مقالات سياسية

شهدانا ما ماتوا (1-2)

حسن جبورة

عكس التيار

هكذا أريد لنفسي أن أموت، كي تُحِبُّوا الأرض أكثر لأجلي، أي أصدقائي؛ وتراباً أريد أن أستحيل في الأرض، كي أعرف الراحة في الحضن الذي أنجبني.. وإنه لأحب إلي من أي شيء، أن أراكم تقذفون بالكرة الذهبية نحو هدفكم.

هكذا تكلم زرادشت
هذه وصية الشهيد على لسان النبي زرادشت، فهل يحقق رفاق الشهداء في النضال الثوري شعارات: (شهدانا ما ماتوا.. عايشين مع الثوار ـ دم الشهيد دمي، أم الشهيد أمي ـ حنبنيهو)؟ هناك عدة مطاليب لتحقيق هذه الشعارات:

المطلب الأول: دم الشهيد، ومحاكمة القتلة، وتطهير أرض السودان من رجس شياطين الإنس. لكن مجزرة القيادة العامة، أصبحت عند الثوار، تشبه إلى حد بعيد (هولوكوست اليهود) في ألمانيا.. حتى أنهم انشغلوا بها لدرجة التأثير على أهداف الثورة ذاتها. وكان العهد بين الشهداء ورفاقهم الذين واجهوا فجيعة فراقهم، وعاشوا أحزان أمهاتهم وآبائهم وذويهم، ومعاناة الجرح والتعذيب والتنكيل والتغييب القسري، كان العهد ألا يستلقوا أثناء المعركة. ولا أشك في أنهم ـ أي ـ الثوار، لو خُيِّروا بين اللحاق برفاقهم الشهداء، أو البقاء أحياء يضاجعون تلك المعاناة المركبة، لاختاروا الشهادة دون تردد.. كان العهد بينهم أن يكونوا (وراها حتى يرونها).. فالشهداء الآن، في جنات وعيون، متكئين على الأرائك؛ عليهم ثياب خضر واستبرق، وإلى ربهم ينظرون. العهد بينهم ألا تراجع مهما كانت التضحيات.

المطلب الثاني: وصية الشهيد: لقد أوصى الشهيد بالوطن؛ أولاً، وثانياً ومليوناً، وبوالديه إحساناً، وقال لهم؛ (إنه لأحب إلي من أي شيء، أن أراكم تقذفون بالكرة الذهبية نحو هدفكم)، وأن تواصلوا الدفق الثوري، حتى تصلوا بها إلى (ميس) الأهداف الكلية التي استشهدت لأجلها.. وفي كل الأحوال، هناك رابحان من شهادة الشهداء؛ الأول هو الوطن الذي نال حريته من براثن شياطين الإنس أولئك، وسيعبر إلى حيث أراد له الشهداء. وأما الرابح الثاني، فهم أولياء دم الشهيد، بالشفاعة لهم (يوم يفر المرء من أخيه* وأمه وأبيه* وصاحبته وبنيه* لكل امرئ يومئذٍ شأن يغنيه*).

المطلب الثالث: حنبنيهو، إنه شعار الكلمة الواحدة، لكنه جمع فأوعى.. فما من أمر يحتاج إلى بناء، إلا كان له فيه نصيب، وقد بدأت تتشكل صورة وحدتنا في اعتصام القيادة. ونقول لأبنائنا: لقد ثبت خطل منهج (مسح الدهن على الصوف) الذي اتبعناه نحن الآباء حيناً من الدهر، فكانت النتيجة أنه جمع على (صوف الوطن)، الأوساخ والأتربة والجراثيم، والتأمت جروحه على صديد، وآن أوان فتح كل الجروح، لننظفها ونطهرها، ثم نخيطها لتبرأ. وليس هذا علينا بعزيز، إذا خلصت النوايا، و(ابيضت قلوبنا السوداء)، لتصبح كقلوب شهدائنا الأبرار، وشبابنا الجرحى والمفقودين و(المذهللين).

إن الدرس الذي تعلمناه من أبنائنا، الذين أنتجوا ثورة قل مثيلها في التاريخ، يجب أن يجعلنا نخجل من غبائنا، أنانيتنا، حسدنا، وحقدنا، ثم يجب أن نبكي على أنفسنا .. إني أعترف بكل جرائمنا؛ وأقول أمام قاضي الثورة: نحن جيل الآباء والأجداد، لم نعرف غير الخلاف والاختلاف، حتى خيل إلىَّ أننا (لو دقونا في فندق)، لقفز كل منا في اتجاه، مثل (حبوب الطرطاق).. ونظرة عجلى إلى الذي حدث في الثلاثين سنة الماضية، التي تمكن فيها الإسلاميون من حلقوم الوطن، لتريك أنماطاً من شح النفس، وسوء الخلق، وضيق الأفق، وهوان الشعب عليهم.. لقد انطبق عليهم قول الباخرزي:

إذا نصبوا للقول قالوا فأحسنوا
لكن حسن القول خالفه الفعل
ذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها
أفاويق حتى ما يدر لها ثمل

نحن آباء تافهون، أغبياء، أنجاس، ننافس عبدالله بن أبي سلول في النفاق، ونبزه. وقد نخرت نفوسنا سوس الأثرة، وزينت لنا شياطيننا حب الشهوات من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب، أما الفضة، فقد لبسناها على أصابعنا مطلسمة، تصغيرا لها، وتحقيراً .. في الوقت ذاته، ندعي الوطنية والنقاء والشرف والكرامة أمام العامة، لكننا حين نخلوا إلى شياطيننا، نلغو في آنية الخبث والخسة والفساد.. تباً لنا أحياءً وأمواتاً، وتب.
ونلتقي، إن كان في الكأس باقٍ

حسن جبورة – المواكب

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..