هذه العقلية

في صيف كل عام تظهر قطوعات المياه في عددٍ من أحياء الخرطوم، تأتي “الأزمة ” في الموعد تماماً مثل العُشاق الهائمين لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون…تطلُّ القطوعات مع الصيف كإطلالة طائر “السمبر” مع تباشير الخريف، وتمضي الأيام ثقالاً ويكْثرُ الضجر وتَبَحُّ الأصواتُ من الجأرُ بمرِّ الشكوى، ويطلُّ مسؤولو الهيئة من برجٍ عاجي لِيُسمعوننا نغمةً من أسطوانةٍ مشروخةٍ حفظها الناسُ أجمعين قبيل كل صيفٍ أو أثنائه..

قبل عامين أكد مسؤول رفيع بالهيئة على عدم حدوث أية قطوعات مياه خلال شهر رمضان”…وجاء رمضان و”الموية كضبت الغطاس”..وقبل أيام طالعنا عنواناً بـ “الصحافة” جاء فيه: مدير هيئة المياه يؤكد:صيف من غير قطوعات، وقلنا ماشي…أما أحدث تقليعة فقد جاء فيها “إن الصيف القادم سيكون خالياً من القطوعات”…في كل مرة أقرأ تلك التصريحات أتذكر القصة التي تقول أن بدوياً شحيحاً كان كلما يحلَّ موسم الشتاء يرى أبناءه يئنون من وطأة برد الصحراء القارس، يَعْمد إلى تصبيرهم بكلمات ظلَّ يرددها في كل يوم وفي كل موسم شتاء كان يقول لهم:” بكرة الصباح أبيع الحاشية ـ يقصد صغيرة الناقة ـ وأشتري لكم توباً لتتغطوا به من البرد..وعندما تطلع الشمس يقول لهم:”طلعت الدافية ما بنبيع الحاشية”، ويستدفئ الأبناء بالشمس وينسون البرد مؤقتاً، وما أن يحل الظلام ويضعهم البرد تحت براثنه وتبدأ ساعات المعاناة مع البرد يردد أبوهم وعده المكذوب :” بكرة نبيع الحاشية”…وتطلع شمس اليوم التالي ويتراجع عن وعده مثلما تنسى الهيئة وعدها عند حلول الخريف والشتاء.

عقلية المسؤول الذي يُبشِّر المواطن بتوفير ماء الشرب في رمضان هي التي تصنع الأزمات، وهي عقلية تحصر طموح الشعب السوداني في توفير جرعة ماء في رمضان، هذه العقلية صانعة الأزمات تذكرني بالقصة التي تقول إن شخصاً شكى لـ” شيخه” بأن زوجته تنكِّد عليه بسبب ضيق الغرفة التي لم تعد تسعها والأولاد، فأرشده “الشيخ” بأن يشتري حماراً ويضعه معهم في ذات الغرفة الضيقة، ففعل وأتى في اليوم التالي للحكيم فسأله الأخير فأجاب صاحبنا أن الحال ازداد سوءاً، فطلب منه أن يشتري خروفاً ويضعه معهم في الغرفة، ففعل وجاء في اليوم التالي يشكو الكرب الذي تعاظم واستحكمت حلقاته، فأمره أن يشتري ديكاً ويضعه معهم في الغرفة ففعل والحال بلغ بأهل الدار قمة السوء والضيق، وبعدها طلب منه أن يخرج الحمار ففعل، ولما سأله كيف الحال أصبح عندكم، فقال صاحبنا: والله يا مولانا بعد طلعنا الحمار الحال شوية بقى أحسن، ثم طلب منه إخراج الخروف، فالديك، وفي كل مرة يحدث انفراج أكبر للوضع، ولما أخرج كل “الأجسام الغريبة ” بدا الأمر مقبولاً جداً للزوجة وأبنائها وبهذا اعتبروا أن أزمة الضيق حلت تماماً..هكذا العقلية التي تصنع الأزمات تضع في غرفنا الحمير والخرفان والديوك حتى إذا بلغ عندنا الضيق مبلغاً لا يطاق أسرعت بإخراج “حيواناتنا” من الغرف لتشعرنا بأنها حلت الأزمة تماماً.. اللهم هذا قسمي فيما أملك.

نبضة أخيرة:

ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحبُّ أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين.

الصيحة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..