مقالات ثقافية

التجاني يوسف بشير — الحائرْ المُحَيّر (1-13)

محمد فقيري

فَغَرَّبْتُ حَتَّى لَمْ أَجِدْ ذِكْرَ مَشْرِق
وَشَرَّقْتُ حَتَّى قَدْ نَسِيتُ الْمَغَارِبَا
أبو تمّام

لا أخالني ابالغ إذا قلت أن التجاني يوسف بشير غرّب في جليل المعاني حتى غاب عنه ذكر المَشرِق ، وشرّقَ في اللحظة نفسها كأنه لم يُغرّب ، فعاش في زمنين ومكانين في آن ، وذلك سرُ عبقريته التي قتلته في عز الصبا ، ونحن ، وقد إستعرنا البيت من إبي تمّام فلنا ما أردنا من العبارة ولإبي تمّام ما أراد ، فالعبارات مشاعة واللغة مشاعة ، وما دُمْنا نشير إلي صاحب العبارة فلا مأخذ علينا ، ولسنا أجلّ من المُتنبي الذي أخذ العبارة من إبي تمّام فقال واصفاً شعره المجيد:-
فشَرّقَ حتى ليسَ للشّرْقِ مَشرِقٌ
وَغَرّبَ حتى ليسَ للغرْبِ مَغْرِبُ


نحن نضع ــــــــــ غير مفتيرن ـــــ شاعرنا الفذ بين إبي تمّام والمُتنبي ، ولو عاش نصف ما عاشوه من عُمْرٍ لفاقهم أجمعين ، ولكن إختطفه الموت في الخامسة والعشرين ، وإن كان أبو تمّام يُعبّر عن حبه للترحال المكاني في الشرق والغرب كما يقول (كأن به ضغناً على كل جانب ـــــــــــــــــ من الأرض أو شوقاً إلي كل جانب) ، وإن كان المتنبي يفتخر بشعره الذي يطير إلي الشرق والغرب فيسمعه الأصم وينظر إليه الأعمي ، فإننا نتحدث هنا عن شاعر فيلسوف ، أو بالأحرى فيلسوف شاعر، شرّق في حركة الكون وغرّب في سكونه.

جاء في المعاجم في معنى الشَرْق:- الشَّرْقُ) (الْمَشْرِقُ) وَهُوَ أَيْضًا الشَّمْسُ, يُقَالُ: طَلَعَ الشَّرْقُ, وَ (الْمَشْرِقَانِ) مَشْرِقَا الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ, وَ (الْمَشْرَقَةُ) مَوْضِعُ الْقُعُودِ فِي الشَّمْسِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا وَ (تَشَرَّقَ) جَلَسَ فِيهَا, وَشَرَقَتِ الشَّمْسُ طَلَعَتْ وَبَابُهُ نَصَرَ وَدَخَلَ, وَ (أَشْرَقَتْ) أَضَاءَتْ, وَأَشْرَقَ وَجْهُ الرَّجُلِ وَالشَّرَقُ بِفَتْحَتَيْنِ الشَّجَا وَالْغُصَّةُ وَقَدْ (شَرِقَ) مِنْ بَابِ طَرِبَ أَيْ غَصَّ وَ (التَّشْرِيقُ) أَيْضًا الْأَخْذُ فِي نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ يُقَالُ: شَتَّانَ بَيْنَ (مُشَرِّقٍ) وَمُغَرِّبٍ.
وتقول المعاجم في معنى الغرْب:-(الْغُرْبَةُ الِاغْتِرَابُ) تَقُولُ: (تَغَرَّبَ) وَ (اغْتَرَبَ) بِمَعْنًى فَهُوَ (غَرِيبٌ) وَ (غُرُبٌ) بِضَمَّتَيْنِ وَالْجَمْعُ (الْغُرَبَاءُ), وَالْغُرَبَاءُ أَيْضًا الْأَبَاعِدُ, وَ (اغْتَرَبَ) فُلَانٌ إِذَا تَزَوَّجَ إِلَى غَيْرِ أَقَارِبِهِ, وَ (التَّغْرِيبُ) النَّفْيُ عَنِ الْبَلَدِ, وَ (أَغْرَبَ) جَاءَ بِشَيْءٍ غَرِيبٍ, وَأَغْرَبَ أَيْضًا صَارَ غَرِيبًا, وَ (الْغَرْبُ) وَ (الْمَغْرِبُ) وَاحِدٌ وَ (غَرَبَ) بَعُدَ, يُقَالُ: (اغْرُبْ) عَنِّي أَيْ تَبَاعَدْ, وَ (غَرَبَتِ) الشَّمْسُ وَبَابُهُمَا دَخَلَ, وَ (الْغَرْبُ) بِوَزْنِ الضَّرْبِ الدَّلْوُ الْعَظِيمَةُ, وَ (غَرْبُ) كُلِّ شَيْءٍ أَيْضًا حَدُّهُ, وَ (الْغَارِبُ) مَا بَيْنَ السَّنَامِ إِلَى الْعُنُقِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ: أَيِ اذْهَبِي حَيْثُ شِئْتِ, وَأَصْلُهُ أَنَّ النَّاقَةَ إِذَا رَعَتْ وَعَلَيْهَا الْخِطَامُ أُلْقِي عَلَى غَارِبِهَا لِأَنَّهَا إِذَا رَأَتْهُ لَمْ يَهْنِئْهَا شَيْءٌ.

تعمدتُ إيراد التعريفين رغم طولهما لأنني سوف أتحدث عن (إشراقة) التجاني الباهرة وعن غروبه الشهابي السريع ، وعن الشروق الذهني بمعنى وضوح المسائل ، والغروب الذهني بمعنى إغتراب الذهن أو غربته.

بين أثنين أًسرُ ام أبـكى؟
قبَس اليقين وجذوة الشكِ
فى النفسِ حاجاتٌ وان خفيتْ
فلعلّها ضربٌ من النوكِ
حَبَكَ القضاءُ شراكَهُ ورمَى
للعقلِ منه بضيّق ضنكِ
والعقلُ ينْصبُ من حبائله
نصباً معاقدها من الشوكِ
أنا من فوادحِ ما تجر يدي
ابدا قنيصة ذلك الحبكِ
مازلت اقطعه ويعقدنى
والمرءُ بين قلاقل ربكِ

دارت فلسفة التجاني بين إطارين ، عبّر عنهما في البيت الأول من القصيدة ، قبس اليقين وجذوة الشك ، والقَبَس والجذوة كلاهما يعنيان النار ، وأنت إمّا تعاني من حرارة الجذوة ﴿أو جذوة من النار﴾ [القصص/29] وهي الجمرة الحارقة ،أو تستانس بقبس النار إذ تضئ ، كما في كلام القرآن على لسان موسى عليه السلام (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (طه 10) ، وفي حديث عليّ، رِضوان اللَّه عليه: (حتى أَوْرى قَبَساً لِقابِس أَي أَظهر نُوراً من الحق لطالبه) ، والتجاني هنا يستعمل الكلمتين بمعناييهما اللغوي والقرآني ، وذلك شأن التجاني ، يقول الشعر لا ليُشعِر إنما ليعبّر عن فلسفة عقلية يقينية راسخة في أعماق لا وعيه الضخم المكّون من القرآن ، وفلسفة التصوف ، ومعرفة اللغة ، وجليل المعاني ، وبديع الأفكار ، ووضوح الصور. وصيغة السؤال هنا عجيبة ، إذ يفيد أنه يبكي ويُسر من جذوة الشك ويبكي ويُسر من قبس اليقين ، ربما ذلك لأن الشك هو الذي يسوقه إلي اليقين ، فهو شاكر لشكه مسرور به ، متلذذُ بحرقته ، ويبكي ويُسر من قبس اليقين لأنه يرتاح في حالة اليقين ، كما يقول الحلاّج

عَجبْتُ منكَ ومني ## يا مُنية المُتمني
أدْنيتني منكَ حــتى ## ظننتُ أنك أني
وغبتُ في الوجدِ حتى ## أفنيتني بك عني
يا نعمتي في حياتي ## وراحتي بعد دفني
ما لي بغيرك أنسُ ## من حيث خوفي وأمني
يا من رياض معانيه ## قد حوت كل فني
و إن تمنيتُ شيئاً ## فأنت كل التمني

[ما لي بغيركَ أُنسٌ ## من حيث خوفي وأمني]، فهو عند الخوف يأنس بمن هو يخاف منه ، كما يأنس بنفس من يخاف منه في حالة الأمان.
يُتبع

محمد فقيري
[email protected]

تعليق واحد

  1. ” شاعرنا الفذ بين إبي تمّام والمُتنبي ، ولو عاش نصف ما عاشوه من عُمْرٍ لفاقهم أجمعين”
    توفي أبوتمام في الثانية و الثلاثين من عمره

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..