أخبار السودان

د. أمجد فريد الطيب .. تجربة الاعتقال ومدرسته القسرية

حملة صحافيون ضد الاعتقال للتضامن مع المعتقلين
#المعتقلات_مقبرة_النظام_لدفن_حريتنا

تجربة الاعتقال ومدرسته القسرية
د.أمجد فريد الطيب

لو كان الموت او الاحساس بالموت، اقرب الي الانسان مما هو عليه الان، لاصبح الانسان أكثر قربا من نفسه، وأكثر ارتقاءا وعلوا في سلم مجموع القيم المجردة التي اصطلح على تسميتها بالانسانية.
لكنه ذلك الصلف الأجوف للنفس المغرورة ووجلافة الركون اليها التي تدفعه الي إغفال النظر، والتجاهل والتناسي… غفلة مجالسة التنين، والدنيا عز صيف.

يفعل الاعتقال في النفس مثل ذلك ولو بدرجة اقل. هو يمنحك قبسا من اليقين الصوفي في مواجهة الجلاد داخل المعتقل و بعد ذلك خارجه … يمنحك ايمان من رأئ عين يقين الطغيان، فارتقى في دروب نضاله من مرتبة القناعات النظرية ببؤس الطاغية وقلة حيلة الجلاد، لمرتبة من لامس هذه الضرورة بيانا عيانا في سؤات ذاتها. فأصبح إيمانه بالعمل من اجل الخلاص منها ماديا، وملموسا ومحسوسا، يكاد يتمثله كلما أغمضت له عين. هو في ذاته لا انعكاسه المجرد في الاذهان.

وتلك مرتبة من الإيمان بالنضال، لا يفوقها الا نضال حق اليقين، عند أولئك الذين هبط عليهم القمع جهرةً، في ساحات الحروب، “قادلاً” بمنجله الدامي بين صفوف الضحايا… مغتسلا في كامل بشاعة عريه بدموع الأمهات الثكلى، ودماء الاطفال مقطعي الأوصال بعد غارة قصف عمياء، يمشي بين الناس مختالا، بكل لمحة حزن وانكسار في عين ام او اخت او حبيبة اغتصب براءة شبابها – او طفولتها في احيان كثيرة- رسل الطاغية وزبانية جحيمه الجنجويديون.

كانت سبتمبر ٢٠١٣، مزجا من ذلك كله. فظهر عين يقين الطغيان في خطل الجلاد برمي عبء اقتصاد الحرب على كاهل الناس، وبان حق يقين الطغيان حين ارسل الطاغية زبانيته ليقتلوا أولاد الناس في الخرطوم. وليس قتل اولاد الناس بجديد على جنرالنا، ولكنه كان على الدوام يلعب بالبيضة والحجر حين يفرق ليسد… فيصور لكل واحد انه يقتل الاخر المختلف فقط… فيستخدم الأخ لقتل ابن العم وابن العم لقتل الجار وهكذا وهكذا … حتى تستمر دوامة الدم بلا قرار.

وكان من حظ الكثيرين الذين نجوا من الموت، ان تاخذهم السلطة الي زنازين معتقلاتها. ولعل من حظي اني قد كنت بينهم. فسكنت في سجني لعدة ايام مع ثلة من اشجع وأنقى أبناء هذا الوطن. تقاسمنا فيه الملح والملاح … قبل ان يقرر الجلاد لي عقابا في السجن من نوع اخر… وما درى انه ما ضرني بعد تلك الرفقة شيء.

كان احد أهم الدروس التي تعلمتها خلال تلك الفترة، هو ضرورة ان يتعلم المعتقل من الخبرة التراكمية للذين سبقوه مرات عددا الي ضيافة المعتقلات. فالنادي السياسي السوداني، صاحب خبرة طويلة ومتراكمة في الحياة داخل السجن دافعا ضريبة فشله في الحفاظ على الديمقراطية. دروس الكنتين، وتقسيم اليوم على نشاطات متنوعة، عدم الاستسلام للقنوط واليأس وعدم الانقطاع عن العالم الخارجي وعدم الاستعجال او التعلق باوهام النفس… يكتسبها المعتقل من رفاقه في السجن… كعلم نافع متوارث.

لكن اكثر ما يزيد في عزيمة اي معتقل، هو الدعم الذي يجده في التضامن معه خارج أسوار المعتقل. عندما يعلم الانسان انه ليس وحيدا في المعركة التي يُؤْمِن بانه على جانب الحق فيها، فان ذلك يمنحه مصدر قوة وصمود لا ينضب، ويشعل جذوة ايمان في شعبه لا تنطفئ ولو تطاولت عليها الازمان.

ليس الاعتقال بالأمر المحمود، ولا هو من طبائع الأشياء ولا من طبائع العمل السياسي، بل هو من مكاره عصر الانحطاط الذي نعيشه، ولكن ما هو احرى بالمناضل الذي يجد نفسه داخل المعتقل، هو ان يحول تجربته تلك الي مدرسة يتعلم منها من نفسه بمراجعتها ومن الاخرين الذين هم معه.

ويوما ما … لا اشك في انه سيأتي ما دمنا ننبض، سنحول ساحة معتقل كوبر الي حديقة كبيرة، تحلق حول نوافيرها حمائم الحرية، وترفرف في جوانبها رايات العدالة والسلام، وستنتصب في منتصفها خشبة مسرح عالي، يحكي مأثر أولئك الرجال والنساء الشجعان الذين خاضوا في جهنم المعتقلات والسجون وفاخروا بطول قاماتهم هامات المشانق … لينتقوا صدر السماء لشعبنا … ولم يفلح الجلاد بكل سلاحه الجوي والبحري والدموي ان يمحو من ذاكرتنا صورهم الشامخة وسيرهم المجيدة.

وسيبقى المجد للسودان
ولشعب السودان

تعليق واحد

  1. لابد من إقرار مبدأ المحاسبة لكل من شارك في هذا الجهاز منذ 89 وإلا لا حوار لا تفاوض لا اتفاق لا سلام.. مازال انتهاك الحريات والتعذيب والقتل مستمرا…
    كلهم من امين بناني .. نافع .. صلاح قوووش.. محمد عطا وكل الأفراد من ضباط وعساكر هذا الجهاز………..

    لن يفلتوا بما فعلوه طوال هذه السنيين مع ناس لم يفعلوا شيئا سواء قول كلمة الحق في كل ما يجري من فساد..

    لمن لا يعلم ناس الامن من أغنياء البلد………………

    إقرار مبدأ المحاسبة واجب وطني

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..