مقالات ثقافية

التجاني يوسف بشير ــ الحائرْ المُحَيرّ  (2 من 13) 

كل شئ عند التجاني خضع لمجهر عقله الجبار ، ونفسه الشاكة ، وروحه المتعطشة ، يتنقل بإستمرار من المحسوس إلي الغيب ، من الحركة إلي السكون ، من الذرة إلي الجبال ، من الوجود إلي العدم ، من الناسوت إلي اللاهوت ، شأنه في ذلك شأن كبار فلاسفة التصوف الذين تتلمذ على إرثهم وهضمه وكوّن كوناً خاصاً به ، فوصل إلي فتوحات أخذته إلي تأمل الذرة ، فإتخذ من الذرة رمزاً أحاط به السموات والأرض ، يقول في قصيدة الصوفي المُعذّب:-

هذهِ الذَّرَّةُ كَمْ تَحمِلُ في العالَمِ سِرَّا

قِفْ لَديْها وامْتَزِجْ في ذاتِها عُمْقاً وغَوْرا

وانْطَلِقْ في جَوِّها المَمْلوءِ إِيماناً وبِرَّا

وتَنَقَّلْ بينَ كُبْرَى في الذَّرارِيِّ وصُغرَى

تَرَ كُلَّ الكونَِ لا يَفْتُرُ تَسْبيحاً وذِكْرا

قف لديها ، قف لدى الذرة ، وامتزج في ذات الذرة ، فلذرة ذات قائمة بذاتها ، لها عمق وغور ، تسعك وتسع عقلك ، إنطلق في جو الذرة المملوء إيماناً وبرا ، ثم تنقل بين الذراري وسوف تجد كل هذا الكون الهائل مضغوط في تلك الذرة ، سوف تسمع الذكر والتسبيح ، فلذرة صوت وحديث لمن ألقى السمع. هنا يشرح التجاني منظومته التصوفية ، تلك المنظومة التي تتخذ من الكون كله مسرحاً لنشاط العقل ، ومصدراً للعلم والإيمان ، ومنبعاً لليقين ، وملجئاً للروح ، وكعبةً للطواف.

وأنت تتجول في عالم الذرة أنظر يمينك ، ماذا تري؟

وانْتَشِ الزَّهْرَةَ والزَّهْرةُ كمْ تَحْمِلُ عِطْرا

نُدِّيَتْ واسْتَوثَقَتْ في الأَرضِ أَعْراقاً وجِذْرا

وتَعَرَّتْ عَنْ طَريرٍ خَضِلٍ يَفْتأُ نَضْرا

سَلْ هَزارَ الحَقْلِ مَنْ أَنْبَتَهُ وَرْداً وزَهْرا

وسَلِ الوردَةَ مَنْ أَوْدَعَها طِيباً ونَشْرا

تَنْظُرِ الرُّوحَ وتَسمعْ بينَ أَعماقِكَ أَمْرا

هذه الزهرة التي تراها هي الأخرى لها كون خاص بها ، تنشقْها ، وأنتش بعطرها الفواح ، فالمشوار طويل ، ولا تخف عليها ، فهي مستوثقة في الأرض ، فقط تأمل ، ثم أسأل الحقل ، أسأل الوردة ، لن يجيباك بكلمة ، تخلصْ من حاسة السمع الخارجية ، ليس ضرورياً أن تسمع الأصوات ، تحسس أعماقك ، سوف تجد الإجابة هناك. سوف تسمع (بين أعماقك أمرا) ، وقبل أن تغادر إنظر فوقك ، أعد النظر كرتين ، ماذا ترى:-

الوجُودُ الحقُّ ما أَوْسَعَ في النَّفْسِ مَدَاهْ

والسُّكُونُ المَحْضُ ما أَوْثَقَ بالرُّوحِ عُراهْ

كُلُّ ما في الكونِ يمشي في حَناياهُ الإله

هل ترى الوجود ، هل ترى الفضاء وما فيه ، تحقق من نفسك ، سوف ترى كيف أن كل هذا المدى الواسع للوجود تسعه نفسك ، فنفسك أكبر من الوجود نفسه وإلاّ لما وسعته ، هل تأكدتَ من سعة نفسك ، أنصت إذاً إلي السكون المحض ، هل تسمع صوت السكون المحض ، لا تسمع ، ذلك أن السكون المحض لا صوت له ، ولكن عراه مستوثق بروحك الذي لا تسمعه ولا تراه ، كيف إستوثق ما لا نراه ولا نسمع بما لا نراه ولا نسمع؟ ، حدَثَ ذلك يا صاحبي لأن (كلُّ ما في الكونِ يمشي في حناياه الإله) ، الوجود مرتبط بأصله ، ولولا ذلك الرابط لأصبح الوجود عدماً ، الوجود سيتمد حياته من قيوم السموات والأرض . الآن عُد من الثريا إلي الثرى ، أنظر إلي شمالك ، حدّق جيداً ، ماذى ترى؟

هذهِ النَّمْلَةُ في رِقَّتِها رَجْعُ صَداهْ

هُوَ يحيا في حَواشيها وتحيا في ثَراهْ

وهْيَ إِنْ أَسْلَمَتِ الرُّوحَ تَلَقَّتْها يَداهْ

لَمْ تَمُتْ فيها حياةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ تَراهْ

لهذه النملة ، ياصاحبي ، مملكة معقدة ونظام معيشي وإجتماعي لا يرقى إليه الإنسان ، وهي في رقتها رجع صدى الخالق العظيم ، تستمد حياتها من وجود الخالق في حواشيها ، وهي تحيا في ثرى الخالق آمنةً مطمئنة ، لا تقتل النملة أختها ، كما يفعل الإنسان ، ولكن عندما تُسْلم الروح بأمر الله تتلقاها يداه ، ثم تبقى حياة الله فيها إن كنت تراه . توقّف الآن ، تواضع قليلاً ، كن نبيلاً ، وأنظر تحتك ، إنحني ، خذ حفنة من التراب بكفك ، بماذا يذكرك التراب:-

رَبِّ في الإشراقةِ الأُولَى على طِينةِ آدَمْ

أُمَمٌ تَزْخَرُ في الغَيْبِ وفي الطِّينةِ عالَمْ

ونُفوسٌ تَزْحَمُ الماءَ وأَرواحٌ تَحاوَمْ

سَبَّحَ الخَلْقُ وسَبَّحْتُ وآمنْتُ وآمَنْ

وتَسَلَّلَتُ مِنَ الغَيْبِ وآذَنْتُ وآذَنْ

ومشىَ الدَّهرُ دِراكاً رَبِذَ الخَطْوِ إِلى مَنْ . .؟

يتحدث هنا عن إشراقة الله الأُولى  على الخلق ، عن نفخة الروح على طينة آدم ، تلك الومضة الإلهية  التي أضاءت الطريق حينما تعلّم آدم الأسماء كلها ، فانفجر ينبوع العلم المتدفق بلا توقّف ، والذي سوف يرافق ذرية آدم ، في تلك اللحظة  كانت هناك أمم مخلوقة تزخر في الغيب ، تسللوا بعد ذلك من الغيب إلي الوجود والتحقق ، شعوباً وقبائل ليتعارفوا ، ثم كان السؤال الوجودي الضخم ، السؤال الوجوديي المحيّر ، عن مشية الخلق مشياً سريعاً (ربذ الخطو) إلى من؟ ، تساؤل فلسفى يحمل الجواب ، إلي المُبدِئ ، إلي الله ، فيخاطبه مباشرة:-

في تَجَلِّيَّاتِكَ الكُبْرَى وفي مَظْهَرِ ذَاتِكْ

والجَلالِ الزَّاخِرِ الفَيَّاضِ مِنْ بَعْضِ صِفَاتِكْ

والحَنانِ المُشْرِقِ الوَضَّاحِ مِنْ فَيْضِ حَياتِكْ

والكمالِ الأَعظَمِ الأَعْلَى وأَسمَى سُبُحاتِكْ

قدْ  تَعَبَّدْتُكَ زُلْفَى ذائِداً عنْ حُرُماتِكْ

فَنِيَتْ نفسي وأَفْرَغْتُ بها في صَلَواتِكْ

تأمل البيت الأخير بالذات ، يتحدث عن فناء نفسه أمام الله حينما يصلي ، وفناء النفس تجاه الله مبحث ضخم في مباحث الفلسفة الصوفية ، وبعيداً عن الجدل الواعي وغير الواعي في موضوع فناء النفس في المفهوم الصوفي ، وبعيداً عن تكفير كل من قال به ، فإن الفناء في الصلاة يعني أن تكون في منتهى الخشوع المطلوب ، وهو أن ترمي خلفك بكل مشاغل الدنيا وعرضها الزائل ، وأن تتخلص من كل ما يدنس صفاء الروح ، حينما ترفع يديك إستسلاماً وتقول الله أكبر فتدخل الصلاة ، والدخول إلي الصلاة لا يعني أن تؤدي الحركات المصاحبة ، إنما أن تنسى كل شئ ، تنسى حتى تكوينك المادي ، وتتخلص من كل ما يلحق بك من ماديات ، وتغسل روحك من كل درن ، أن تتحول إلي روح صافية متحدة بروح الخالق بتلك الجزئية من روحه التي نفخها فيك ، الفناء في فلسفة التصوف هو ذهاب الحس والوعي وانعدام الشعور بالنفس وبالعالم الخارجيّ، وانمحاء العبد في جلال الربِّ (قال ابن عطاء: من لم يفن عن شاهد نفسه بشاهد الحق، ولم يفن عن الحق بالحق، ولم يغب في حضوره عن حضوره، لم يقع بشاهد الحق.)

لاحظوا أن التجاني في الأبيات السابقة قال (في صلواتك) ولم يقل (في صلواتي) ، ليس من أجل الضرورة الشعرية والقافية ، إنما لأن الصلاة لله ، منه وإليه ، وبالله يستعين المرء في أداء الصلاة كما في سائر العبادات.  يقول (وفي مظهر ذاتك) ، هل لذات الله مظهر؟ ، ألْحق التجاني هنا مظهر الذات بالتجليات الكبرى ، فأعطى الإجابة قبل السؤال التلقائي ، ثم تحدث عن الصفات ، وفي بيتين أضاف إلي ذات الله صفة الجلال وصفة الحياة وصفة الكمال ، والفناء في الصلوات إنما هو تمرين للنفس للإستعداد للفناء الأكبر ، الفناء الكلي الدائم .

يُــتبع

محمد فقيري
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..