لبس جماعي

ساخر سبيل
لبس جماعي

الفاتح يوسف جبرا

هل يتذكّر أحدكم آخر مرة ذهب فيها إلى الترزي وهو يحمل في يده كيساً أنيقاً يحتوي على كم قطعة من أقمشة البناطلين والقمصان يخرجها ويضعها على طاولة الترزي، بينما يقف أمامه منتصب القامة إنتباهاً وهو – أي الترزي – يضع أمامه (كراسة المقاسات) ويحمل في يده القلم وعلى عنقه يتدلى (المتر) بعد أن يقوم بكتابة الأسم؟ نعم كان ذلك في وقت مَضَى قبل ابتكار (جمرات الدفع المقدم) واستحداث الجبايات بأنواعها وقبل أن ينخفض سعر صرف الدينار (الأمازوني) أمام الدولار الأمريكي في مواجهة الين الياباني وينخفض معدل النمو وترتفع حالات الإسهالات المائية ويصبح المواطن (أباطو والنجم)!
تذكرت كل ذلك بينما كنت أجلس قبل فترة مع صديقي (عبدالعاطي) وهو مواطن غلبان إنقطع رزقه بعد أن تم الإستغناء عن خدماته للصالح العام، وهو منذ ذلك الحين يكابد الفقر والمسغبة من أجل إعالة أسرته المكونة من زوجته وأبنائه الخمسة! أخبرني (عبد العاطي) في أسى بأنه يعاني من مشكلة كبيرة وخطيرة، فهو وأم العيال والأولاد قد بليت ملابسهم تماماً وتقطّعت، بل أن غالبيتها قد تم نزع الأزرار والسوست منها، وتم وضعها وتعليقها في كيس على المطبخ لإستخدامها كممسحة للبلاط أو لتلميع و(تتمير) الأواني والعدة ثم قال لي مواصلاً في حزنٍ:
بدل يا أستاذ نلبس مما نصنع بقينا نمسح مما نلبس! – شوف يا (عبد العاطي) أنا ح أحل ليك المشكلة دي – والله يا أستاذ تكون ما قَصّرت!
وبدأت أشرح لعبد العاطي الحل، الذي يمكن أن يسمى (اللبس الجماعي) على غرار (الحاجات الجماعية) التي سادت حيناً من الدهر!
شوف يا (عبد العاطي) أنا عندي ليكا حل بسيط للمشكلة دي وهو أنك تعمل ليكا غيارين بس! إنت والأولاد غيار والبنات وأمهم غيار! تهللت أسارير (عبد العاطي) ولم يصدق هذه الفكرة (الكنجاراوية) التي تنبنى على تفصيل بنطلون واحد كبير ومعاهو قميص بي (ستة أكمام) يسعه هو وإبنيه، يعني غيار واحد للجزء الرجالي من العائلة ومثلهما إسكيرت واسع وكبير مع بلوزة بثمانية أكمام للأم وبناتها الثلاث أي للجناح النسائي.. راقت الفكرة لصديقي (عبد العاطي)، فالفكرة جميلة بلا شك وطالما الناس طالعين نفس المشوار التبذير لزومو شنو؟ واحد يركب وراء والتاني قِدّام والأخير (يسوق البنطلون) الجماعي وعلى بركة الله! وأي واحد فيهم يتخلف عن أي مشوار بسهولة يلفو ليهو أكمامو و(يطوطووها) والسلام! أعجب (عبد العاطي) بالفكرة أيّما إعجاب، لكنه أخبرني في أسى بالغ بأنّ الغيارين كتيرين عليهو ولن يقدر على توفير ثمن القماش والخياطه لأنو يا دوبك بيوفِّر حق الأكل من هنا ومن هناك. فأجبته بأنه في هذه الحالة لابد من خيار آخر أقل تكلفة وهو (اللبسة العائلية) وهي عبارة عن جيبة أو قرقاب كبير يسع جميع أفراد العائلة السبعة مع قميص بأربعتاشر كم.. إلا أنه بدا متردداً في حكاية (القرقاب) دي مما جعلني أخاطبه:
شنو يا (عبد العاطي) يا خوي ما نلبس (قرقاب) كان لبسنا؟ نحنا أحسن من الأسكتلنديين؟ ما قاعدين يلبسوهو.. وكمان أخوانا الهنود والبنغلاديشيون واليمنيون كلهم قاعدين يلبسوهو!
بذلت جهداً كبيراً في إقناع (عبد العاطي) بمسألة اللبسة العائلية وعلى وجه الخصوص عملية الجيبَة أو القرقاب، فهو يرى أنها لا تتناسب مع عاداتنا وتقاليدنا وحاجات تانية.. غير أنّي أكدت له أن الموضوع في الآخر هو حكاية (سترة) وأن هذه اللبسة العائلية أفضل كثيراً من (العرى العائلي)، الذي يواجهه هو وأفرا د أسرته الذين لم يكن في مقدورهم شراء متر قماش واحد خلال العشرين عاماً الماضية!
بعد أسبوعين، وبينما كنت أجلس في العصرية أمام المنزل رأيت (عبد العاطي) يتجه نحوي وهو يحمل كيساً كبيراً ما أن وصلني حتى قذف به ناحيتي:
يا أستاذ شيل اللبسَة العائلية دي أعملا غطاء للعربية أعملا خيمة أعملا أي حاجة؟-
مالا يا (عبد العاطي)!!؟
إتصور أول مشوار طلعناهو أنا والأولاد كان أمبارح ماشين بيت بكا.. في أول صينية وقفنا ليك بتاع الحركه قال إيه؟ دي لبسة (7راكب) ولازم يا الترخيص يا (30) جنيهاً غرامة!
كسرة:
يسألني الكثيرون عن سر تسميتي لكتابيالأول، الذي صدر اخيراً باسم (لبس جماعي) وسبب التسمية كما هو واضح إسم هذا المقال أعلاه، الذي هو ضمن المقالات التي يضمها الكتاب… شكراً جزيلاً لكل من قام بحضور حفل توقيع الكتاب أو أرسل مهنئاً بصدوره.. والشكر موصول لشركة مطابع السودان للعملة المحدودة التي قامت بطباعة الكتاب وأخرجته في صورة زاهية أنيقة.

الرأي العام

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..