مقالات ثقافية

يومٌ طويلُ التِّيلة (3/2)

محمد عبدالملك

الرِّيلة؛ تكبرنا بخمسة عشر عاماً على الأرجح ، من أجمل بنات الضَّهرة طُراً وأهيبهنُّ بالإجمال؛ أجملُ ما فيها عيناها وقامتها الطويلة المعتدلة كبانةٍ مأهولةٍ بالنحل لا يقربها أحدٌ إلا وأطلقته يلسع . قالوا أنَّ صفقة تِيْوتَها ، أوانَ صباها، ترمح الخيلُ فلا تصل مرماها ؛ وفي الأثناء تصلُ ، هي ، مرمىَ الخصمِ تتثنىَّ . ثم أضحت في مراهقتها ذات حذقٍ وبأسٍ شديدٍ حتىَ أنَّها لتقدر، و براحة يدها المُجرَّدة ، أنْ تُنضِّدَ السفروقَ و تُبربحَهُ – كأنها النحَّات – تُخلِّصه من أجَمَةِ أحرشها لعوتةً وأغزرها طُنضُبة وهي ، بعد ذلك ، أفضلُ رامٍ صائدٍ به . تعلَّمتْ ، حين الضَّحوَةُ أو الضُّهريةُ تبدأ ، أن تقف عند البُرقال ؛أول بيِّتٍ في النمرة وقُرب التقنت ؛ ترمي عنها ، بضجرٍ، طرحتها ثمَّ تردِّدُ ما تعلَّمته من جدِّي دفع الله :
(العين خوَّافة والضُّراع أعمىَ ) عندها تصيرُ ضرباتُ السلُّوكة إيقاعُ دلُّوكة ودليب وجرَّاري ، وقفزات الملود المتقنات ، بين السرابات ، زغاريدُ وأغاريدُ قماري ، قالوا أنَّها – والحالة ُ هكذا – يمكنُ أنْ تفلحَ نمرةً كاملةً : من البرقال إلي البرقال ، وحتى ظَهر التقنت كانت تذرعه باللوبيا الحنيطير حيناً وبالعدسي حيناً أخر وتنتجُ ، من الكواجريب ، حُلوَ وطاعمَ العُنكوليب .

كانت كأنَّ جيشاً من السُخرة غيرُ مرئيٍّ يرافقها . وكان جدَّي دفع الله – أوان اللقيط وجوَّالات الكِبس يضيقُ عنها المكان- يباهي بها كل تفاتيش أقسام المشروع حتى أنَّه أنشأ أرجوزةً سرت فحفظها حتى مفتشو الغيط : (قطن الريلة تيلة طويلة . حلاة الريلة مافي متيلا. تلبس بُكرة الشَّف والتيلة ) وكما أمها الرسالة التي تقعدُ مفلوجةً لا تنطق ولا تتحرَّك كأنها دولابُ سحَّارةٍ أو غوغاية أو بعضٌ من أثاث البيب الشحيح ؛ كانت الريلة منذورة منذ صغرها لتوطيد قيم الجود والكرم في مملكة أبيها حتى أنَّ ملوة العجين من طحين القصَّابي ما كانت لتحتاج منها ، في حركة قرقريبتها الرشيقة ، لأكثر من خمس دقائق وما كانت لتذهبُ صباحاً إلي المدرسة – على قصر الفترة التي قضتها بها – إلا بعد أن تعوس جردلاً من عجين القصَّابي وآخراً من عجين الفيتريتة وثالثاً من كسرة القمح الرهيفة ، وما تكادُ الحصة الأولى تبتدئ حتى يعلو غطيطها يتبعه شخيرها المسبب بتضخُّم لوزةٍ ثالثةٍ خلقيةٍ ، فتنامُ من رهق سهر الليالي وجهد العواسة ومشقة المشي للمدرسة تقطعُ ، في الطريق إليها ، فيافٍ ؛ يرفعها مصرفٌ وتخفضها وهادُ المَيَع السبخة التي تمرحُ فيها طيور الجِروِل شتاءً ثمَّ تهيجُ بالتَّبِش والعجور خريفاً ، يضيقُ تنفُّسها وهي تصعدُ حافة ترعة الميجر الكبير ثمَّ عبر القنطرة حتى تصل المدرسة وقد تفصَّد جسدُها بالعرق ، هنالك يستحيلُ كنب السنط الخشن إلى طنافسَ وثيرةٍ من ريش النعام فوقها تُسلمُ الريلة نفسها ، جسداً وروح ، لسلطان النوم وتدخلُ في ردهات الأحلام وقد راجَ في الفصل عبيقُ رائحتها المميَّز : رائحة الطايوق وزيت مسحة الصاج ودخان الحطب المحروق ، وما كان أحدٌ قادراً على إيقاظها؛ إذ لا بُد أنَّ ضيوف الهجعة قد جاءوا خِماصاً أثلاث الليل ولا بد ، أيضاً ، أنَّ النيران قد أوقدت وأنَّ الصينيتين والثلاث قد أُعدَّت ومُدَّت ، هذا غير وجبات أول الليل وأطراف النهار التي تخرجُ يومياً لبيت المدرسَّات على طبقٍ ولبيت المدرِّسين على طبق ولمفتشي الغيط متى جاءوا في مرورٍ، أيضاً ، على طبق. عند اكتمال أنوثتها – يقول سعيدٌ أخي – غنَّى لها الأولادُ في الحلِّة ،على سبيل المعاكسة والغزل ، أغنيةً كانت رائجة :( ريلة يا ريلة .. الله لي من ديل سكنوا الجزيرة . الله لي من ديل )، غنُّوا وحمحموا في المرة الأولى ؛ فتهادتْ ثمَّ غنوا وصفَّقوا في الثانية ؛ فتغاضت ولنحلها دَويْ، وفي الثالثة – قال سعيدٌ أخي – فكَّت جيوش نحلها ففتكتْ بسليمان صاحب الدكان ولاذ الباقون بالفرارِ فما همَّ أحدٌ ، بعدها ، بهزِّ شجرتها إلا وتذكَّر نحلَها اللسَّاع.

في لحظةٍ خاطفةٍ كانت الرِّيلة قد تهيأتْ في هيئة القابلة . تذكرتُ حينها لحظة عُشار الرَّايقة من حمار عبد الفضيل ؛ الحمار الكورتاوي الأصيل الذي ما انعقد مجلسٌ إلا وتباهى ، فيه ، به صاحبه ( تبارك الله آ ناس .الحُمار التقول تيتل ! عليك أمان الله مشيهو تِقرِّب . يومداك بعد ما السوق فرَّق شدَّيتو ؤ قلتَ :عرت ؛ حرَّم كان لقيت نفسي في مكتب القسم . تبارك الله آ ناس ؛ الشي بُراق جبرين ! )

في ذلك الأصيل وعند حافة الترعة كانت الرَّيلة هي المرأة الوحيدة التي تقف بين الرجال تشهدُ العُشار دون وجلْ .جاءت تركبُ حمارتها – الرَّايقة – متفشِّقة لا كما تركب النساءُ ، في الضَّهرة ، الدَّواب . كان ذلك منذ عام مضى وها هي الرَّايقة ، الآن ، في كرب المخاض . غاب جدي دفع الله برهةً ثمَّ عاد وقد تزيأ بجلبابٍ ناصعٍ وعُمامةٍ أنصع مضى زمنٌ لم نرهُ يلبسها .بيمينه عصا الكريز التى كانت تميِّزه في ذلك الزمان .

تذكَّرتُ كلام جدي سعد الله ، وفي سرَّي ترحَّمتُ عليه : ( هلَّا هلَّا آ عيال الحِلَّة الما حضرتو زمن دفع الله وكتين يلف عمَّتو ويلبس الفرجية والقفطان ! ولَّا وكتين يتلفَّح توب الساكوبيس الأبيض و يشيل بركات . قادر الله آ عيال. قادر الله! طلاق بالتلاتة؛ جيتسكل ولّا مكي عباس ذات نفسه يتلقَّاهو برَّة يترجف. هلَّا هلّا آ عيال إنْ كان سمعتوهو يقالبُن الحديس لامن يغلبُن: يس . نو . يس . نو .هلَّا هلَّا آ دفع الله ) رحل جدي سعد الله ، حافظُ مجدَ رفيقه الذي ما عاد يحادثنا ، أو يحادث أحداً ، إلا إقتضاباً . قلتُ لجدي دفع الله (الإجتماع في مكتب القسم وقالوا ناس الشركة وصلوا من أمبارح ، ناس كُتار مضوا عقود البيع . ناس الوفِد القاعدين في الجامع مسكوا التواكيل ؤ شجعَّوا الناس على البيع . الاجتماع قالوا عشان الما مضى يمضى وبعد داك يعملوا عقود تانية مع المزارعين يأجِّروا ليهم الحواشات .) لم يعلِّق جدي دفع الله . سعيدٌ أخي قال له ( ناس الوفِد أدُّونا عقد المبايعة حقَّك بالنيابة عن الشركة ؤقالوا نجيك تمضى ؤهم مقدِّرين ظروفك . وأهو لقيناك كمان مشغول بولادة الرايقة ،الله يحلها بالسلامة. دحين يا هو دا العقد ) نحَّىَ ، جدى دفع الله ، يدَ سعيدٍ أخي الممدودة نحوه ، نحَّاها بعدم إكتراثٍ،وقف قرب الرَّايقة وحدَّق في فرجها المنبثق، ذهب إلي ناحية الرِّيلة المنهمكة في وضع الصَّريمة حول فم السخلة ، وقف قربها وهمس :

– الولادة بعد ساعتين ولَّا تلاتة .
– سمِح يابا .
– أنا ماشي مكتب القسم …خلِّي بالك من أمك .
– سَمِح يابا .

محمد عبد الملك
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..