في ذكرى الشاعر عمر الطيب الدوش .. زمان كنّا بنشيل الود وندي الو

بروفائل
في ذكرى الشاعر عمر الطيب الدوش
زمان كنّا بنشيل الود وندي الود. وفي عينينا كان يكبر حنانا زاد وفات الحد.
أنتج مسرحاً وشعراً مفارقاً للعادي في وقته وما يزال إلى الآن..
الخرطوم: محمد إسماعيل
عمر الطيب الدوش هو شاعر ومسرحي غنى للوطن والحبيبة وأجج النضال في قلوب شباب الثمانينات تغنى له عدد من الفنانين غنى له مصطفى سيد، أحمد (سحابات الهموم) والفنان محمد وردي (الود.. يا جميلة ومستحلية.. والحزن القديم.. وبناديها) والفنان حمد الريح بأغنية (الساقية) وأغنية (سعاد) غناها الفنان عبد الكريم الكابلي.. تمر علينا الذكرى ثلاث وعشرون سنة على رحيله 1944 – 1998م
النشأة والميلاد:
ولد عمر الطيب الدوش في مدينة شندي 1948م تخرج في معهد الـموسيقى الـمسرح قسم الـمسرح – عام(1974) وهي أول دفعه تتخرج في الـمعهد ومن زملائه هاشم صديق وإسحاق الحلنقي، وصلاح الدين الفاضل. وناصر الشيخ . وفي قسم الـموسيقى محمد وردي. وأنس العاقب. وعثمان مصطفى في إفادة من صلاح الدين الفاضل المخرج الإذاعي يقول إن الدوش قد كتب الـمقطع الأول لأغنية (عصافير الخريف) على السبورة (.. ليه يا عصافير الخريف) ثـم قام الحلنقي وتم القصيدة على السبورة.. ثم سافر إلى بلغاريا لمواصلة دراسة المسرح.
كتاب مفتوح:
أرملته
الفنانة المسرحية سعاد محمد الحسن
قالت عن الدوش وعن قصة الزواج منها:
كنا ندرس في معهد الدراسات الإضافية بجامعة الخرطوم آنذاك في فترة حكم مايو 1983، درسنا تاريخ المسرح وبعد شهر على بقاء هذا الأستاذ معنا عرفنا أنه عمر الدوش.
وعن اللقب (الأستاذ أبو حجاب) تروي الأستاذة سعاد: عندما جاء الدوش لتدريسنا كان يعلق حجاباً قديماً على عنقه (ضحكت وأردفت أطلقت عليه “الأستاذ أبو حجاب”)، في أثناء المحاضرة تنقطع حجابه وهوى على الأرض فتناوله مسرعاً إلي ووسط دهشة الزملاء قال لي.. أمشي أعملي لي خيط للحجاب دا..
وذكرت أنها خرجت محتجة بين الزملاء
وتحكي سعاد حكاية زواجها من الدوش.. تقول: كان مخالفاً للعادات السودانية كان في شهر سبتمبر 1986 أنا أول فتاة تتزوج بلا مهر ودون شبكة.. الدوش دفع لأهلي خمسة عشر جنيهاً وقال لي إنت أغلى من إني أشتريك.. أهلي زعلوا شديد مني، كنت مقتنعة بالفكرة ووقتها كنا نناهض المظاهر الفارغة في المجتمع السوداني لذلك قررنا أن نبدأ بأنفسنا، تم الزواج دون حفلة ولم أرتدِ الزفاف.. عند المساء اشترينا فول من الدكان وذهبنا الى بيت أخته الوحيدة التي حضرت عقد القرآن في المساء تجمع أصدقاؤنا في بيت أختو.. وأصحابي غنوا لي، وأنا ذاتي غنيت فاصل في العرس، وناس بيتنا ذاتهم اشتروا عشاهم من الدكان.
وتقول سعاد: الدوش كتاب مفتوح للجميع بسيط واضح وساخر جداً للدرجة التي كانت تغضبني منه سهل ممتنع يمكن لأي شخص أن يتعايش معه، لا يعيش في دور الأستاذ والشاعر كسول جداً (الموية دي إلا أديها ليه) لا يساعدني في المطبخ لكن كان عنده (حلة) بيعملها كل شهر.. عمر ما كان بيرضى أنظف غرفته لأنه كان يكتب الشعر على الأرض، يكتب في صندوق السجائر وعلى قصاصات الجرائد، كان يكتب تحت شجرة ظليلة في البيت وعندما ألحظ أنه انصرف عني أدرك أنه يكتب في قصيدة أو مسرحية..
لك مع الظلال حكاية:
أما يحيى فضل الله المخرج المسرحي والشاعر فيحكي:
قال كنت أتونس مرة مع البروفيسور علي المك حول الدوش
قال لي علي المك: أمبارح كنت أستمع الى أغنيتك يا يحيى يا ضلنا، فكرت في كيف اهتديت يا يحيي الى هذا المطلع الشفاف..
يحيى: والله يا أستاذ علي قد تبدو المسألة عفوية ولكنها أيضاً لا تخلو من قصدية، قد لا أعرف كيف خطرت ببالي هذه الفكرة ولكني أحس بأن فكرة مناجاة الضل فكرة موحية وعميقة وأنا قد استسلمت تماماً لهذه الفكرة وأنت أيضاً يا أستاذ لك مع الظلال حكاية فأنت منحاز الى فكرة الأشجار بظلالها وأنها الأشجار تتميز بالظلال وليس بالثمار.
علي المك: تعرف يا يحيي هي فكرة فلسفية فكرة الأصل والظل فكرة النقائض لكن الانحياز هنا يبدو أمر عاطفياً جداً.
يحيى: طيب أنا أذكرك بي حاجة سمعت بناديها لعمر الطيب الدوش
علي المك: طبعاً
يحيى: وفي مقطع بقول:
بفتش ليها في التاريخ
وأسأل عنها الأجداد
وفي أحزان عيون الناس
وفي الضل الوقف ما زاد
هنا تفتكر يا أستاذ الضل الوقف ما زاد ضل أفقده عمر الدوش الحركة. هل يكون ذلك هو تعبير عن معنى الثبات عن جمود في الزمن؟
علي المك: ما هو شوف، الأغنية الجميلة عندها القدرة العالية جداً في أنها تتسرب للمتلقي مفاهيم فلسفية قد تبدو في غاية التعقيد، يعني مثلاً التساؤلات العميقة عند شعراء الحقيبة
يا طبيب أنا أسألك
قول لي بكل صراحة
أنحنا هل جنينا
أم عقولنا نحن نصاح؟
أو..
أنت صاحي ولا نايم
ولا طرفك من طبعو نعسان
زي ما بقول ليك ببساطة شديدة إنو الأغنية ممكن تقودك ـ مش كمان أي أغنية تقودك الى مفاهيم فلسفية..
يا عبدو روق:
عمر الطيب الدوش يظل منتمياً إلى جيل السبعينيات وهو جيل أتى بعد ثورةٍ كبيرة.
وبالتالي تنتمي كتاباته الشعرية مثل بناديها. الود الحزن القديم. جميلة ومستحيلة إلى هذا الضرب من التجديد في الكتابة الشعرية والغنائية على حدٍ سواء وتمّ تحميلها بكمٍ هائل من الرمزية.
ولا ينفصم عن هذا الانتماء مسرحيته يا عبدو روق التي أخرجها المسرحي عادل حربي..
ثم عنايته الفائقة بالخيال في الشعر. كما يخيّل إليك أنه يكتب المسرح في الشعر نفسه. إذ تضج قصائدهُ بالشخصيات والأسماء والأمكنة والتصاوير.
يحكي عنه من يعرفونه أنه كان في غاية من البساطة والسهولة واليسر في الحياة. وبذات القدر غاية في الشدة في التمسك بمبدئه. وصارماً في فكرته. وشديداً في مخياله. وأميناً للمسرح الذي أحبه، في مقالاته التي كان يبثها بين فينة وأخرى، على صفحات الصحف، في زاويته المشهورة (عن المسارح نحكي).. فأنتج مسرحاً وشعراً مفارقاً للعادي في وقته وما يزال إلى الآن..
كتب شعراً متقدماً على زمانه موضوعاً وشكلاً.. وقد اخترع للقصيدة الغنائية شكلاً جديداً غير معهود وهي القصيدة ذات الوحدة الموضوعية كأغنية الود التي عمل وردي على إعطائها ذات الوحدة الموضوعية في اللحن وفي التوزيع الموسيقي..
بطل تراجيدي:
الدوش يأخذ فرحه الخاص وحزنه الخاص ويصنع منهما شعراً.. وعندما تكون تجربته الوجدانية كبيرة.. يتجه بكامله لتجربته الحياتية الوجودية ويصبح هو البطل للتجربة.. أي أنه يحول بطل القصيدة إلى شخص تأريخي.. وهنا داخل النص الشعري يتداخل المستويان.. الشعري المتخيل والواقعي المعيش كما في قصيدة
.. بناديها.. وقصيدة الود..
كان عمر الدوش مجدداً متمكناً من فن الشعر لم يقلد أحداً وعجز مقلدوه.. يقال إن له صوت سمح المحيا جميل في صوته خامة غنائية عذبة تؤهله لأن يكون مطرباً مرموقاً كان معروفاً أن صوته فيه شيء من العاطفة وشيء من الرقة والدفء والحنان.. كون عمر الدوش فرقة للغناء بعد اعتقاله في سجن كوبر 1973م، وشاركه فيها الغناء صلاح عباس (طالب الحقوق) وضياء الدين طالب الاقتصاد جامعة الخرطوم؛ كان ثلاثتهم يبدأون الغناء في ليالي السجن القاتمة الموحشة:
شاعر الدهشة والفضاء:
يظل شاعر الدهشة والفضاء الرحب، فالقصيدة عنده فضاء مسرحي فسيح يعرض فيه كل حياة المجتمع بكل تفاصيلها الدقيقة. القصيدة يصحب معك فيها ذلك الخليط من العام والخاص بفيض من مشاعر إنسان صادق البوح.
لقد انتقل بالأغنية السودانية نقلة خالفت المألوف والمعتاد كغيره من الشعراء كثر ولكنه كان متفرداً بتراكيب ومفاهيم جديدة في سياق همه بالارتقاء بالكلمة الغنائية وتحديداً في أغنية (الحزن القديم .. والود . وبناديها والساقية. وسعاد. وجميلة ومستحيلة).. وغيرها من الأشعار والأغنيات التي التصقت بوجدان المتلقي السوداني..
اليوم التالي