مقالات ثقافية

التجاني يوسف بشير ــ الحائرْ المُحَيِّر (3-13)

محمد فقيري

أَنا وَحْدي كُنْتُ أَسْتَجْلي مِنَ العالَمِ هَمْسَهْ
وأَسْتَبْطِنُ حِسَّهْ أَسْمَعُ الخَطرَةَ في الذَّرِّ
واضْطِرابَ النُّورِ في خَفْقَتِهِ أَسمعُ جَرْسَهْ
وأَرى عِيدَ فَتىَ الوَرْدِ وأَسْتَقْبِلُ عُرْسَهْ
وانْفِعالَ الكَرْمِ في فَقْعَتِهِ أَشْهَدُ غَرْسَهْ
رَبِّ سُبْحانَكَ إِنَّ الكونَ لا يَقْدِرُ نَفْسَهْ
صُغْتَ مِنْ نارِكَ جِنِّيهِ ومِنْ نُورِكَ إِنْسَهْ

هذا ما قلناه من أن التجاني شرّق في حركة الكون وغرّب في سكونه ، رحلة الشاعر في حياة الوحدة والإنعزال ، في لحظات التأمل ، حين يسيطر الصمت والهدوء ، حين يرتحل الشاعر بروحه إلي عوالم الغيب ، وحده ، باحثاً عن ما خفي من أسرار الوجود ، فيسمع همس العالم وخطرة الذر ، وخفقة النور ، وفقعة الكرم ، فيتساءل هل يقدر الكون خلق نفسه؟ ، ربي سبحانك ، لا ، فقد خلقتَ الخلق من نار ونور.

ثُمَّ ماذا جَدَّ مِنْ بَعْدِ خُلُوصِي وصَفائيِ
أظلمتْ رُوحِيَ ما عُدْتُ أَرَى ما أَنا راءِ
أَيَّهذا العِثْيَرُ الغائِمُ في صَحْوِ سمائيِ
للمناياَ السُّودِ آماليِ وللموتِ رَجائيِ
آهِ يا موتَ جُنوني آهِ يا يومَ قضائي
قِفْ تَزَوَّدْ أَيُّها الجَبَّارُ مِنْ زادي ومائيِ
واقْتَرِبْ إِنَّ فُؤادِي مُثْقَلٌ بالبُرَحَاء

أغلب شعر التجاني لا يخلو من أصداء الحزن ، إحساسه بظلمة الروح لا تبارح فكره ، وهو دائماً في حالة قلق وعدم إستقرار ، صفاء ثُم ظلمة ، نور ثُم عتمة ، والسؤال لا يتوقّف ، حتى أنه يشك فيما يرى ، يخاطب (العثير) أو الغبار العالق في صحو سمائه ، لا تبدو له السماء صافية ـ لأنها ملبدة بغيوم الحزن فلا توْضَح الرؤيا ، فيقول للعثير ، لا بأس ، فالمصير واضح ، هو الموت ، إقترب أيها الموت وخذني فإن قلبي مُثقل بالشدائد.

يا نعيماً مُشرِق الصفحَةِ يَسَّاقَطُ دُوني
نَضِرَتْ في قُرْبِهِ نَفْسي وزَايَلْتُ غُضونيُ
فَمَشَتْ قائِلَةُ (الشَّكِّ) إِلى فجرِ يقيني
قَضَتِ اللَّذْةُ فاسْتَرْجَعَها لَمْحُ ظُنونيُ
واسْتَردَّ النِّعْمَةَ الكُبْرَى مِنَ الدَّهرِ حَنيني
مَنْ تَرَى اسْتأثَرَ باللَّذْةِ واسْتَبْقى جُنوني؟

بعد ظلمة الروح ، ورجاء الموت ، وتعب الفؤاد ، ها هي لحظات فرح وتفاؤل ، تتساقط عليه النِّعم ، نِعمُ اليقين والإطمئنان ، فتنضُرْ قلبه ، ويزول التعب الذي يحسه في غضون نفسه أي في تلابيبها، وتتحول قائلة الشك المحرقة إلي فجر اليقين الرطب ، وبعد أن إنقضت اللذة وفارقته استرجها بالظن الحسن.

أُذُنيِ لا يَنْفُذُ اليومَ بها غَيرُ العَويلْ
نظري يَقْصُرُ عنْ كُلّ دَقِيقٍ وجَلِيلْ
غابَ عنْ نَفْسيَ إشراقُكَ والفجرُ الجميلْ
واسْتَحالَ الماءُ فاسْتَحْجَرَ في كُلِّ مَسِيلْ
رَجَعَ اللَّحْنُ إِلى أَوْتارِهِ بَعْدَ قَلِيلْ
واخْتَفَى بينَ ظلامِ المِزْهَرِ الكَلِّ العَلِيلْ

ولكنه لا ينعم بذلك الصفاء النفسي الذي عاشه للحظات ، فيعود إلى حالة الكدر ، حنى أنه لا يسمع غير العويل ، ولا يفرق بين الدقيق والجليل ، إذ تتداخل عليه الأمور وتشتبك ، غابت تلك الإشراقة التي أضاءت نفسه حينما مشت قائلة الشك وتحولت إلي فجر يقين ، ثم يقول {رجع اللحن إلي أوتاره بعد قليل} أسمعوا هذا الجنون ، لم يصادفني مثل هذا التعبير قط ، فهو يقول أن اللحن الذي خرج من الوتَرْ عاد إلي الونر مرة أخرى ، ياالله ، لا تعليق.

كانت تلك قصيدة (الصوفي المعذب) للفيلسوف التجاني ، أحّبُ قصائده إلي نفسي ، تكشف القصيدة معاناة الشاعر النفسية في بحثه عن معنى الحياة ، تلك المعاناة التي رافقته في صحوه ومنامه ، فقد حمل على ذاته فلسفة هذا الكون وحقيقته ، يتأرجح بين شك قاتل ويقين محيي ، {اشك يؤلمني شكي وابحث عن ـــــــــــــ برد اليقين فيفني فيه مجهودي} ، يشك حتى يذبل عوده ، فيلوذ بمن لاذ الأنام به ، فيشرق عليه فجر اليقين { فمشت قائلة الشك إلي فجر يقيني} ، لم يرضى لعقله الكسل ، ولا لذهنه الخمول ، فسعى جاهداً إلي تجاوز الواقع والمُدرك بالحس وصولاً إلي ما وراء ظاهر الأشياء ، يَسْبح في فضاء الكون ، كأنه مشدود إلي هدف غامض بعيد كما يقول (إلى غاية في ضمير العدم) ، حتى كادت نفسه أن تفلت منه { رقصَتْ في الفضاء نفسي حتى … أوشكَتْ من يدي أن تتبدد} ، كان يؤمن بأن العالم محتاج دائماً إلي الكشف ، وهنا ، عند هذا الحد ، دائماً ما يصل المتصوفة إلي التماس مع خط الشِعر ، ولذلك نرى أن جميع فلاسفة التصوف عبروا عن افكارهم بالشِعر ، فكلهم شعراء ، لأن للشِعر مقدرة على تعبير مستلطف، فتبقى الفكرة في ذهن المتلقي طازجاً مستديماً. وُفّق التجاني في تعاطيه مع الشِعر فأجاد فيه وابدع ، ونص الشِعر الصوفي له حضور فريد يجعل المتلقي متشوقاً إلي كشف الإشارات غير المالوفة ، وللمفردات عند المتصوفة ، في كثير من الأحيان ، معانٍ مغايرة عن المتعارف عليه عند الناس ، وهذا ما يجعل النص الشِعري الصوفي مميزاً.

تَبارَك الَّذي خَلَق … مِن مُضغة وَمِن عَلَق
سُبحانَهُ مُصَوِراً … مِن حَمأة الطِين حَدق
شَقَ الجُفون السود … وَاِستَلَ مِن اللَيل الفَلَق
وَاِستَخرَج الإِنسان …مِن مَحض رياء وَملق
مُفتَرِعاً مِن فَمه … سر البَيانِ فَنَطَق
وَجاعِلاً بَينَ حَناياه … فُؤاداً فَخَفَق

ما أسهل أن تحفظ هذه الأبيات ، ليس لحلاوتها الشِعرية فقط ، بل لتلك المعاني الكبيرة جداً التي إستطاع التجاني أن يصورها بهذه الكلمات البسيطة العذبة ، هذا الإنتشاء الذي يسيطر على المرء وهو يقرأ هذه الأبيات لهو إنتشاء سُكر بالبيان ، والتجاني في هذه الأبيات اشار لعدة معاني موجودة في عدة سور من القرآن.
يُــتبع

محمد فقيري
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..