
سَبحانه كَم أَلهَم العَقل … جُنوناً وَحمق
يَشك ما يَحيا … وَإِن أَشفى عَلى المَوت فَرق
وَكَم تَعالى عَميت … عَنهُ قُلوب مَن خَلق
سُبحانه قَد وَضَحَتْ …. آثاره فينا وَدَق
رَمى بِهَذا الطفل في الأَرض … وَمِن ثُمَ رَزق
رَمى بِهِ في مَوكب الدُنيا …. مِثالاً لِلقَلَق
يَدير عَينيهِ وَيَستَفسر …. عَن سر الشَفَق
كَأَنَّهُ يَصرَخ إِن المَوت … بِالشَمس عَلق
أَو أَنَّهُ يَعرف أَن الضُوء … في الأُفق اِختَنَق
الله عليك يا ابن يوسف ، هكذا الإنسان ، يشك ويسأل ويعصي ويتحامق ما دام حياً ، وما أن يحس بالموت قادماً فيفيق ، ويَفْرق عن حياة اللعب واللهو والغرور والعمى. أنظروا كيف صوّر التجاني قدوم الطفل إلي الدنيا ، يأتي قلقاً ، لا يستقر في مكان ، يدير عينيه على الدوام ، يستفسر حتى عن الشفق ، ولكن ذلك القلق وحب الإستطلاع يتبلد مع الكثيرين مع مرور الزمن بينما يكبر ويستمر ويسيطر تماماً على عقول البعض ، فيستريح المتبلد ويشقى ذو الفكر.
الرُوح ما الرُوح إِلّا طائر غَرَد … لَهُ جَناحان مِن نور وَظَلماء
كَطائر الرَوض إِلّا أَنَّهُ أَبَداً …. يشدو هُنالك شَدو الحائر النائي
يَظَل يَهبط مِن دوح لمؤتلق …. وَقَد يُغادر خَضراء لِخَضراء
لا العَقل يَهتك ما أَخفاه مِن حجب …. وَعَين كُل بَصير جد عَمياء
اللَه وَالرُوح كَم نَسعى وَراءَهُما …. وَنَستَعين بِأَموات وَأَحياء
هُما الخَفيان في نُور وَفي غَسَق …. تَرفَعا عَن إِشارات وَإِيماء
سران ما نَقب الإِنسان دونَهُما …. إِلذا تَوَغل في شَك وَإِعياء
الوَيل لِلعَقل هَذا مشكل جَلل …. فَكَيفَ يَنظُر في عَجز وَإِبطاء
لُهُ الثُبور وَماذا عافَهُ فَمَضى …. يَقلب الطَرف في ذُعر وَرَعناء
لَو يَنزل العَقل قَبل الرُوح في جَسَد …. لَم يَلبَث الرُوح سراً بَينَ أَحشاء
تَكشفت رُسل الآراء عَن شيع …. شَتى وَعَن فرق كَثر وَآراء
فَلَيتَ شعري وَالإِنسان مُنصَرم …. أَفي الخُلود نَصيب لِلوريقاء
يا أَيُّها الرُوح كَم تدنو بِمَقرُبة …. وَأَنتَ أَبعَد مَن يوح وَعَلواء
جَرى وَراءك سُقراط فَما علقت …. كَفاهُ منكَ بِشَيء وَاِبن سِيناء
لَأَنت صَعب عَلى الأُلى نَزَلوا …. مِن ظَهر آدم أَوجاؤوا بِحَواء
مأزق التجاني الوجودي هو أنه أراد أن يفكر ــــــ كما نقول الآن ـــــــــ خارج الصندوق ، خارج صندوق الزمان والمكان ، متخطياً كل الموجود من فكر وفقه وتفاسير ، كأنه يريد أن يلحق بعوالم غيبية ميتافيزيقية تقف على الوجه الآخر من الحياة، ،توغّل في البحث عن اسرار الكون الكبرى ، كأنه يريد أن يخطو بعيداً ، كأنه مشدود إلي شئ ما لم يُكتشف بعد ، كأنه يكدح كدحاً إلي ملاقاة روحه بالجوهر الميتافيزيقي للوجود أو كما يقول في قصيدة (قلب الفيلسوف):-
ومر يَضْرب فى الدنيا على ألمٍ … ضافٍ وتوغِل بين الكون رجلاهُ
يثور بين حنايا صـــدره ألم … ضـخمُ الجوانبِ لم يَسعَد بعقباه
عاش مع هاجس الأسئلة الفلسفية الكبرى في بحثها عن الحقيقة ، حقيقة الأشياء ، عن الوجود والعدم ، الحياة والموت ، الروح والنفس ، الله والإنسان والكون ، الثلاثي الذي حار فيه الفكر الإنساني كله ، أسئلة لا نهائية ، إستدعى العقل للإجابة عليها ، إستدعى العين للنظر فيها ، ولكن لا العقل هتكَ حجباً ، ولا العين أبصرت شيئا ، الله والروح (هما الخفيان في نورٍ وفي غسَقٍ) ، خفيان عن الإبصار ، في النور وفي الظلام ، لا يُدركان ، وكلما بحث فيهما الإنسان كلما توغل في الشك ،وأصابه الإعياء ، والتجاني في الأبيات السابقة يشتكي من العقل نفسه ، كأنه يوبخ العقل على عجزه وعدم مقدرته على الوصول إلي معرفة الحقيقة ، على تردده وإرتباكه ، وكيف أن العقل الواحد يقسّم الناس إلي فرق شتى لا تجمعهم فكر واحد ، ثم يذكر الموت والخلود ، ويذكر الروح وكيف أننا نحس به قريباً مع أنه أبعد من الشمس والقمر ، وكيف أن سقراط وابن سيتاء جريا وراء ماهيته ولم يظفرا بحقيقته ، والموت مذكور كثيراً في شعر التجاني ، وقد تعامل مع فكرة الموت كحيقة كبرى قريبة من الأنسان، وكان يرى أن الموت عبرة ، من حق الناس أن يعتبروا به ، فلا يغتروا بإنفسهم وقوتهم الزائلة ، يقول في مقطع من قصيدة (قلب الفيلسوف) ، مشيراً إلي الأخبار القرآنية عن الذين طغوا في البلاد ، وأكثروا فيها الفساد ، وقضى عليهم الموت وإندثروا كأن لم يكونوا:-
كَم عَظيم مَشَت الدُنيا بِهِ ….. في جَلال وَمَشى فيهِ القَدَر
زَهَت الغَبراء مِن وَطأَتِهِ …..وَنَهى ما شاءَ فيها وَأَمَر
فَإِذا ما اِنقَضَ عَن آخره ……قَضي الأَمر عَلَيهِ فَاِندَثَر
تحدث التجاني عن الموت وكأنه كان يعلم بقربه منه ، وحسب رواية الأستاذ الشاعر صديق مجتنبى ، وهو من أسرة التجاني ومتخصص في أدبه ، فالتجاني كان قلقاً من ناحية الوقت ، كأنه في سباق مع الوقت ، يريد أن ينجز مشروعه الفكري قبل الموت المحدّق به ، كأنه في وجوده قريب من العدم.
قصيدة (قلب الفيلسوف) ، المُشار إليها سابقاً قصيدة تستحق القراءة والتأمل ، إذا نُسبتْ هذه القصيدة لواحد من كبار شعراء الأندلس دون ذكر إسم الشاعر لصدقه الناس ، فيها من نفَس فلاسفة الأندلس وشعرائه ، يقول فيها:-
مَغداك في حَجر الآباد مغداه …. وَفَوقَ دُنياكَ في الأَيّام دُنياه
وَدُون مَغناك مِن ابهاء شامِخَة …. كوخ النَبي وَفي علواء مَغناه
كُوأَطل مِن جَبَل الأَحقاب مُحتملاً ….. سَفر الحَياة عَلى مَكدود سَيماه
عاري المَناكب في أَعطافِهِ خَلق ….. مِن العِطاف قَضى إِلا بَقاياه
مَشى عَلى الجَبَل المَرهوب جانبه …… يَكاد يَلمس مَهوى الأَرض مَرقاه
يَدنو وَيَقرب مِندك الذري أَبَدا …… حَتّى رَمى بِعَظيم في حَناياه
مَنبأ مِن سَماء الفكر مَمسكة ….. عَلى الرِسالة يُمناه وَيُسراه
إل أن يقول في نهاية القصيدة ، في مقطع يستشهد به الكثيرون على معتقد التجاني الحقيقي:
حتى أتى جبل الاحقاب وهو به ….. أحفى وأحدب فأستبكى فآســاه
وقام بين الرعان البيض ملتفتاً ….. يصيح فى الارض من اعماق دنياه
فى موضع السر من دنياى متسع …… للحـــق أفتأ يرعانى وأرعاه
هنا الحقيقة فى جنبي هنا قبس …… من السموات فى قلبى ، هنا الله.
يـُتبع
محمد فقيري
[email protected]