مقالات سياسية

الخمور بين التربية والقانون (1)

النور حمد

عاش السودان منذ انهيار الدولة المهدوية في عام 1898 وإلى سبتمبر 1983 حالة من الاستقرار النسبي. ولم يكن هناك أي جدل حول مسألة تعاطي المشروبات الكحولية. لم تحظ هذه القضية بأي اهتمام، لا من المؤسسة الدينية الرسمية، التي كانت تقف على الدوام إلى جانب مختلف السلطات، ولا من الطرق الصوفية، ولا من عامة المواطنين. باختصار، لم تكن قضية تعاطي المشروبات الكحولية تحتل أي أولوية فيما تجري مناقشته من قضايا في المجال العام. فالبيئات السودانية، المختلفة، منذ الممالك الكوشية القديمة، وإلى يوم الناس هذا، عرفت صناعة الخمر في البيوت، بصورةٍ من الصور. بل ظل تناول المشروبات الكحولية ممارسًا بلا انقطاع، عبر التاريخ الإسلامي، بل وفي بلاط الخلفاء أنفسهم. (راجع كتب شوقي ضيف عن العصر الأموي والعصر العباسي). كما أوردت كتب الأحاديث، بأدلةٍ متواترةٍ، وبوضوح لا لبس فيه، أن النبيذ كان يُشرب حتى في صدر الإسلام. فموضوع شرب الخمر في الإسلام موضوعٌ جدليٌّ مختلفٌ عليه.

تطبيق الشريعة ومنع الخمور قضية جرها إلى دائرة الجدل السياسي، في السودان، تنظيم الإخوان المسلمين. فهي تمثل في نظرهم وسيلةً سهلة الامتطاء، سريعة الإفضاء إلى كرسي السلطة. لكن، بعد أن وصلوا إلى السلطة، وجلسوا في كراسيها ثلاثين عامًا، لم يطبقوا، ولا حكمًا شرعيًا واحدا. لم نر أيادٍ تُقطع، رغم السرقات التي تحدث كل يوم، ولا زانٍ أو زانيةً رُجما، ولا قاطع طريق جرى قطعه من خلافٍ، وصلبه. حين كان نميري حاكمًا، وقفوا وراءه بشدة في تطبيق العقوبات الحدية على الفقراء، ليحتمل هو وزرها، من سبتمبر 1983، وحتى سقوط نظامه في أبريل 1985. كان الهم هو الوصول إلى كرسي السلطة، وما أن وصلوه تركوا الشحن الديني الذي شحنوا به البسطاء، حول تطبيق الشريعة، يتبخر في الهواء. وهاهم الآن، بعد أن أُبعدوا عن السلطة، يعودون، كرَّةً أخرى، إلى عادتهم القديمة في إثارة البلبلة.

لا يختلف جَرُّ موضوع الخمر إلى دائرة الجدل السياسي، عن الحملة المفتعلة الخسيسة، التي أدت إلى حل الحزب الشيوعي عام 1965، وطرد نوابه المنتخبين من البرلمان، ومحاكمة الأستاذ محمود بالردة عام 1968. أسلوب الحملتين واحد، وهو إثارة العاطفة الدينية لدى البسطاء، حتى يعموا عن رؤية واقعهم المجتمعي الحقيقي الذي يعيشونه. وهو واقعٌ ظل قائمًا دون أي تغيير، لآلاف السنين، ولم تستطع ولا الدولة المهدية، بكل نزعتها الطهرانية المفرطة، وحشرها أنفها في خصوصيات الناس، أن تغيره. على سبيل المثال، كان القائد المهدوي، النور عنقرة، يشرب خمره في بيته، الذي لا يبعد ميلاً من بيت الخليفة عبد الله. (راجع: مذكرات يوسف ميخائيل).

يقول الواقع التاريخي للشعوب السودانية، أن الناس ظلوا يصنعون، في كل أقاليم السودان، “الشربوت” و”الدكاي” و”المريسة” و” العسلية” وغيرها من المسميات، في المنازل، خاصةً في المناسبات. كما لم تخلُ، عبر التاريخ، قريةٌ أو مجموعة قرى متجاورة من أماكن لصنع وبيع الخمور البلدية. هذا واقع بالغ القدم، ولن تغيره القوانين المتعسفة، وجهالات المتشددين الدينيين، الذين لا يعرفون حرف الإسلام ولا روحه. هذا الواقع، يغيره الوعي، والتعليم، والتربية الدينية الصحيحة الحكيمة الموزونة، التي تتجه إلى ترفيع الشعور بالمسؤولية الفردية، وبالالتزام الداخلي بصحيح القيم. محاولة منع شرب الخمور بالقوانين لا تختلف في فشلها من محاولة خفض سعر الدولار بالقبضة الأمنية. فالضائع في هذا اللغو الباطل هو الحكمة. (يتواصل).

النور حمد
صحيفة التيار 16 يوليو 2020

‫6 تعليقات

  1. عملت قبل عدة سنوات معلماً في إحدي مناطق السودان، كان الناس يشربون المريسة كل يوم، نساءاً و رجالاً، كانت المدرسة مختلطة بنات و أولاد يأتون في الصباح و رائحة المريسة تفوح من الجميع، في حصة الفطور يذهبون لشرب المريسة و يعودون لإكمال الحصص، الذين تبعد ييوتهم عن المدرسة و لا يستطيعون الذهاب للفطور يحضرون معهم مريستهم للمدرسة و يشربونها أمام المدرسين. مجتمع مثل هذا لا يمكن أن تمنع فيه شرب المريسة، في موسم حصاد الذرة يهنئون بعضهم، ويقولون للذين يكون إنتاجهم وفيراً يوم حصاد محصولهم (تشربوه بالعافية، أنتو و عيالكم). الذين يتباكون على القوانين التي صدرت مؤخراً عبارة عن مجموعات من المنافقين الذين يجب أن تضرب الدولة مؤخراتهم بالشلوت، الطيب مصطفي بتاع الدلوكة، إسحاق أحمد فضل الله، الذي مسخه الله كدروكاً، الداعشي الجزولي، اللص الهارب عبد الحي يوسف و غيرهم. أما أخواننا المسيحيين فليس لنا حق أن نمنعهم من شرب الخمر لأنه طقس أصيل لديهم مارسه السيد المسيح عليه السلام في العشاء الأخير المشهور، و بالمناسبة المسيحيون يشربون و لا يسكرون، يتناولون القليل جداً و لا يثيرون الشغب ولا يترنحون في الشوارع و لا يعتدون على الناس فما الضرر أن يشربوا ما يريدون؟؟

  2. مقالك فيه تلبيس على الناس ، السودان منذ المهدية والى اليوم كان يربى الناس على ان الخمر من المنكرات ومن الكبائر فجاءت الحقبة الإستعمارية وأمتدادها بوكلاء المستعمر فى السودان حتى عام 1983 فرضت ثقافتها وسيدت مدنيتها وايدلوجيتها على المجتمع واباحت للناس كل هذه الموبقات ولم تخوض فيه لانها شئ ليس زى بال ولا يمثل للمستعمر ووكلاءه هم يشغلهم ولكن فى المقابل كان رجال الطرق الصوفية ورجال الدين وحكماء السودان يربون الاجيال عبر العقود الماضية على أن الخمر حرام وذنبها عظيم ونافحوا فكرة ان الذى لا يشرب الخمر ليس برجل ، والمهدية التى تتحدث عنها هذه حرمت الصعوط والتمباك حرمة الخمر وكانت تعاقب عليه.
    لو قسنا على حديثك هذا فإن الرق كان يمارس فى السودان حتى الأربعينات من القرن الماضى فجاء الانجليزى والزموا ما يسمون بسادة السودان وزعماء القبائل بتحريرهم ومنع ذلك وقد قال الهندى الكبير مقولته بما معناها للإنجليز ( لو خليناهم بفسدوا وبصنعوا الخمور وبمارسوا الدعارة وبخربوا علينا الجنيات ) ولكن بحمد الله الانجليز انهوا تلك الحقبة المظلمة ، وكانت لا تناقش طيلة الفترة الماضية وليس من اولويات الدولة السودانية فهل نقول يجب علينا ان لا ننافح ونكافح العنصرية مستدلين على ان ذلك شئ عادى وطبيعى ومتوارث وشائع فى المجتمع السودانى ، شيوع الخطأ لا يعنى صحته على أى حال.
    ومن ناحية اخرى ان تعلم ان الذين اوزعوا لنميرى لتطبيق الشريعة ليس هم بنى كوز لان نميرى قربهم بعد تطبيق الشريعة الاسلامية إعتقادا انهم اقرب الناس لفكرتها والمناديين بها هم وكل الاحزاب اليمنية المعروفة ، و أما إعدام محمود محمد طه فقد سمعت بأدنى من الترابى عندما سئل عن رأيه فى محمود محمد طه قال لا أهتم له كثيرا ولا التفت لما يقول ويكتب وانه لا علاقه له واتباعه باعدامه ،يجب وانت بروفيسور ان تنقل الصورة المجردة شهادة للتاريخ وترسيخ للمعرفة لان ان تجلعنا نخوض فى اوهام باطلة واسانيد لا تبرر إلغاء احكام شريعة ، نعم الكل ناغم وكاره للكيزان ولكن يجب أن لا يعمينا كرهنا عن رؤية الحقائق وان لا نغبش الوعى للناس مستغلين حالة الكره هذه لهم ، هم فعلوا اشياء الشيطان لا يفعلها ولكن علينا ان نكون واضحين وعادلين وصادقين جدا عندما نتناول التاريخ والمجتمع السودانى والعدالة لنا ولغيرنا من الكيزان.

    1. أنا شاهد علي أن الترابي كان في مقدمة حضور إعدام محمود محمد طه في سجن كوبر في يناير ١٩٨٥.

      غير صحيح أن لا علاقة للترابي بإعدام محمود محمد طه.

  3. كلام ممتاز جدا و من شخص عارف و مستنير بالله واصل فى هذا الموضوع و أنشره فى كل المواقع السودانية عشان الناس ترتاح و ما تلتفت لهذه الامور السطحية…… وفقك الله

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..