أم الحسين

أم الحسين
بقلم: الدكتور نائِل اليعقوبابي
*(من يجعل من نفسه دودة
ليس له أن يتذمر إذا ما داسته قدم..).
– إمانويل كانت-
فيلسوف ألماني
.. كانت صبيّة تشعّ أنوثة. لكأن نحاتاً مبدعاً لتوه قد أنهى آخر ضربة إزميل وفق ما يتصور عن أروع مقاييس الجمال. صبية تلبس بنطالاً من الجينز، وبلوزة وردية اللون، شفافة الرؤية. أما ابتسامتها فتتناوب ما بين ثغرها وعينيها كسوناتا موسيقية يسمعها بعينيه كل من كان في الشارع. كانت تدفع أمامها عربة أنيقة تحمل رضيعاً فيه الكثير من ملامحها. فجأة توقفت وانحنت على الرضيع لتضع في فمه رضَّاعة الحليب. وافترّت حنجرتها التي لا تملك حبالها الصوتية سوى مغنيات الأوبرا، لتقول له: حبيبي خذ (البزة). فما كان مني إلاّ أن عاينّت إلى صديقي الذي كنت بصحبته صارخاً: “هوي حسين.. بربك دي أم، وأمك أم؟”
عايّن فيّ حسين بوجه ممتلئ بالألم والغضب والحزن والاستنكار والتأنيب وبكثير من الواوات الرديئة الأخرى وصرخ بوجهي: كيف تشبّه أمي بهذه الدمية؟‏
لعل حسين لم يدرك الدعابة. أم تراه حسبني أتناول موضوعاً عن أمه يتعلّق بالعرض المحرم! وأي عرضٍ لأم تجاوزت الثمانين من عمرها، ولم يعد لها الحق حتى بنون النسوة أو تاء التأنيث الساكنة، فماذا انتابك يا حسين؟‏
أعرف صديقي حسين منذ زمن بعيد. هو مرح لأبعد الحدود، وهو جاد أيضاً بنفس القدر. موظف لدى الدولة بشهادة جامعية. لا أدري كيف يوازن راتبه حتى آخر الشهر. إذا لم أقل أنني لم أرَ أحداً باستقامته الحياتية والوظيفية ونظافة يده وخلقه، فإنني أستطيع القول بأنني لم أشاهد من يفوقه بتلك الصفات. مولع بالقراءة والسياسة. يكره المرتشين والكذب والوصوليين والانتهازيين. أعرف أنه رقص في الشارع مع أبناء جيله يوم انتفاضة مارس أبريل. وأغلق عليه باب غرفته وبكى بغزارة يوم انقلاب يونيو 1989. وكان كطفل ينطنط في الهواء فرحاً أيام توقفت الحرب الأهلية، وكاد ينتحر من هول صدمة الانفصال المشؤوم.. هذا هو حسين بكل ما يحمل من رحابة صدر وسعة أفق ووطنية صادقة.. فكيف يضيق بدعابة قصدت منها انتزاع ابتسامة من الأم الفاتنة، وقهقهة من صديقي مستعرضاً ما أتمتع به من مرحٍ وخفة دم.‏
تابع حسين ثورة غضبه: أمي التي أنت تعرفها جيداً، كم جيل من الأطفال أرضعت. وكم من المواليد على يديها أبصروا النور، وكم من الصغار اندسوا تحت جناحيها في سهرات الشتاء الطويلة تقص لهم الحكايات عن الأخلاق والأمانة والفضيلة والنزاهة. أمي التي تربط على خاصرتها فوق القرقاب جيباً كبيراً تخبئ فيه الحلاوه والتمر واللألوب والنبق من أجل الأولاد. أمي التي يا ما جاءتها الأمهات بأولادهن المكسورة أيديهم أو أرجلهم لتضع لهم الجِبيرة، أو لتقرأ على رؤوسهم القرآن لتطرد عنهم الخوف والفزع والجان. أمي التي لم تكن تكتفي بأولاد الحارة، بل أطفال الحارات المجاورة والبعيدة أيضاً كان لهم حصة من حليب ثدييها وراحة حضنها وحكايتها المسلّية وحنانها الذي لا ينضب.. فمن يذكر الآن أم الحسين؟‏
فجأة خَفَّتْ لهجة حسين الحادة وبدا متأثراً أكثر مما هو متشنّج: أمي مدرسة قديمة متهدمة جدرانها. خرّجت كثيراً من الدكاترة والمهندسين والمقاولين والصحفيين والمسؤولين. لكن أحداً منهم لم يسأل عن مدرسته القديمة وجدارها الآيل للسقوط. أمي كعلم مدرسة القرية المهترئ، والذي يقف التلاميذ صباح كل أحد ليرفعوا له أيديهم بالتحية وهو يصعد السارية مهيباً رغم اهترائه، وما فكر واحد من التلاميذ القدامى بعلم جديد لمدرسته القديمة. أمي تشبه حارتنا العتيقة الملأى بالحفر والقاذورات وغادرها كل من أصبح مهماً وذا شأن إلى أحياء مترفة ليصب اهتمامه على تحسين حيه الجديد مثلما حَسَّن وضعه الاجتماعي والمعيشي ومحى من ذاكرته حارته القديمة. من يستطيع يا صديقي أن يحصي عدد المسؤولين والمهمين والأثرياء وأصحاب العمارات والسيارات والمقاولين والسماسرة والمتنفذين الذين أرضعتهم أمي أو غفوا في حضنها، وامتدت أيديهم إلى جيبها المليء بالحلاوى عندما كانوا أطفالاً، وكم من هؤلاء الأولاد امتدت أيديهم إلى سحارة أم الحسين لسرقة بعض القروش، وعندما كبروا امتدت أيديهم الرشيقة إلى جيب الوطن.
وهذه الصبية الجميلة المترفة التي تدفع ابنها في العربة الأنيقة، وبما هي زوجة لرجل مهمٍ أو متنفّذ أنساه غنجها حليب أم الحسين… فكيف تقارن بين هذه التي ترضّع ابنها حليباً اصطناعياً من رضاعة بلاستيك بأمي التي كان ثديها نبعاً لا ينضب حليباً وحناناً لكل أطفال الحلة الذين حين كبروا أنستهم العصائر المبسترة حليب أم الحسين.
أمي يا صديقي كما هذا الوطن.. كلاهما يشكو من النكران.
وفجأة التقت عيناي بعيني حسين.. وكان كل منا تتدحرج من عينيه دمعتان كبيرتان.. ولا أحد منا يعرف إن كنا نبكي أم الحسين أم أننا نبكي الوطن؟!.‏
[email][email protected][/email] ‏‏

– – – – – – – – – – – – – – – – –
تم إضافة المرفق التالي :
نائلكوف 064.jpg

تعليق واحد

  1. والله يا بروف لقد ابكيتني حقيقة اول مرة أقرأ لك، لكن هذا المقال لفت نظري لكاتب مهم/ ام الحسين هو الوطن هو الإنسان السوداني البسيط هو الحياة السودانية هو كل شيء

  2. والله فعﻻيادكتور نبكي الوطن الم وحسرة وفي ذاكرتي مقولة العمﻻق الطيب صالح طيب الله ثراه( من اين اتي هؤﻻء )……

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..