السودان النموذج المصغر لأمريكا: عندما يكون التنوع سلاحا ذو حدين..

د/ الفاتح ابراهيم
هذا المقال أوحت به رحلة قمت بها بالسيارة عبر القارة الأمريكية من هيوستن إلى واشنطن حين بدا لي فيها أن السودان بحق هو النموذج المصغر للولايات المتحدة الأمريكية ..
في منتصف الثمانينيات بعيد تخرجي من جامعة أوهايو عملت في مدينة هيوستن في ولاية تكساس بعد عامين جاء قرار نقل المكتب الذي اعمل فيه الى العاصمة واشنطن .. وبالرغم من أنه تم تزويدنا بتذاكر الطيران للسفر جواً إلا أنني فضلت أن لا أفوِّت فرصة متعة السفر عبر الطرق البرية السريعة التي طالما قرأت وسمعت عنها الكثير ..إن كل من تلقى الدراسة في السودان بمنهج ما قبل السلم التعليمي أو قبل العبث الذي طاله بعد ذلك لا بد أن يذكر أن الطالب كان يتخرج عبر كل المراحل حتى الجامعة مزودا بكل ما من شأنه أن يعينه في حياته في مستقبل الأيام .. تذكرت أيام الدراسة في السودان وانا أقود السيارة عبر تلك الفيافي الشاسعة المسماة الولايات المتحدة .. كانت دروس الجغرافيا حاضرة فكل ما مررت به من مناخات وزراعة وصناعة لقد سبق أن عرفت شيئا منه نظريا خلال سني الدراسة ولكن الآن اراه عمليا مجسدا في الواقع .. كذلك كانت الدراسات الأدبية تفرض نفسها عندما عادت بي الذكرى إلى مقررات الادب الإنجليزي وكتاب – السفر مع شارلي – “”Travel with Charley للمؤلف الأمريكي المعروف شتاين بك يصف فيه تلك الرحلة الشهيرة التي طاف بها بلاده مع كلبه شارلي .. وبالرغم من أن كتاب شتاين بك لم يكن ضمن المقرر ولكن هل كنا نكتفي بذلك ومكتبة المدرسة تزخر بكل ما لذ وطاب من صنوف المعرفة .. مدفوعين بذلك النهم المتجدد للمعرفة إذا لم نجد ما يطفئ العطش في مكتبة المدرسة فإن مكتبة المجلس البريطاني “”The British Counsel حاضرة لخدماتنا المعرفية ..
في ذلك الزمان الذي قد يبدو الآن بعيد المنال كانت الإمكانات متاحة والمستويات متقاربة والنفوس تواقة للتحصيل مفعمة بالأمل والطموح .. يقف وراء هذا الزخم مدرسون أكفاء متدربين على أحدث مناهج التدريس .. كان ذلك قبل أن تلفظهم أمواج التمكين أو حماقات السياسة لتحتضنهم الدول النفطيه وغيرها مثل غيرهم من الأطباء والمهندسين دعما للمشاريع الطموحة لتلك البلدان في هجرة غير مسبوقة للعقول ، وتلك قصة أخرى ..
على أي حال بدأتُ بجدية التحضير للرحلة التي ستكون طويلة وتجربة جديدة لم اخضها من قبل خاصة وأني ما زلت نسبيا جديدا على هذه البلاد لم تتعدى تجربتي حرم الجامعة ..
ومما لم اتوقعه هو أني حينما سألت جيراني في السكن بما في ذلك مدير المجمع السكني لمساعدتي في خطة الرحلة لم أجد أحدا منهم لدية فكرة محددة عن واشنطن أو موقعها وإنما معلومات مبهمة غير دقيقة .. لا يبدو انهم مهتمين بهذا الجانب من المعلومات !! هذا أول انطباع لي وهو أن هناك أمريكان لا يهتمون إلا بالمدينة حيث يعيشون وبعضهم فقط الحي الذي يسكنون والسوبرماركت والنادي إذا كانوا من ممارسي الرياضة .. وربما لهم بعض العذر فإذا كان كل ما يحتاجه الفرد متوفر على بعد خطوات لماذا يهتم بما وراء ذلك ..
كان ذلك قبل الـ GPS والكمبيوتر لذلك لجأت الى ما يعرف بـشركة AAA للتزود ببعض الخرائط .. بعد نظرة سريعة للخرط وجدت أن الرحلة بكل بساطة ستكون عبر طريقين فقط هما: الطريق السريع 10 East إلى ولاية فلوريدا ثم 95 North إلى واشنطن دي سي .. استغرقت الرحلة ثلاثة أيام مررت خلالها بكل مناخات الجغرافيا صيفا وشتاء وخريفا ومختلف حالات الطقس مشمسا وغائما وممطرا ومثلجا .. أما هندسة الطرق فإنها تتشكل حسب البيئة التي تمر بها .. على سبيل المثال الطريق 10 East إلى ولاية فلوريدا عندما يمر بلويزيانا ومسيسيبي حيث منطقة المستنقعات الوعرة يكون الطريق على الجانبين مرفوعا على أعمدة طويلة حتى تحسب وانت تقود السيارة كأنك على متن طائرة وانت ترى من تحتك مستنقعات نهر المسيسبي .. وتنتشر على الطريق الاستراحات والمطاعم ومحطات البنزين وكل وسائل الراحة للمسافر ومما لا يتسع المجال لتفصيله ..
والرحلة في مجملها تؤكد حقيقة أن السودان ما هو إلا نموذج مصغر للقارة الأمريكية حيث التنوع في البيئة والمناخ والثقافات والفنون شرقا وغربا شمالا وجنوبا ..
هكذا وجدت أمريكا نفسها محاطة بكل هذا التنوع من الموارد الطبيعية إلى جانب تنوع الثقافات والفنون والسحنات واللهجات .. هذه العناصر التي عرف قيمتها قادة أمريكا كقوة دفع للنمو منذ تكوين الدولة بعد الحرب الأهلية والتحرر من التاج البريطاني فاستخدموها خير استخدام .. وكانت النتيجة هذا الكيان السياسي ذو القوة الاقتصادية والعلمية التكنولوجية مثال يحتذى بين الأمم ..
ومع أن السودان يمتاز بنفس المواصفات لكن مازالت البلاد تعاني وتنتظر من ينتبه إلى الموارد القابعة في الأرض رهن الإشارة لتستخدم في التنمية والتقدم المنشود ..
والسؤال الملح إلى متى يكون تنوع البيئات والثقافات والموارد مصدر ضعف وتشتت خاصة بعد أن قلبت ثورة ديسمبر المجيدة الطاولة وغيرت المسار ولم يبق إلا شحذ الهمم وتجميع كل الإمكانات في بوتقة الانصهار والاستفادة من هذا الزخم الذي بثته ثورة الشباب لبناء دولة السلام والحرية والعدالة ..



