وادي النعام.. رونق أسماء ومناطق طمرتها المدينة.. ذكرى لا تفني

أم بدة – محمد عبدالباقي
عدد من المقاهي الشعبية متناثرة على جانبي طريق الإسفلت بالريف الشمالي لمحلية أم بدة.. لا ثلاجات فريزر ولا مياه مثلجة داخل تلك المقاهي، من يريد إطفاء ظمأه يقدم له الماء من (قرب) و(سعون) جلود الأغنام المدبوغة جيداً بالقرض و(المدهون) بامتياز بالقطران المصنوع من حب الحنظل والبطيخ.
شاحنات عملاقة بعضها قطع الفيافي خلال أيام عدة بين مصر والسودان عبر معبر أشكيت الذي افتتح العام الماضي تربض متمهلة بعد أن رأى سائقوها أنوار أمدرمان تتلاصق على مقربة منهم، بجانب لواري قدمت لتوها من الولاية الشمالية، وقليل من السيارات الملاكي تزحم المكان.
على الهبابات
السائقون ومساعدتهم يجلسون على السرائر المعروفة هناك (بالهبابات) وصبية لم تمسسهم (شيطنة) المدينة بعد، يقدمون الطعام والشراب للزبائن في أوانٍ أكل عليها الناس والدهر سنينا عددا، ولم يتم الاستغناء عنها بعد. المثير حقاً أن المكان المعني هنا ويقع ضمن حدود محلية أم بدة كان يطلق عليه في السابق اسم وادي الصيد، فهو لا يزال يحتفظ بهدوء وطمأنينة جعلت منه منفذاً مناسبا تفرغ عبره المدينة رئتها المليئة بغاز العوادم والمصانع المتناثرة في أكثر المناطق ازدحاماً بالسكان.
مراعي الصيد مواقف للسيارات!!
ثمة من يجلس مسترجعاً أيام انقضت في تلك البقاع التي كانت بسبب بعدها عن المدن وأماكن السكن والزراعة مرعى للصيد بأنواعه في فصل الخريف.. رجل هرم يدعي (عبد الجبار الأمين) يزور تلك المقاهي بين الحين والآخر، يتذكر بحسرة قصص قديمة تروى عن أن قطعان الصيد والحيوانات النادرة كانت تعيش هانئة هناك منذ عشرات السنين بين الوديان والأشجار، فأخذت المنطقة برمتها اسمها من الحيوان، حيث صارت تعرف عند الناس بوادي أم صيد.
أجمل المناطق
يتداعى (عبدالجبار) في سرد تاريخ منطقة وادي أم صيد بقوله: كانت من أجمل المناطق التي يقصدها الرعاة في فترة الخريف، وكانت الحيوانات الأليفة والصيد تقضي شهوراً عديدة معاً في الوديان والبطاح قبل السماح للسكان بالتمدد نحوها عشوائياً، فالتهمت المدينة جزءاً كبيراً منها، وجاء طريق الإسفلت وقضى على ما تبقي ليصبح وادي أم صيد المعروف في السابق بجماله وطبيعته المميزة عبارة محطة يهبط بها سائقو المركبات بين الحين والآخر، طمعاً في أن ينالوا قسطاً من الراحة في ظل الرواكيب والكافتيريات التي احتلت الموقع.
مزارع في عمق وادي النعام
ليس وادي أم صيد وحده الذي فعلت فيه الأيام فعلتها، هناك أيضاً منطقة أخرى لا تقل جمالا وحسنا عنه، وهي منطقة وادي النعام، لا تبعد عن أم صيد سوى بضع كيلومترات معدودة، ووادي النعام يشبه وادي أم الصيد في الكثير من التفاصيل، ويشترك معه بأنه كان أيضاً مرتعاً للصيد والنعام في فترات بعيدة، لكنه تعرض لمصير مشابه لسابقه. وبحسب عبدالجبار، أن تاريخ وادي النعام يرجع إلى المائتي عام أو تزيد. ويضيف: “حدثونا أجدادنا أن النعام كان يوجد بأعداد كثيرة في المنطقة التي تقع شرق مجري وادي المقدم وتمتد حتى نهر النيل شرقاً، ولأن النعام كان يفضل تلك المنطقة دون غيرها لأسباب كثيرة منها أنها تقع بالقرب من وادي المقدم الذي يوفر له مياه الشرب في غير موسم الخريف، وكذلك يمثل له مصدراً للحماية إذا تعرض لأي مخاطر فإنه يستطيع الوصول إلى الغابات التي تقع على مجرى الوادي في زمن يمكنه من تجنب الإصابة أو القتل، ولهذا أطلق عليها اسم وادي النعام”.
حياة على سجيتها القديمة
رغم أن المنطقتين طالتهما الكثير من التغيرات على كافة المستويات، لكنهما ظلا في المخيلة الشعبية يحتفظان بالاسمين نفسيهما (وادي النعام ووادي أم صيد)، ولهذا يرى (عبدالجبار) أن العبرة في تمسك الأهالي بالأسماء القديمة لمناطق أم صيد ووادي النعام، مما يؤكد أن للأسماء الشعبية أهمية يجب عدم تجاهلها من السلطات أو من أي جهة تأتي للاستفادة من المواقع المعنية من أجل الحفاظ على هوية وتاريخ المجتمعات. ويؤكد أن الحفاظ على الأسماء والملامح القديمة يزيد من الانتماء للمكان وللوطن
اليوم التالي