او محاكمتهم علي أخطاءهم وجرائمهم التي يندي لها الجبين! خصوصا عندما تكون هذه المحاكمات في الخارج، وبعيدا عن رقابة وإمكانات ومسؤولية الشعب في الداخل! صاحب المصلحة الحقيقية ليس في المحاكمة فقط! ولكن قبل ذلك، لرد الإعتبار من ناحية، وللتخلص من الطاغية وتراثه وآثاره، بعد وضعه تحت رحمة الشعب، والأهم مواجهته بنتائج أفعاله، وأوهام التمتع بالشعبية والمقبولية، وجها لوجه، من الجهة المقابلة.

أما أهم نتائج هذه المحنة البشيرية:
أولا، أنها عرفت البشير بحجمه الحقيقي، أي بقدر ما هو إنقلابي ومستبد ومخرب في الداخل، بقدر ما هو مطارد ومنبوذ في الخارج.

وثانيا، كشفت هذه المحنة الإنقاذوية، عن كم هائل من التخبط والعجز الذي تعيشه المنظومة الحاكمة في الداخل! فهي لا تعتمد علي حائط البشير المائل في البقاء فقط! ولكنها أعجز من إنتاج نموذج كالبشير بكل أعطابه وإفلاسه! بمعني، هنالك عقم قيادة يجتاح المنظومة الحاكمة، وهو ما يؤكده بقاء البشير وبتواضع قدراته طوال هذه الفترة! بقول آخر، ما يجمع العناصر المحيطة بالبشير، هي ثقتها في البشير، بقدر عدم ثقتها في بعضها البعض! أي البشير بكل عجزه وفشله، يشكل ضامن(مغنطيس!) تلتقي عنده كل الجماعات والأفراد والمصالح المتنافرة، والمهجسة ضد بعضها البعض.

وثالثا، أظهرت أيضا، كم الدفاع المتطرف عن البشير، وبكل هذا الإستخفاف والإستهبال والإستعباط، الذي يدعو للرثاء! وبألفاظ أقل ما يقال أنها عيالية(من نوعية ابوي يدق ابوبك واخوي اقوي من اخوك!) من شاكلة أسد أفريقيا والأسد النتر..الخ من ألفاظ دفاع! تصدر عن ما يفترض أنها نخبة تسيير أمور الدولة(اللادولة!) وقبل ذلك تلقت قدرا كبيرا من التعليم والخبرات العملية، بل بعضهم يعيش في دول أوربية ويستمتع بمناصب إعلامية وثقافية! أي واجهة البلاد الخارجية، ويا لها من واجهة! فاستخدام مثل هذه الكلمات التي تذكر ب(شكل الشفع زمان!) تدلل علي قدر المستوي من التواضع الإعلامي والمهني، بل حتي الأخلاقي الذي وصلنا إليه! والذي يعكس بدوره كم التدهور والإنحدار الذي نخر جسد الدولة السودانية، ليس في الداخل فقط! ولكن في الخارج وبصورة أكثر كارثية. أما المقلب الآخر من المأساة، فهو يصور المدي من الإنحطاط الذي يصله المتكسبون من السلطات الإستبدادية، في سبيل تحويل فسيخ المستبد(البشير) الي شربات(إنجازات متوهمة، من نوعية الهروب!). والأغرب أنهم يقومون بهذه الأدوار الأراجوزية مدفوعة الثمن (المناصب غير المستحقة!) بكل ثقة وأطمئنان او إنفعال مصطنع يبز أكبر الممثلين المصريين! ما هذا الدرك السحيق، وطنيا ومهنيا وأخلاقيا، الذي وصلنا إليه؟! وكل من تابع القنوات الفضائية التي تناولت هذه الأحداث، وأقوال وتعليقات أنصار الحكومة عليها! مؤكد أنه أصيب بالغثيان وضرب كفا بكفٍ، وهو ينظر أسيفا حسيرا آسيا علي هذا الإنهيار الشامل. وبكلمة واحدة، كشفت هذه المسخرة الرئاسية الأخيرة، الغطاء عن سوء الحال الذي وصلت إليه البلاد، وخطورة المآل الذي ينتظرها، إذا لم تتكاتف الجهود الوطنية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

أما مساهمة حبيبنا السيد الصادق المهدي، في هذه المعمة الدولية فأمرها عجبا! فهو كما عودنا، يتقلب دهرا وينطق كثيرا من الإستسلام وقليلا من الحكمة! ويبدو أن السيد الصادق المهدي في نسخته الأخيرة، تلبسته الروح المانديلية المتسامحة! فهو بعد خطابه الأخير للسيسي، مستشفعا في الجماعة الإسلاموية المصرية في محنتها الداخلية، مُغلبا روح التسامح والحكمة حيالها! الشئ الذي أغضب او فتح عليه، جهنم النخبة المصرية، الكارهة للجماعة وأفعالها الشيطانية! والمستعلية بدورها تجاه كل ما يصدر من دولة جنوب الوادي. التي لا تصلح في عرفها إلا أن تكون متلقية لمعارفها وحكمتها، وقبل ذلك ممررة لكل مصالحها مجانا وبقدر عال من الصمت بل والفرح! وهي سلفا في عرفها/ثقافتها/تربيتها، تنظر لنخبة جنوب الوادي ورموزها علي أنها ليست مؤهلة بحال من الأحوال، لتقديم النصح او الحكمة او مصالحها الخاصة، للأخت الكبري، تاريخيا والي الأبد!! المهم، قبل ان نستفيق من هول الخطاب الموجه للسيسي، بخصوص الجماعة الإسلاموية المصرية المغضوب عليها! ليجر علينا تركة كاملة وتاريخ دامٍ، من إستخفاف أبناء المحروسة. يفاجئنا السيد الصادق المهدي، بخطاب شديد اللهجة لحكومة جنوب أفريقيا(التي لا تحتاج لنصح في هذه القضية تحديدا، بقدر ما تحتاج لشد الأذن او لرادع يشكمها ويفرض عليها تطبيق طلبات المحاكم الداخلية و توجيهات المحكمة الجنائية الخارجية، كما تنص دساتيرها المحلية وتعهداتها الدولية!) يطلب منها أن تحترم رمز السيادة الوطنية!! مسترشدا بضلاله القديم، عن تقديم المصالح الوطنية علي العدالة الدولية، وفقا لإعتقاد قاصر يعشش في أطروحاته منذ فترة طويلة، وهو أن هنالك تعارض وتناقض لازم يربط بينهما! ولا يُحل إلا بالإستجابة لحكمته، المستقاة بتصرف مخل وتصور قاصر، لمفهوم العدالة الإنتقالية، كما أعتقد! بتعبير آخر، إن العدالة الإنتقالية وتسامي الروح المانديلية تحتاجان لشرطان، أولهما، أن يكون ميزان القوي في صالح المظلومين، أي في جانب الحق العام، او أقلاه أن تتعادل الكفتان، صاحبة الحق العام والمغتصبة للحق العام! أي لا ينتجان من فراغ او حالة ضعف. وثانيهما، أن يكون الجانب الظالم او المستبد او المغتصب للحق العام، واعٍ بخطورة موقفه، وتاليا قابل للمقايضة بين التنازل عن سلطاته المطلقة، وبين الحصول علي حصانة وعفو عام وفرصة لمشاركة الآخرين في تشكيل المستقبل! وبتعبير واضح، يملك القابلية للتكيف مع الأوضاع المستجدة، والتي تنحو نحو المشاركة الجماعية والحقوق الجماعية، والقطع مع الإستبداد وثقافته، ونزع أدواته من كل الأطراف المشاركة في العملية السياسية او في إدارة شأن الوطن. وكما نري ونعايش كلا الشرطان غير متوافرين في واقعنا الراهن. بل زاد الطين بلة أن النظام إرتكب أخطر الجرائم(الإبادة الجماعية!) وأظهر صمم وعناد شديد، ضد دعوات الإصلاح المتواترة! وهذا دون قول شئ، عن الوقر الذي يلازم وعيه وقلبه، فيما يخص تقديم أي قدر من التنازلات الجادة والمؤثرة، في معادلة السلطة وقوانين الحكم! كما أنه أقل حساسية تجاه المستقبل او الأخطار المحدقة به من كل إتجاه. ولا يعني هذا أن النظام قوي ومتماسك، ولكنه للأسف يعني، أن المعارضة أكثر ضعفا وتفككا! من أن تفرض أجندتها او أطروحاتها او تسامحها. والمؤسف أيضا، أن السيد الصادق المهدي، يتعامل مع نظام خبره تماما، ويعي أنه لا يفهم، لا معني المصالح الوطنية ولا قيمة وأهمية وإستمرارية العدالة الدولية. ولكنه يعي فقط، المصالح التنظيمية وبصورة أخص مصلحة البشير الشخصية! والتي ظل ومنذ صدور قرار المحكمة الجنائية الدولية بمثوله أمامها، وهو يقايض سلامته الشخصية بسلامة الوطن! ويرهن الوطن، ليس لسيف العقوبات والتهم المسلطة عليه خارجيا! ولا يمانع بالتضحية بالوطن وأمن المواطنين، في سبيل خلاصه الفردي فقط! ولكنه يحاول تعسفا وإستغفالا، تصويرهما وكأنهما شئ واحد! أي كرامة الوطن من كرامة البشير وسلامة الوطن من سلامة البشير.

ولكن ما يعيب الروح المانديلية التسامحية لدي السيد الصادق المهدي، أنها روح تعجز عن دفع أكلاف مكانتها وتسامحها وزهدها العام! ليس بسبب، أنه ليس في موقف يمكنه من بذل تلك الروح، لأن البشير نفسه لا يقع تحت رحمته كما أسلفنا! ولكن لأنه لم يقدم النموذج، الذي يسمح لتلك الروح، أن تحدث فعلها وتأثيرها في الآخرين. بل العكس قد يكون أصح، فالسيد الصادق المهدي، أظهر جرأة منقطعة النظير عن رؤية تقلباته وأخطاءه! إضافة لتسلطه علي حزب الأمة، لدرجة تعامله مع حزب الأمة كميراث عائلي، لا يستنكف أن يورثه لأحد أبنائه او كريماته! أي كغيره من الأراضي والمنازل والأثاثات..الخ! بدلالة غير سيطرته علي الحزب مذ كان شابا يافعا حتي صار شيخا هرما! ولكن لإرساله نماذج هذه الخطابات دون الرجوع لمؤسسات الحزب! وهذا إذا كان هنالك حزب أصلا، يتعدي منطق وقدرات وملكات وصولا لمصالح السيد الصادق المهدي حصريا! فهذه الروح المتسامحة كان الأولي بها، المفصولون والمغضوب عليهم، من أعضاء حزب الأمة! بل كان الأولي بها، تحرير منصب القيادة لحزب الأمة، من القبضة الصادقية الفولاذية! وذلك ليس لأن هنالك أعضاء أفضل من السيد الصادق المهدي، والذين لم تتح لهم الفرصة للبروز وإظهار قدراتهم، بسبب شغل السيد الصادق لكل فضاء الحزب! ولكن بشكل أساس للأخطاء الكارثية التي إرتكبها السيد الصادق المهدي، في حق حزبه والأهم في حق وطنه! وأهمها، أنه لم يحافظ علي التجربة الديمقراطية التي كان علي رأسها، عند حدوث الإنقلاب الإنقاذوي المشؤوم! أي هو شريك في هذا الإنقلاب ومترتباته بشكل او بآخر! وهو ما يستوجب ليس الإعتزال فقط! ولكن الإقالة الجبرية، من جانب أعضاء حزب الأمة، وهذا إذا كانت هنالك إستقلالية حقيقية للأعضاء داخل حزب الأمة او حزب الصادق لا فرق! ولذلك يستغرب المرء من حكاية تذييل خطاباته، بأنه آخر رئيس وزراء ديمقراطي منتخب! والسؤال، إذا كنت معجبا بهذه الصفة، لماذا لم تحافظ عليها كالقادة العظام؟! دافعا أكلاف هذا الدفاع! علما بأن تقديم الإستقالة، كإعتراف بالعجز من الحفاظ عليها، يمثل أقل هذه الأكلاف ثمنا! غير أنه يحافظ علي مكانتك كقائد وطني، حاول ولم ينجح! او يحفظ لك المكانة الديمقراطية التي تهواها! والتي تصر علي الحفاظ عليها لفظيا وخطابيا فقط! أي كتعويض نفسي عن خسارتها وإكمال نقص الفشل في الحفاظ عليها (عمليا وواقعيا!).

ولكن ما يثير الحيرة حقا في السيد الصادق المهدي، هو حقيقته الديمقراطية التي يعلن عنها صباحا مساءً في الداخل والخارج! فتاريخ السيد الصادق المهدي، المعلن(العملي!) والمضمر(تقاربه مع الجماعات والحكومات الإسلاموية!) لا يعبر عن تجذر القيم الديمقراطية الحقيقية في بعدها العلماني! ولا يعني الصراخ بها وإستخدام مفرداتها بإفراط، أنها جزء من وعي وسلوك السيد الصادق المهدي! فأقصي ديمقراطية يتمتع بها السيد الصادق المهدي، هي نوع من الديمقراطية الأرستقراطية لو جاز التعبير! أي ديمقراطية تلبي أشواق السيد الصادق المهدي، في السلطة(الديمقراطية المعترف بها صندوقيا، والمقصود ديمقراطية الكم وليس الكيف!). بمعني آخر، أن لا يصل الي السلطة عبر الطريق الإنقلابي، الذي يتنافي مع البرِستيج الرئاسي المتحضر، الذي يستهوي السيد الصادق المهدي! والذي لا يتماشي بحال من الأحوال، مع الإنقلابات العسكرية الإنكشارية الهمجية! بهذا المعني، يصبح السيد الصادق المهدي، المستبد الناعم! فما هو الإستبداد؟ إن لم يعنِ النظرة للذات بإعتبارها الأفضل والأصلح للحكم والقيادة بصفة عامة! أي هي الأكثر تفوق علي الآخرين، سواء بسبب الذكاء والمؤهلات الزائدة او بسبب الأصل والنسب والعقيدة او بسبب قوة الشوكة العسكرية! وبكلمة واحدة، كطبيعة تكوينية تبيح التسلط والتجاوز، وتستعلي علي الخضوع للمعايير الديمقراطية، وتمقت المساواة. فلا يمكن لديمقراطي حقيقي يؤمن بتداول السلطة، أن يؤيدها علي مستوي الدولة، ويستنكرها علي مستوي الحزب (لا يمكن تسمية الإنتخابات الحزبية التي يتحكم فيها القائد إنتخابات، إلا إذا صدقنا إنتخابات الديكتاتوريات العتيقة، ذات النسبة التسع وتسعينية في المائة، إنتخابات!). فهل يعقل أن يحتل شخص رئاسة حزب، لمدة تزيد عن نصف قرن، وبعد ذلك يوصف بأنه ديمقراطي!! علما بأنه تولي رئاسة الوزراة مرتين في فترات مختلفة! ولم ينجز ما يؤكد أهليته للمنصب او مجرد الحفاظ علي الديمقراطية من تعدي العسكر! عفوا سادتي، السيد الصادق المهدي، قضية سياسية خاسرة، مهما قدم المدافعون عنها من حجج وأسانييد! أما الرهان عليه في إحداث التغيير السياسي المنشود، فذلك الخسران المبين والضلال العميم أو من علامات الغفلة المستحكمة! فلأن تصدموا في السيد الصادق المهدي، أفضل من أن تفجعوا في الوطن! فالوطن وجد من قبل السيد الصادق المهدي، وسيبقي من بعده، ومن الظلم بمكان، أن يتم التماهي ما بين الصادق والوطن او الصادق والسلطة! مهما إرتفعت مكانة السيد الصادق المهدي، وتدنت سوية الوطن ووظائف السلطة، في وعي وقلب المُتيمين بحب السيد الصادق المهدي! فيا أيها العشاق والحواريون والمغرمون، بديمقراطية وحكمة وقيادة وشخصية السيد الصادق المهدي! أرحموا أنفسكم من هذا العشق المهلك! والوطن والسلطة، من هذا الربط المجحف! وثوبوا الي رشدكم يرحمكم الله. ويا حبيبنا السيد الصادق المهدي، أرجوك أرحمنا من هذه الديمقراطية القاتلة او الإستبداد المراوغ! ولتنعم بدفء الإعتزال ومجالس النصح والحكمة، والتوجه نحو الرب بصالح خواتيم الأعمال، في هذا الشهر الكريم. وأرجوك رجاء خاص، دع روح مانديلا الشفافة، تنعم في قبرها من هذا العناء بالتشبه والتشوه. كما نرجوك أن تغفر لنا هذه الصراحة، التي يتحاشاها الأتباع، وتقض مضجع الأهل.

وفي إتجاه مغاير، وعن طرق الصدفة، تابعت جزء من برامج علي قناة الجزيرة، وأعتقد أنه كان مخصصا لأفريقيا، ولكن ما لفت نظري، الجزء المتعلق بدولة بتسوانا، (وفي الحقيقة كامل معرفتي بهذه الدولة، أن لها فريق شارك في أحد البطولات الأفريقية الأخيرة، وكنت أعتبرها ظالما! من علامات ضعف البطولة او إن مشاركتها من الصدف النادرة) المهم، ما أتذكره من البرامج، أن بها شركة ماس مسؤولة عن التنقيب والتصنيع، وهي في شراكة مع شركات أجنبية أعتقد أنها إنجليزية، ولكن ما لاحظته تحديدا وبإندهاش، أن المتحدث رئيس الشركة البتسواني، شاب ينضح معرفة ووطنية وإستيعاب لقيمة الموارد التي بين يديه، والتي علمت أن الجزء الأعظم منها، يوظف ووظف في تطوير الإقتصاد القومي ورفع الدخل المحلي! وأنهم أقنعوا الشركاء الأجانب بنقل رئاسة الشركة والتصنيع الي الداخل. وأيضا تحدث الرئيس البتسواني، وهو تخطي مرحلة الشباب بقليل! وما أذكره وأسأل الله أن تكون الذاكرة حاضرة، أنه إنتقد الصينين وطريقة إستثماراتهم، وعدم إكتراثهم لحقوق الإنسان او تطوير مهارات العمالة المحلية! علما بأن المتحدث الأول ذكر أنهم أوقفوا شركة صينية لعدم تقيُّدها بالعقد! وأيضا تحدث الرئيس عن الإستثمارات الخارجية ولكن برؤية وطنية! أي في كيفية إستثمارها في تطوير قدرات الإنسان في الداخل! بمعني، الغرض ليس الحصول علي المنح والقروض والتسهيلات والأموال السائلة، ولكن تنمية الإنسان المحلي من كل الأوجه، أو هذا ما خرجت به من تلك العجالة! وأيضا ما أثار إعجابي وذُكر في البرامج، عملية الدمج الخلاق بين المؤسسات الحديثة التي تحكم الدولة، وبين سلطات التراث والأعراف المحلية، ممثل في السلاطين او القيادات الأهلية، الذين يشاركون في المجالس البرلمانية، ويساهمون بإيجابية في حل كل الإشكالات الأهلية! أي هنالك تناغم وإحترام وإستيعاب بين الحديث والقديم، بكل سلاسة! مما يوفر نوع من الإستقرار وإستغلال الإيجابيات في كل نظام. ولكن للأسف هذا الإعجاب والإندهاش، خالطه ليس قليل من الحزن والألم والحسرة بل والغضب لعدة أسباب:

أولا، جهلنا بأفريقيا الجنوبية والتجارب الناجحة بها تحديدا!

وثانيا، وجود نماذج من الحكم والإدارة الناجحة والتجارب التي تحتذي! أي هي من التجارب الأقرب لنا، مما يؤكد علي توافر عوامل وإمكانات النجاح في ظل ظروفنا المحلية المشابهة، وتاليا فشلنا المستديم ليس أقدار ولكنه من أخطاء الرجال! هذا من ناحية! ومن الناحية المقابلة، فيه كسر لعقدة الغرب ونموذجه المسيطر علي عقل وقلب غالبية النخبة المحلية! بمعني آخر، من الأفضل لنا دراسة تجارب مقاربة لنا في الظروف، والإستفادة من تجربة نجاحها، دون إستعلاء أجوف يعانده الواقع المتداعي! أي الإستهداء بالتجارب الناجحة في أفريقيا وآسيا! ومن ضمنها بالطبع، تجربة بتسوانا وجنوب أفريقيا والهند.

وثالثا، إن الإدارات الناجحة التي تحدثت عنها، أغلبها يقوم ويسهر عليها، شباب مؤهل وكفؤ ووطني، يكاد يكون رأي النور، عندما تسلم السيد الصادق المهدي السلطة في الستينات، بالتزامن المرحلي مع عودة الترابي متأبطا إجازة الدكتورة من فرنسا، وإحتمال مع تولي مولانا (الحاضر الغائب!) محمد عثمان الميرغني دفة القيادة وزمام الأمور في الحزب الإتحادي! أي في حين كانت بتسوانا تتداول السلطة وتتيح الفرصة للشباب والقادرين بصفة عامة، للبروز وتطوير قدراتهم وإكتساب خبرات ومهارات جديدة! وعندما كانت الفرصة متاحة، للبرامج أن تتنافس والمكونات السياسية أن تدافع بعضها البعض سلميا! كان قادة أحزابنا يتشبثون بالمناصب القيادية! وما زالوا يعتقدون أن بمقدورهم أن يقودوا الآخرين، ويقدموا الكثير! رغم تبدل الأحوال والظروف وتطلعات الشعوب!! بمعني منصب القيادة لدينا لا يعرف الشيخوخة او يعترف ويسلم بالتداول! أي منصب القيادة منصب مقدس او محرم علي الآخرين، (ممنوع الإقتراب او التصوير!) اي التطلع او المنازعة! ولذلك المأساة لم تكن في كنكشة هؤلاء القادة الفاشلين فقط! ولكن في حرمانهم العديد من المواهب والكفاءات القيادية والإدارية من البروز، بعد قتل طموحاتها وثقتها بنفسها منذ البداية، هذا من جهة! وفي الجهة المقابلة، التكريس للجمود والتكلس الإداري والقيادي! أي تصنيِّم القيادة وعبادة القادة! وتاليا، ظلت الحياة السياسية الوطنية راكدة، ورهينة لتصورات بضع أفراد! يفرضون أبوتهم علي السياسة والوطن وبالطبع بقية المواطنين! وللأسف هي أبوة سيئة المثال! أي بقدر ما كرست لنفسها السيطرة والإحتكار، بقدر ما أهملت الرعية والرعاية ومنح الحرية وبذر الثقة بالنفس بين الأبناء المفترضين!

رابعا، هدمنا للإدارة الأهلية، من خلال تحالف حكم العسكر والمستنيرين الجدد! من دون إيجاد بديل او تطوير القدرات الإدارية الشاملة علي أسس حديثة! أي كان يمكن الإستفادة من إيجابيات الإدارة الأهلية، بالتوازي مع تطوير الإدارة الحديثة والحكم الرشيد! كما حدث في دولة بتسوانا(لعن الله الشره السلطوي الذي يميز قادتنا، ومصادرة السلطة بالمطلق الذي يميز سلوكهم!) وذلك لأن أكثر ما أضر بنا، هو ثقافة تحطيم القديم! دون ليس بناء او وجود الجديد فقط! ولكن لغياب مفهوم الجديد او الحديث بصورة واضحة وعملية في وعي متبنيه، هذا من ناحية! ولغياب حكمة مراعاة درجة تطور المجتمع وطاقة تحمله، من الجهة المقابلة. وهو ما يمكن وصفه بالحداثة الجزافية او الحداثة التحطيمية او حداثة الغرور والفتونة! التي ميزت الجيل ما بعد الإستغلال، خصوصا عناصره السياسية الراديكالية. أي المطلوب ترشيد الحداثة وليس فرض او قهر الحداثة. ومن قال إن كل القديم ليس به إيجابيات! وإلا كيف إستمر طوال هذه الدهور؟!

من الموسوعة العنكبوتية، خرجت بالآتي: أن بتسوانا من الدول متوسطة الدخل. تتميز بالحكم الرشيد والنمو الإقتصادي الجيد، والإدارة المالية الحصيفة. حصة التعليم 10% من الميزانية. وهي من الدول الأقل فسادا في العالم. ولا توجد بها قوات مسلحة، ولكنها تكونت بعد الإعتداءات الخارجية في العام 1977م(وهذا يفسر عملية الإستقرار الديمقراطي كما أعتقد!). أجريت آخر إنتخابات وهي العاشرة في العام 2009م. أكبر مشاكلها تفشي الايدز، والجفاف والتصحر بسبب الرعي الجائر، وهنالك جهود جادة جارية للسيطرة عليهما.
كلمة أخيرة
يبدو أن مأساتنا الحقيقية مركبة، أي لا تنبع من العسكر فقط! ولكن بصورة أشد تأتي من قادتنا الديمقراطيين الذين لا يتبدلون! خصوصا الذين يحتلون مناصبهم بقوة الإرث العائلي! مسكين الوطن مسكينة الديمقراطية، وهي تعاند طغيان البيئة الشمولية، وتعاني من قلة الدعم وتلون المناصرين.
تشيِّع في دولة جنوب أفريقيا مقولة، أن مانديلا ضحي بنفسه من أجل المواطنين، أما جاكوب زوما فقد ضحي بالمواطنين من أجل نفسه! والأصح من ذلك، أن الشق الثاني من المقولة يتخطي دولة جنوب افريقيا ليشمل كل القارة بكرمه! أما الشق الأول من المقولة، فهو حالة نادرة، وتستعصي علي التكرار! ليس في جنوب أفريقيا وحدها ولكن في كل العالم، وعلي مدار التاريخ الإنساني! وأخيراً رمضان كريم وغفر الله للجميع، ودمتم في رعاية الله.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. ((جاكوب زوما ضحي بالمواطنين من أجل نفسه!)) والحقيقة هى أن ((جاكوب زوما ضحي بدولة جنوب أفريقيا من أجل نفسه!))!!!

    يدور فى شريط أخبار قناة فرانس 24 الإنجليزية خبرا مفاده أن حكومة جنوب أفريقيا تقوم الآن بتقييم قرار بالانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية عطفا على مسألة القبض على البشير؟؟

    إذا حدث هذا فستقوم القيامة على السيد زوما وحكومته من المجتمعين المحلى والعالمى وسيطيح بالصورة الزاهية التى خلفها سلفه ماديبا مانديلا.

    لا أستبعد وقوف رئيس زمبابوى روبرت موقابى وراء كل ما حدث في تورط البشير فهو بجانب رئاسته للإتحاد الأفريقى لهذا العام 2015 إلا أنه ما زال يتمتع بنفوذ قوى على قادة دولة حنوب أفريقيا لدوره الحاسم في مساعدتهم للإطاحة بنظام الأبارثايد لكنه الآن يقف في صف البشير نكاية في الدول الغربية وقد عبر عن ذلك صراحة في تعليق له عندما إستلم رئاسة الإتحاد الأفريقى أن أفضل رجل أبيض هو الرجل الميت!!!!

    كما لا أستبعد دورا لأمبيكى رئيس جمهورية جنوب أفريقيا السابق المعزول والذى صار بقدرة قادر مستشار متواطئ للبشير من خلال تعيينه كمبعوث الإتحاد الأفريقى للسودان، والإتحاد الأفريقى نفسه ترأسه السيدة زوما طليقة السيد زوما والتى تستعد للمنافسة على رئاسة جنوب أفريقيا خلفا لزوجها الذى ستنتهى فترته الأخيرة خلال سنتين.

    هناك شيئ ملعوب ومخطط له في دولة جنوب أفريقيا وما حادثة البشير سوى غطاء لأشياء أخرى ستظهر لاحقا لكن الدولة عموما تسير في مسار خطر ضد التوجه العالمى ضد البشير ومخالفا للدعم الذى حصلت عليه جنوب أفريقيا من العالم الحر في سبيل الحصول على إستقلالها وتثبيت حقوق الإنسان.

  2. 26 سنة بالتمام والكمال نحن فى عبط وعوارة وهبل والواحد اقتنع تماما انو زمان شغلةغطى ماعونوك دى فعلت فعلتها وعريس بنات الخالات والعمات انتج لنا جيل كامل من اصحاب الاعقات الذهنية والكارثة الكبيره كانت من النوعية التى اتبعت الشيخ الماسونى وتلميذه الخبيث وتمكنو من توظيفها لتركيز الكارثة الوطنيه الكبرى التى نعايشها الان…..وفكر الاخوان المسلميين انتشر كالنار وسط هشيم العقول المعطوبة ومع سياسات التمكين بقىالعبط سياسة دولة وبقى اى مسئول يكثر من اكل الفول والتمر بشره مقزز ويورد مفردات العواره والرجالة المصطنعة يتقلب فى المراكز المرموقة…………….وتحت اقدامهم هناك اعداد مقدرة من نهازى الفرص ومرتزقة ترك لهم الحبل على القارب يديرون مصالحهم الانانية بجشع غير مسبوق….

  3. الاستاذ عبدالله مكاوي متعك الله بالصحة والعافية
    اعتقد ان هذه اول مرة اقرأ هذا الاسم او انها اول مرة اقرأ لك .. وبالرغم من طول المقال لكن كل سطر أقرأه يشدني لأن أقرأ الذي يليه
    ذكرني كتب الشامل في الرياضيات والشامل في الكيمياء … فهذا التحليل شامل بالرغم من محدودية عنوان المقال
    ماحدث في جنوب افريقيا من تهريب الفأر الاجرب له مابعده علي الصعيدين الداخلي والخارجي .. داخليا سيزداد الخناق حول رقبة المجرم كماتفضلت بعد عزلة الانتخابات جاءت لكمة جنوب افريقيا لتجعله اكثر شعورا بالعزله فقد كان يرجو ان يفك حرج الانتخابات بحضن القادة الافارقه .. اما علي الصعيد الخارجي فجنوب افريقيا امام مفترق الطرق اما ان تتمسك بمبادئ مانديلا وتحاسب حكومتها او ان تلحق بركب التخلف والتسلط الافريقي
    اما الصادق والميرغني وهذه الاحزاب ماكان لها ان تنشأ او تستمر الافي ظل الجهل والتخلف والاميه الذي يعترينا .. لذلك لم تسعي هذه الاحزاب يوما لنشر التعليم ومحو الاميه .. بل كرثتها في اي من الفترات التي حكمت فيها بتجاهلها عمدا .. لذلك نجد ان هذه الاحزاب الرجعيه حليف اصيل للنظم العسكريه لانها تخدم اقطاعياتهم وتساعد علي بقاء هذه الاقطاعيات .. فلا الصادق ولا الميرغني كانا يوما بحريصان علي ازالة حكم العسكر بل دوما كانت مناورات لكسب اراضي لهم ولاهلهم ..
    اتعجب من خريج يتبع لحزب كحزب الصادق او الميرغني بدعوي انها احزاب وطنيه وديمقراطية ؟ فاقد الشئ لايعطيه .. هذه احزاب وراثيه وليست ديمقراطيه

  4. هرب من جوهانسبرج فى سيارة مصفحة وأقلعت طائرته سرا من مطار عسكرى فى قاعدة ووتر كلوف

    حرب أهلية استمرت 15 سنة انتهت بانفصال الجنوب.. قتل 200 ألف شخص فى دارفور.. وشرد مليونين غيرهم

    استضاف أسامة بن لادن فى بلاده وهرّب السلاح إلى الإرهابيين فى مصر.. ودبّر محاولة اغتيال رئيس مصرى.. وأفسد العلاقة بين القاهرة وأديس أبابا!

    أدفع أغلى ما أملك حتى أعرف ما شعر به (عمر الرقيص) وهو يتلقى نبأ توقيفه فى جنوب إفريقيا تمهيدا لإحالته إلى المحكمة الجنائية الدولية.. هل انقلب الأسد إلى أرنب؟.. هل فقد الطاؤوس ريشه وتفتت جناحه وسقط من قمة زهوه وغروره؟.. هل احتاج إلى مجموعة استشاريين من الأطباء لعلاجه من اضطرابات القلب.. أو ارتفاع ضغط الدم.. أو اضطرابات الجهاز الهضمى أدى إلى بقائه فى حمام جناحه فى فندق إنتركونتيننتال جوهانسبرج بالساعات؟

    أين أنت يا على عبد اللطيف؟
    أين أنت يا عبد الفضيل الماظ؟
    بل أين أنت يا أيها الشعب السودان (الفضل؟

  5. شكرا أستاذ عبد الله مكاوى أفدتنا ورمضان كريم وهذه الزكاة من كرمك . سأتابع مستقبلا
    صديق ضرار

  6. مقال فى الصميم والمعلقين ما شاء الله . انتوا فى فضيحة جنوب افؤيقيا ولا قالوا ماشى الهند لحضور مؤتمر فى نيودلهى ! ارسلت لى صديقة برسالة جاء فيها ذلك مع سؤال ده يقولوا عليه شنو؟ وردى ان كان صحيح فهو لخبطها افريقيا وماشى يلجبطها اسيويا واقترح ان ياخذ معه بلة الغائب ليتعلموا سويا طريقة ترقيص الثعبان على المزمار ليشبع رغبته فى التجوال وقلقلة الدول واحراجها ولانه دائما فارا دون القاء كلمة ولا يتفوه بكلمة فلينشغل بترقيص الكوبرا ده كان قدر يثبت امامها

  7. اذا كان الرئيس هو البشير والبديل هو الصادق المهدي والميرغني فلا يسعنا

    الا ان نترحم علي بلادنا ونتقبل العزاء …..

    رحم الله السودان وشعبه رحمة واسعة والهم زويه الصبر الجميل .. (انا لله وانا

    اليه راجعون )

    اللهم لا نسالك رد القضاء بل نسالك اللطف فيه ولا حول ولا قوة الا بالله

  8. عبد الله مكاوي دا لاكتب قدام اسمه د ولا بروف و لاخبير وطني ولا فريق اركانحرب و لا كبير مستشاري دول س ص و لا فضيلة الشيخ .

    يا ربي دا يكون من اين اتي ؟

  9. رغم طول المقال لكنه مليئ بالمعلومات المفيدة والتحليل العميق ..

    إننا نشعر بالحزن والأسى حينما نقارن السودان بدول فقيرة عدة حتى دول الموز فى أمريكا الجنوبية ناهيك عن بتسوانا دولة الماس ..وكما تفضلت فهي من الدول الأقل فسادا في العالم. ولا توجد بها قوات مسلحة، لكن نحن والحمدلله فى مقدمة الدول الأكثر فسادا ويجلس على قمة هرم الفساد فيها البشير شخصيا .. الأسد النتر ..وأقترح تسميته بالفأر الإنحشر..قيل إنه تم حشره فى الطائرة بالمطار العسكرى فى قاعدة ووتر كلوف
    منذالصباح الباكر علما بأن الطائرة أقلعت فى تمام الواحدة ظهرا يعنى ظل الأسد النتر داخل الطائرة قرابة الست ساعات ألا يستحق لقب الفار الإنحشر…

  10. التحية و الشكر للأستاذ عبدالله مكاوي على هذه التحفة الادبية الرائعة .
    ماشاء الله تبارك الله ,
    مقال شامل كامل و يحتوى على كل شيئ يحتاجه القارئ من معلومات قيمة و أخبار جديدة و سرد مشّوِق و تحليل عالى المستوى ,

    دة انت طلعت فلتة (بالمعنى الإيجابى للكلمة) متمكن فى السياسة و فى اللغة و فى التخطيط الاستراتيجي و بُعد النظر الشيئ الذى أخرج هذا المقال فى صورته الرائعة تلك .
    أحسنت , ربنا يوفقك و يعطيك العافية .

    بالفعل الفضيحة وقعت و لا يمكن إنكارها .
    لكن , الشيئ الغير مفهوم حتى اليوم هو: لماذا سافر البشير لحضور مؤتمر القمة الافريقى فى جوهانسبيرغ و لم يخاطب المؤتمر الذى ذهب خصيصاً لإلقاء خطاب به ؟؟

    و السؤال التالى هو: إلى متى هذا التهريج و هذه الفضائح و إهدار كرامة البلاد و كرامة شعبها الكريم ؟؟
    إلى متى تُنتهك سيادة هذا الوطن و سيادة مؤسساته الدستورية ممثلة فى رئاسة الجمهورية , و سيادة البلاد بشكل عام ؟؟
    و إلى متى يمكن أن تتحمل دولة السودان و شعبها وصمة أن رئيسها مطارد ومطلوب للعدالة الدولية كلما غادر بلاده في زيارة خارجية ؟؟

    ستبقى الاسئلة أعلاه حتى إشعار آخر , ولو كان بالسودان قضاء نزيه وعادل و مستقل لأمكن لأى مواطن سودانى أو جهه رفع دعوى قانونيه بعجز الرئيس عن أداء مهامه وبالتالى المطالبه بعزله عن المنصب والشروع فى الاجراءآت التى ينص عليها الدستور فى حالة غياب الرئيس أو عجزه عن القيام بواجباته الدستوريه .

    هذا الرئيس الفاقد للشرعية ليس له انصار إلا الأرزقية المنتفعين من وجوده و أسرته و أهله ، أما بقية الشعب السودانى تتمني ان يذهب اليوم قبل الغد .

  11. اقترح استبدال او بيع الطائرة الرئاسية والاستفادة من العايد لبناء مستشفى او مدرسة أما البشير تكفيه ركشة سنينة ا غير قادرة على قطع الكبري لعدم وجود ترخيص

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..