الطيب صالح كاتباً للمقال

د . حسن مدن

لم يكن الطيب صالح روائياً فحسب، وإنما كان أيضاً كاتب مقال صحافي متميزاً، والسبب في رأي من تناولوا تجربته هذه يعود إلى موهبته في الكتابة عامة، وإلى أنه ظل قارئاً نهماً يلتهم الكتب التهاماً، بتعبير مواطنه طلحة جبريل .
وإذا اقترنت الموهبة بالمعرفة وسعة الاطلاع فإننا نكون إزاء كاتب مقالة جيد . ستظهر ثقافة الكاتب ومعرفته مبثوثتين في ثنايا ما يكتب من مقالات، هو الذي عرف الآداب الأجنبية بمقدار ما كان متبحراً في الأدب العربي، ومن ذلك ولعه بالمتنبي الذي انعكس في السجال الذي خاضه مع آراء طه حسين حول المتنبي وأبي العلاء المعري .
وكان البروفايل الصحفي الذي أبدع فيه الطيب صالح حصيلة المهارة الوصفية في تجربته السردية، روائياً وقصصياً، وفي الآن ذاته حصيلة ذلك الاطلاع الواسع، الذي جعله “يتفوق على الذين كتبوا هذا الجنس من أجناس العمل الصحفي بقدرته المذهلة في صك الأوصاف بلغة فاخرة وجذابة”، كما قال طلحة جبريل .
سنتذكر ما قاله سلامة موسى عن الخبر المقالي والمقال الخبري، ونحن نطالع نقرأ مساهمات الطيب صالح في كتابة التقرير الإخباري، كجنس من المقال أجاده الطيب صالح .
ثمة أمر مهم يتصل بموقف الطيب صالح من الحياة والناس والمجتمع، فالمقالة الأنيقة، المثقفة، وحتى المفكرة للرجل، القائمة على العناية بجمال اللغة وسلامتها وتكثيفها، لم يمنعه من الانخراط الواعي والشجاع في مناقشة هموم الوطن، وما أدل على ذلك من مقالته الشهيرة: “من أين جاء هؤلاء الناس”، التي دخلت تاريخ المقالة السياسية في السودان .
“من أين جاء هؤلاء الناس؟ أما أرضعتهم الأمهات والعمات والخالات؟ أما أصغوا للرياح تهب من الشمال والجنوب؟ أما سمعوا مدائح حاج الماحي، وود سعد، وأغاني سرور وخليل فرح وحسن عطية والكابلي وأحمد المصطفى؟ أما قرأوا شعر العباسي والمجذوب؟ أما سمعوا الأصوات القديمة، وأحسوا بالأشواق القديمة، ألا يحبون الوطن كما نحبه؟ إذاً، لماذا يحبونه وكأنهم يكرهونه، ويعملون على إعماره وكأنهم مسخرون لخرابه؟” . ثم يختم “من أين جاء هؤلاء الناس، بل مَن هؤلاء الناس؟” .
ألا يذكرنا هذا النص البديع بقول محمود درويش: “ألا تحفظون قليلاً من الشّعر كي توقفوا المذبحة؟/ ألم تولدوا من نساء؟ ألم ترضعوا مثلنا/ حليب الحنين إلى أمّهات؟/ ألم ترتدوا مثلنا أجنحة/ لتلتحقوا بالسّنونو/ وكنّا نبشّركم بالرّبيع، فلا تشهروا الأسلحة!” .
[email][email protected][/email]

الخليج

تعليق واحد

  1. فعلاً ،فعندما تلتقي الموهبه بالعلم إضافة للحس المرهف عندها كأنما وجدنا أنفسنا أمام واحة في هجير الصحراء لا يستطيع العاقل منا إلا أن ينغمس فيها فتغمره بالراحة و تكفيه من شرور لهيب الحياة كما تروي الواحة ضمآن الصحراء ، إنه الطيب صالح في تقييمي المتواضع كقارئ ، له الرحمة و المغفرة و جنات الخلد ..فأنا من معجبيه بل من محبيه ، و شكراً أيها الكاتب لأني وجدتك تشاركني و الكثيرين الإعجاب و التقدير لهذا الروائي الإنسان فهو من القلائل الذين تجود بهم الحياة بين الحين و الآخر .

  2. تـحـيـتـي الـخـالـصـة لـلـدكـتـور حـسـن مـدن لـمـقـالـه الـعـظـيـم.

    ســرد كـتـابـي تـحـلـى بـسـلامـة وعـظـمـة الـلـغـة الـعـربـيـة الـتـي (فـي نـظـري)، بـدات تـتـعـمـق فـي تـدرج ســلـبـي مـدمـر لـهـا ..
    نـعـم كـان تـعـلـيـمـي عـلـى أيـدي أســاتـذة لـهـم تـاريـخ طـويـل مـع الـلـغـة الـعـربـيـة فـي الـمـدرســة الأهـلـيـة الـثـانـويـة الـنـظـام الـقـديـم (فـي نـهـايـة الـســتـيـنـات) ، ومـن تـلـك الـفـئـة فـطـاحـلـة الـلـغـة الـعـربـيـة ومـنـهم الأسـتـاذ عـبـدالـقـاد كـرف والأسـتـاز ســيـدهـم والأسـتـاذ دوشــيـن والأسـتـاذ مـحـي فـارس.. كـانـوا فـعـلاً مـعـلـمـيـن لأجـيـال كـثـيـرة وبـدون دروس خـصـوصـيـة … كـان هـدفـهـم تـعـلـيـم تـلـك الأجـيـال وتـصـعـيـد أهـمـيـة لـغـتـهـم الأم فـي مـسـتـقـبـلـهـم … آلا رحـم الـلـه درر الـسـودان الـحـبـيـب وأعـاد لـلـغـة الـعـربـيـة رونـقـهـا وجـمـالـهـا الأصـيـل …

  3. الكتابة حول أدبيات الطيب صالح لن تنتهى و لا تمل..تتجلى عبقرية الرجل فى صياغته للواقع الخاص كأنه واقع عام يتلمسه القارىء فى كل سطر و يتعاطى معه كواقع شخصى..كما أنه فى تصويره للخيال المحض يعطى ذلك الخيال من الحيوية ما يجعله أقرب للواقع من الواقع..و يجعل القارىء أسيراط لذلك الخيال حتى يتمنى ألو كان حقيقة..إن الطيب صالح فعلا” من القلائل اللذين تجود بهم الدنيا من حين لأخر.. لعل ذلك يعطى الأمل للأخرين بأن كل الأحلام ممكنة…

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..