وزارة وتجارة!

تشرئب أعناق كثيرة، من عدة مشارب، هذه الأيام، للاستوزار. ومع أنه من حق أي شخص، سواء كان امرأةً أو رجلاً، أن يطمع في اعتلاء كرسي الحكم، إلا أن ما نرى من تكالب قيادات الأحزاب وكوادرها على كعكة السلطة في الحكومة المرتقبة، شيء يستدعي التعجب، بكل أمانة. حدثني من أثق في حديثه أنه اتصل على أحد أقربائه، ممن أدمنوا ممارسة العمل السياسي، عبر كل الحكومات التي تعاقبت على السودان، ومنذ أن كان شاباً غض الإهاب، حتى وهن العظم منه واشتعل الرأس شيباً، وقال له: يا فلان ألا يكفيك ما شغلت من مناصب في هذه الدولة؟ فرد عليه بقوله: دعونا من هذه المثالية “ويا أخ خلونا نستفيد”! حكي لي صديقي أنه شعر بموجة من الأسى تجتاح قلبه وعقله؛ إذ لم يكن يتوقع أن يكون الناس قد وصل بهم الأمر لهذا الحد من الطمع والتكالب على بريق السلطة ومميزاتها. من جانب آخر، يتجنب أستاذنا أحمد المصطفى إبراهيم، صاحب الاستفهامات، الكتابة عن السياسة، ولكن عندما يكتب في هذا المجال، يعمد إلى أسلوبه المعروف الذي يجمع بين الواقعية والسخرية. فقد قال: “غداً أو بعد غد ستظهر قائمة من سبعة وسبعين وزيراً، كل منهم ستكون عينه على امتيازات المكتب الجديد والسيارتين الجديدتين والحاشية المطيعة، وسيأخذ هذا من وقته الكثير، وسيكون هناك عشرات المستفيدين من هذه النقلة في حياة الوزير إن كان جديداً؛ وستضم قائمة المستفيدين سماسرة المفروشات وتجهيز المكاتب وسماسرة السيارات. وبعد شهر أو شهرين وبعد أن يستقر الأمر له لن يبحث في متطلبات الوظيفة وما يليه من الخطة الاستراتيجية العامة (علماً بأنه ليست هناك استراتيجية أصلاً) بل سيبدأ صاحبنا في تثبيت نفسه ولفت النظر إليه وسيعمل كل ما هو لافت للنظر بعيداً عن الأولويات وما ينفع الناس على المدى الطويل”. وأصدقكم القول إنني أشاطر أحمد المصطفى نفس الإحساس بناءً على تجارب كثيرة مرت بها هذه البلاد المأزومة التي صارت فيها النخب تتنافس على المواقع دون خجل، وهذا لعمري أمر جد مؤسف! فقد كنا نتوقع أن يفضي الحوار الوطني إلى برنامج حكم واستحقاقات دستورية، لا تؤدي لكل هذا التكالب والتنافس المحموم بين القيادات السياسية، وكنا نريد لذلك البرنامج أن يكون قابل للتنفيذ بغض النظر عمن يصل إلى المناصب الوزارية والدستورية، في دولاب الحكم، على المستوى الاتحادي والولائي. ولكن يبدو أن المحاصصة قد أصبحت هي ديدن الأحزاب السودانية، سواء في ذلك الموالية والمشاركة والمعارضة وحاملة السلاح والمتفرجة، وحتى تلك التي تقف على الرصيف! إن الذين كانوا يبشرون بنتائج الحوار الوطني جعلوا الجماهير، عبر الدعاية السياسية والإعلامية، تصدق أن تلك العملية سوف تتمخض عن وفاق فعلي يمكن أن يصحح كل الإخفاقات التي ظلت، منذ زمن طويل، تكتنف دفة الحكم في السودان، بيد أن ما اتضح، حتى الآن، وحسبما رشح عن المخاض العسير لتشكيل حكومة الوفاق المرتقبة، أن الأمر لا يعدو كونه إخراج لمحاصصة من شأنها أن توفر مقاعد دستورية مرموقة تكفي لكل هذه الطوابير التي تتطلع لكراسي السلطنة من الكوادر الحزبية التي تنتظر دورها لتأخذ نصيبها من الكعكة، متجاهلة كل ما بذل في الحوار الوطني من جهد وما أنفق فيه من أموال طائلة لا يعلمها إلا قليل! ومع إدراكنا التام أن عدداً لا يستهان به من رجال ونساء السودان المخلصين قد شاركوا في تلك العملية، غير المسبوقة، نخشى أن يذهب جهدهم وآراؤهم أدراج الرياح؛ بسبب الانشغال في خضم هذا التكالب والركض المحموم للحصول على منصب وزاري أو تشريعي؛ حتى يقال لمن يشغلون تلك المناصب: لقد قال أو صرح أو أكد سيد فلان، وتظهر صورته في أجهزة الإعلام والصحافة، وهو يلوح بعصاه المرصعة بالعاج، دون إنجاز يذكر. حضرات السادة، إن بلادنا ليست بحاجة لحكومة يكون أساسها المحاصصة واقتسام المناصب؛ لإرضاء هذه الجهة أو تلك، بقدر ما هي بحاجة لبرنامج وخطط اقتصادية وخدمية وتنموية من شأنها أن ترفع المعاناة والضنك عن كاهل الشعب المغلوب على أمره، وتوفر له العيش الكريم، والأمن والاستقرار، والتعليم والصحة، وتدفعه للعمل الجاد وزيادة الإنتاج، في ظل حكومة كفاءات، أو تكنوقراط، من ذوي المعرفة والخبرة والصدق والإخلاص، والالتزام بالمصلحة الوطنية العليا، بغض النظر عن الأحزاب أو الجهات التي يمثلونها. أما الذين يتطلعون للمناصب لأول مرة، فأقول لهم، بصراحة: لا تفرطوا في التفاؤل؛ فإن من يمسك بزمام الأمر لا يمكن أن يترك لكم الحبل على الغارب! ولعلنا نلفت الأنظار، في هذا المقام، إلى المثل المشهور في دار فور الذي يقول: “دا محل… بابا وليده”؛ لأن شهوة السلطة لا تنزع إلا بعد بلوغ مرحلة الإحسان، وذلك أمر صعب المنال، حسب المعطيات. أيها الساسة أربعوا على أنفسكم وضعوا مصلحة الوطن نصب أعينكم واخجلوا؛ فما عاد السودان يتحمل كل هذا التنافس، والترف السياسي. واعلموا أن المسألة ليست مجرد وزارة وتجرة.
[email][email protected][/email]