مقالات سياسية

دموع اللوزة 

سيف الدين خواجه

أتراها كانت تحلم بهذه البلاد ؟؟؟ أتراها لو أتيح لها الاختيار، تختارها؟ اي حظ أتى بها وأي قدر ؟ أتراها حين تنظر لتاريخها الممتد ماذا تقول؟ فكم أسعدت الناس هنا، وكم أبهجتهم بمددها منظرا وكساء وحياة، حتى بدت لها الحياة أجمل من أي مكان في العالم كانت فيه.

استمتعت بالخصوبة في الأرض والناس والأجواء بالخريف الأطول الذي شاهدته في عمرها، كل هذه المناظر وغيرها تمر بخاطرها الجريح والمكسور، وهي تتكئ على جرح أحزانها الذي ما تصورت في يوم أنه سيأتي وبطريقة همجمية لا تعير صرخات الحياة أي انتباه,

كل هذا الشريط يمر أمامها والأحزان حولها من كل جانب، حتى الحجر والمدر، أما الناس الذين أحبوها فكأنهم في موت جماعي بغاز سام أو تسمم مياه قضى عليهم، وحتى من بقي منهم فهو ذاهل..

ما الذي جرى؟ ولماذا جرى؟ ولمصلحة من جرى؟ وما هو الهدف الذي جرى لأجله موت الناس هكذا دون إبداء أي أعذار أو تأسف؟

شئ لا يصدق هول الفاجعة أكبر من أن يصدقه أحد، هل من قام به كان عنده ذرة من إنسانية أو عقل،  وكأنه من روايات الخيال لولا أنه حدث أمام أعينهم، ربما لو قرأوه أو سمعوه لاعتبروه حكايات خيال مريض متشائم ضد الحياة والأحياء، وضد الوطن، وضد أي مفاهيم، ناهيك عن أن يكون للرسالة  الخالدة دخل في ذلك، إلا أن يكون من يؤطر هذا العمل دينيا شخصا مجنونا أو به مس من الشيطان !!!

حين تتنهد، وتتنفس أنفاسها حرى حسرى، تتذكر الذي كان يوم جاءت أول مرة ينتابها شئ من الريبة كغريب في بلاد غريبة، وما كادت سنتها الأولى تمر حتي هدأت أنفاس الغربة، ودبت فيها روح الألفة والمحبة حين بدا التناغم بينها وبين الناس، لعلها أدركت رقة مشاعرهم وحبهم لها، وأدركت أن قلوبهم  الطيبة تذيب الحجر حبا، وأدركت حبهم للجمال الفطري، يوم أن تفتحت في اول موسم، فاكتست الأرض باللون الأبيض لون الحياة، لون ثوب الزفاف، بدت الأرض يومها مغطاة بلون الجليد في بلاد تذيب حرارة شمسها الشحوم.

لقد سر هؤلاء السمر اللون الأبيض البهيج المريح، فسارت  بأخبارها الركبان، فصارت أفئدة من الناس تهوي إليها عشقا للجمال، وحبا للحياة، فتهاجن الناس من شتى القبائل  حولها بعمل جماعي، كل يسعى لرزقه منها، وقامت مصانع لها، وتعبدت طرق، وتكاثر الناس، وكونوا مجتمعا جديدا لا يعرف القبيلة، بل يعرف حب العمل وحب الحياة، واكتشفوا فضائل ذواتهم، وأن ما يجمعهم أكثر مما يفرقهم، فاستقروا وتزاوجوا فيما بينهم، بعد أن تعرفوا على خصائصهم التي حباهم الله بها، وكل همهم إرضاء محبوبتهم هذه التي جمعتهم على الألفة والمحبة بحب الحياة، وانتعشت آفاق المدى للناس برغد العيش !!!

كل هذا اندلق على بقية الوطن خيرا ونماء حتى أسموا تلك البقعة أرض الذهب الأبيض، وأصبح الحصاد معلنا في الأجهزة، كيف لا والحياة أصبحت متوقفة على جمال هذا اللوز الجميل، فقد نشطت مصانع وسكك وقطارات وموانيء، وشهدنا ازدحام البواخر لتحمل أطنانها للخارج، وانعكس كل ذلك على بقية الخدمات في الوطن التعليم والصحة والبنى التحتية.

وأحس الناس بعظمة ما يعملون، فنتائجه واقع يمشي على قدمين في القلوب، والجيوب للحد الذي نسوا فيه تداول الأيام بالكوارث، فلم يدر بخلدهم، ولا مرة أن يأتي أهبل ومجنون:  فردا او مجموعة بفكر أو دونه، فيحطموا كل هذا الخير، وكل هذه الحياة إلى بؤس كالح، ويشتتوا مئات الآلاف من الأسر، لتكون بدون عمل، ولتصمت المحالج ومصانع النسيج للأبد، لتكون لقمة سائغة للصدإ ونعيق البوم،  ولتموت المدن التي تعمرت، وينتهي مستوى التعليم للحضيض، أما الصحة فقد أصبحوا يبيعون ما يملكون من اجل جرعة دواء ” يا صابت يا خابت”، وحل الفقر والبؤس مكان الغنى، والنضرة والخضرة التي كانت مد البصر، تسر الناظرين، أما السرايات التي كانت محط الأعين، فلم تعد إلا خرابات..

خطر كل هذا ببالها، وهي ساهمة مطرقة تضع يدا على يد، في حيرة من أمرها، والناس في هرج ومرج  من شدة المحنة التي داهمتهم، وما أفاقوا من محنتهم، إلا على صوت مناحة تقول مودعة اللوزة وخيرها وإيامها :ـ

تبكيك العيون البقن ذابلات

تبكيك اليدين البقن ناشفات

تبكيك المصانع البقن عاطلات

تبكيك المدارس البقن خاويات

تبكيك المشافي البقن عيانات

تبكيك البواخر الرجعن خاويات

تبكيك بلاد علي الحزن طاويات

تبكيك قلوب للألم  كاتمات

تبكيك جسوم بقن عاريات

تبكيك جيوب بقن فارغات

واصوات أخرى كثيرة تتعالى مجاوبة:

أنا قولي ليك يا اللوزة

قتلوك ليه يا اللوزة

حرمونا من خيرك يا اللوزة

مالم علينا يا  اللوزة

في امان ربك  معانا يا اللوزة

غير الخير ما شفنا يا اللوزة

من بعدك نقع وين يا اللوزة

من بعدك البلد مانفع يا اللوزة

الواطة في خشمنا بعدك يا اللوزة

السجم والرماد ضربنا يا اللوزة

هكذا كانت  نهاية مشروع عاشت عليه البلد قرابة القرن بالذهب الابيض الذي تفاخر به العالم، وهكذا كان حزن الناس على لوزة القطن، وعلى أنفسهم، ولعنات التاريخ على من فعلوا ذلك، وتركونا عراة،  نتكفف العالم، تبا لهم أينما، وأينما حلوا، وداعا يا مشروع هندستك وحدها تدرس في كل العالم، ونحن نموت بغباء الأغبياء.

سيف الدين خواجة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..