مقالات وآراء

مشكلتنا المقبلة.. الديمقراطية الأوليغارشية

د. محمد عبدالقادر سبيل

رغم أن الأنظمة العسكرية التوتاليتارية التي استهلكت معظم عمر الدولة الوطنية في بلادنا قد وفرت فرصاً لمشاركة المهمشين سياسياً واجتماعياً واقتصاديا – وهؤلاء يمثلون فوق ال 90% من شرائح المجتمع السوداني – أكثر مما وفرته وما تستطيع ان توفره الحكومات الناجمة عما يسمى بالنظام الديمقراطي إلا أننا لا نجنح الى جعلها خياراً مفضلاً.
العسكر لهم مهمة عظيمة غير ادارة الدولة. وهم حينما يحكمون انما يخوضون فيما لا يحسنونه، ويفرضون انفسهم بالقوة استناداً الى ذرائع ابرزها دائما(الفوضى).

وفي الحقيقة فإن احزابنا بالفعل توفر تلك الفوضى في طبق من ذهب من وقت لآخر.
نحن هنا لنفتح باب حوار اكثر جدية حول جدوى نظام حكم بائس، نحن متجهون اليه مسلوبي الارادة، كمن يدفعه القدر نحو حتفه.

ألسنا متجهين بحماس الآن نحو اجترار التجارب الفاشلة إياها وبالعقلية ذاتها وبالمؤسسات الحزبية ذاتها ورغم ذلك فثمة من يعتد بالقول المخاتل ( لا يمكن اصلاح الديمقراطية الا بالمزيد من الديمقراطية) وهو قول يشبه الى حد كبير اقتراح ابن هانئ ( دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ .. و داوني بالتي كانت هي الداءَ).

حسناُ.. سنؤسس كلامنا بصورة منهجية ولنبدأ باستعراض الاطار النظري..
ماهي الديمقراطية اصطلاحاً؟
هي ان تكون السلطة العليا بيد الشعب. حيث ترفض جعل السلطة مركزة بيد شخص أو بيد قلة من الشعب.
ففي العصر الحالي أصبح النظام الديمقراطي هو النظام المُفضَّل للحكم في جميع المجتمعات؛ ويرجع ذلك إلى سبب اساسي وهو انه يوفر لأفراد المجتمع امكانية التعبير عن خياراتهم تجاه كلٍ من إدارة الحُكم العام في البلاد، وتوزيع الموارد، والمشاركة بشأن العمليّة الإداريّة.

هذا هو مضمون الديمقراطية.. ولكنه لا يحدث إلا في المجتمعات الغربية المتقدمة.
أما في بلادنا فالنظام الديمقراطى هو اداة شكلية أو وسيلة قانونية لاستحواذ نخبة من ابناء الطوائف الدينية غالبا ( ابناء الانصار وأبناء خلفاء الختمية وكوادر الحركة الاسلامية بعد ان تحولت الى طائفية مستنيرة) استحوذت على كل هذه الفرص أو معظمها وقامت بتجييرها لنفسها ولاتباعها المقربين.

اقول ذلك لأن تلك النخبة وبالتجربة والبرهان ما فتئت تستحوذ على فرص الشراكة السياسية وتفرض الهيمنة المطلقة على ادارة وتوزيع الثروة من خلال احزاب تحولت عبر ميكانزمات التخلف الى ادوات لتحقيق المصالح الضيقة باسم الديمقراطية المفترى عليها.. رغم ان احزابها الثلاثة مجتمعة ومن واقع سجلات الاحزاب الرسمية لا تعادل 7 مليون عضو في وطن يتجاوز سكانه الاربعين مليونا.. لا بل ان الذين يسيطرون فعلاً على فرص توزيع الثروة والسلطة لا يتجاوزون المليون قيادي في هذه الاحزاب مجتمعة وأما البقية فاتباع يهللون ويكبرون بل ويموتون فداء للزعماء بينما لا ينالون من الفرص الا الفتات.. ولكن الفتات يجعلهم في وضع افضل من غالبية الشعب.

ومع ذلك يؤكد الدهاقنة المستفيدون أنه لا علاج لظاهرة الديمقراطية المريضة في السودان الا بالمزيد من الديمقراطية !! ، بما يعنى المزيد من التمكين لهذه النخب حتى تستمر الى الابد في العبث لعلها تتعلم يوماً على رؤوس اليتامى كيف ستحقق العدل وكيف تتيح فرصا اوسع لشراكة الموهوبين والخلاقين من ابناء الشرائح التي لا تنتمي الى تلكم الاحزاب.
هل الحل في العلمانية؟ لا.

العلمانية مسألة شكلية لا تمنع ابدا الانتهازية والظلم وارادة التهميش والهيمنة.. فهي فقط تهمش الدين فتستفز مشاعر الشعب المسلم لتعزز مكانة الزعماء الطائفيين من جديد.
هل المشكلة في الدين؟ كلا.

الدين لا يدعو الى الظلم ولا الى الاستغلال ولا الاستكبار في الارض.
المشكلة فينا نحن. في التخلف. فهو المسؤول عن خلق هذا الوضع المائل واستمراره على مر الدهور والاجيال رغم اضراره التي لم ينكرها احد.

اذاً فمن يريد تكرار مأساة الديمقراطية الليبرالية من جديد لا يريد الخير لشعبنا. لأنه يستبدل هيمنة الدكتاتورية الاتوقراطية العسكرية بالديكتاتورية الاوليغارشية ( هيمنة الاقلية المتحالفة مع التجار).
الاحزاب الكبرى في السودان الآن هي مؤسسات اوليغارشية انتهازية تستحوذ على الفرص جميعاً باسم التفويض الديمقراطي والسند الشعبي.

هل يوجد شعب في الدنيا يفوض من يضيع حقوقه ويضيع وقته في الصراعات الا اذا كانت هنالك مشكلة في آلية التفويض او في محتوى التفويض وشروطه؟.

هنا مربط الفرس … (الديمقراطية التضامنية هي الحل) ..حيث ينبغي ان ننشئ عبر دستور دائم صيغة جديدة للحكم التضامني يحقق الاستقرار ويضمن الشفافية والحكم الرشيد من خلال مايلي..

أولاً تحقيق شراكة أوسع في ادارة الحكم من جانب كل الاحزاب والكيانات السياسية التي لها وزن ( التي تحصد اكثر من مائة ألف صوت) في الانتخابات العامة.

ثانيا تعيد هذه الصيغة النظر في محتوى وشروط تفويض الشعب لممثليه بما لا يسمح بالعبث بالسلطة او بالثروة لصالح اقلية ( الشفافية والمحاسبية).

ثالثا تمنع العبث بصياغة القوانين واللوائح التنظيمية وتطبيقها حسب المقاس والهوى.

رابعا تشرك فئات المجتمع المدني المتنوعة في السلطة عبر منافسة نزيهة مستقلة لتمثيلها بنسبة مقدرة في البرلمان.
على ان تكون حصة الشراكة في السلطة الزامية وبحسب نسبة عدد الاصوات المتحققة في الانتخابات الحرة النزيهة حتى نضمن ان كل الشعب قد شارك في عملية التفويض والتمثيل.
(الديمقراطية التضامنية) هي الحل.

د. محمد عبدالقادر سبيل
الامارات
[email protected]

تعليق واحد

  1. كاتب المقال بدأ بداية تشخيصية وتوصيفية وتعريفية جيدة للديمقراطية خلصت إلى أن الديمقراطية الحقيقية لم تطبق في السودان وأن الديمقراطية السودانية هي مجرد أداة شكلية أو وسيلة قانونية لاستحواذ نخبة من ابناء الطوائف الدينية غالباً استحوذت على كل الفرص أو معظمها وقامت بتجييرها لنفسها ولاتباعها المقربين. ودحض مقولة دهاقنة الأحزاب المستفيدين المستهبلين بأنه لا علاج لظاهرة الديمقراطية المريضة في السودان الا بالمزيد من الديمقراطية. وبين، بحق، أن الأحزاب الكبرى السودانية (الطائفية والعقائدية) هي مؤسسات اوليغارشية انتهازية تستحوذ على الفرص جميعاً باسم التفويض الديمقراطي والسند الشعبي.
    وبين أن الإشكالية ليست في العلمانية ولا في الدين وانما في آلية التفويض والتمثيل، وهو مصيب إلى هنا.
    أما علاجه لهذه المعضلة بعد وقوفه عليها فقد جانب الصواب، حيث اقترح لذلك تطبيق ما أسماه الديمقراطية التضامنية. وذلك بتحقيق شراكة أوسع في ادارة الحكم من جانب كل الاحزاب والكيانات السياسية التي لها وزن ( التي تحصد اكثر من مائة ألف صوت) في الانتخابات العامة. ولعله قصد التمثيل النسبي بعدد المقاعد التي يحرزها كل حزب في انتخابات حرة نزيهة! ولقد سبق لنا انتقاد نظام التمثيل النسبي هذا وقلنا إنه لا يمنع هيمنة الأغلبية الميكانيكية المطلقة أو الائتلافية وهضمها لرأي الأقلية الحزبية في البرلمان، ذلك لأن العبرة ليست بمجرد المشاركة في البرلمان وإنما التأثير بالراي الصحيح والمفيد. ونضيف بالنسبة لاقتراح هذا الكاتب بأنه تغاضى عن علاج العيوب البنيوية في هذه الأحزاب الطائفية والعقائدية ولكنه فقط قام بادخال مشاركين إضافيين معها في البرلمان كالنقابات والأحزاب الصغيرة، فوجود هذه مع الأحزاب الكبرى لا يغير من سلوك ولا من طبيعة الأخيرة.
    في نهاية المطاف فإن الأحزاب السياسية السودانية لا تصلح لتطبيق الديمقراطية الحقيقية المطبقة في الغرب ولا ينتج عن فوزها إلا حكم أوليغارشي كما أقر الكاتب نفسه بهذه النتيجة الحتمية وعليه كان الاوفق له أن يستمد الحل من تشخيصه لمكمن الداء وهو آلية التفويض الشعبي والتمثيل النيابي بأن يكون تمثيلاً وتفويضا مباشرأ يتجاوز الأحزاب كوسيط بين الشعب ونوابه وممثليه في البرلمان.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..