مقالات ثقافية

التجاني يوسف بشير ـ الحائرْ المُحَيّر (5-13)

محمد فقيري

يحكي الأستاذ الشاعر صديق المجتبى عن الموقف الدرامي المؤلم لوفاة التجاني في آخر لحظاته في الحياة ، وكما نعلم فقد أصيب التجاني بداء الصدر، وعانى من المرض طويلاً ، توفى في الخامسة والعشرين من عمره ، يقول صديق أن التجاني في يوم وفاته نادى على والدته وقرأ عليها سورة ياسين ، ثم نادى والده وأخرج مخطوطة ديوان شعره (إشراقة) من تحت وسادته وسلّمه لوالده وقال له (هذه ذريتي) ، فسالت دمعة من والد التجاني على خد التجاني.

أخر قصائد التجاني هي القصيدة المُسماة (في فراش الموت) ، كتبها لصديق إسمه محمود أنيس ، وكان أنيس شاعراً ، والقصيدة طويلة نقتطف منها هذا الجزء الذي يصف فيه حاله ومعاناته من المرض وأقترابه من الموت:_

أَيُّها الشاعر المَجيد وَمَجد الشعر مِما تَدوّي بِهِ الآفاق
أَرَأَيت الصَديق يَأكله الداء وَيَشوي عِظامه المِحراق
مارد هذِهِ السِقام وَلَكن صَبره الجَم لِلضَنى دَفاق
جَف مِن عوده النَدى فَتَعرى وَتَنفت مِن حَولِهِ الأَوراق
وَذَوي قَلبه النَضير وَقَد كانَ لَهُ في زَمانِهِ تخفاق
رَحم اللَهُ عَهدهُ فلَئن عادَ فَعِندي لِدَهرِنا مِيثاق
وَأَنا اليَوم لا حِراكَ كَأَن قَدشَدَ في مَكمَن القِوى أَوثاق
بِتُ أَستَنشق الهَوى اِقتِسارانَفس ضَيق وَصَدر طاق
وَحَنايا مَعروقة وَعُيون غائِرات وَرَجفة وَمَحاق
ما لَنا دُون ذا اِحتِيال فَإِن اللَه في عِلمِهِ الشُؤون الدقاق
لِي رَجاء في رَحمة اللَه لَما وَسَعت في الحَياة ما لا يُطاق
فَالشِفاء الشِفاء يا رَب وَالعَفو وَزِدها قِوى أَذاها الوَثاق

كَتَبَ الكثيرون عن التجاني ، فهناك دراسات سودانية وغير سودانية كثيرة ،الكل يتفق أن التجاني لم يجد ما يستحقه من مكانة عالية بين الأدباء والشعراء والفلاسفة ، التجاني كان ثائراً ومفكراً وناقدا وفيلسوفاً ثم شاعراً بعد ذلك. إنصبّت كل الدراسات في التجاني كشاعر ، واُهملت الجوانب الأخرى ، نعم كان شاعراً مجيداً فخماً فحلاً في شعره ، فهو في الشعر من حيث الشعر من المعدودين على اصابع اليد الواحدة ، كما يتفق النقاد ، ولكنه لم يحظى بتك المكانة بين كّتاب العربية لأنه سوداني ، كما قال العلامة عبدالله الطيب ((لم يجد التجاني يوسف بشير من نقاد العربية ما يستحقه من التقدير، ولم يشتهر بما هو أهل له من الاشتهار وذلك عائد لحداثته ولكونه من السودان!!)).

كل المواضيع التي كتب فيها التجاني تناولها من منظور فلسفي تصوفي ، حتى شعره في الطبيعة والجمال ، وله في الجمال شعر عذب خلاّب:

وعبدناكَ يا جمالُ وصُغنا — لك أنفاسَنا هُياما وحبا
ووهبْنا لك الحياة وفجّرنا — ينابيعها لعينيك قربى
وسمونا بكل مافيك من — ضعفٍ جميلٍ حتى استفاض واربى
وحبوناك ما يزيدك يا لغز — وضوحا وأنت تفتأ صعبا
وذهبنا بما يفسر معناك — بعيدا وأنت أكثر قربا

يستصعب الكثيرون شعر التجاني، وهو فعلاً صعب لمن أراد أن يقرأه لفهم معانيه أو لدراسته لغوياً أو فلسفياً إلاّ أن شعره ممتع جداً لمن أراد متعة الشعر وجرسه. كان لا بد من أن يكون شعر التجاني صعباً لأنه يعبر به عن أفكار كبيرة وصعبة، وليس شعر التجاني كأي شعر تقرأه ثم تنساه، فشعره يترك في القارئ اثراً يعلق بالذهن، لأنه يسوقك من سؤال إلي سؤال، ويفتح لك نوافذ جديدة.

للتجاني جانب مجهول ، وهو الجانب السياسي والوطني ، فقد كان وطنياً ثائراً ، وله قصائد في هذا الجانب ، وعندما كان يعمل في شركة سنجر ، ولمّا مرت الشركة بصعوبة مالية خفّضتْ رواتب السودانيين وتركت رواتب الأجانب كما هي ، فاحتج التجاني ودعا إلي إضراب كامل بل إلي ثورة تنتظم البلاد كجزء من مقاومة الإستعمار
فقال في قصيدته ثورة :

قف بنا نملأ البلاد حماساً … ونقوّض من ركنها المرجحنِ
هي للنازحين موردُ جودٍ …. وهي للآهلين مبعثُ ضنِ
يستدر الأجانب الخير منها …. والثراءَ العريضَ من غير منِ
أَبطَرتهم بِلادُنا فَتَعالى أَبن …. أَثينا وَاستكبر الأَرمَني

كان التجاني سودانياً يدعو إلي تاسيس أدب سوداني يعبر عن خصائص البيئة السودانية ، وكان من دعاة السودانوية التي نشأت في جيله ، وله كتابات نثرية في هذا الجانب ، وكتاباته النثرية لم تجد الإهتمام من نقادنا وأدبائنا ولذلك فلم تنتشر ، كان كأنه يقول ليكن الأدب السوداني مكتوباً باللغة العربية ، ولكن يجب أن يعبر عن الخصوصية السودانية التي تفارق العروبة في جوهرها ، يقول صديق المجتبي أن التجاني قال (هناك أدب سوداني فابحثوا عنه).

التجاني حفظ القرآن الكريم وعمره تسعة سنوات ، ثم إلتحق بالمعهد العلمي في أمدرمان ، ولم يكمل الرداسة بها ، فقد طرد منها وهو في السنة الرابعة ، وهكذا فلم يتلقى التجاني دراسة نظامية إلاّ لمدة أربعة سنوات ، تفرغ بعدها لتعليم نفسه بنفسه ، إنقطع للقراءة والكتابة ، فقرأ واستوعب من العلم ما لم يكن ليستوعبه لو إستمر في المعهد. كيف إستطاع التجاني أن يستوعب كل هذه العلوم في عمره القصير ؟، وكيف إستطاع أن ينجز كل هذا الكم الهائل من الشعر والنثر ؟، حقيقةً إعجاز بشرى.

يقول الاستاذ صديق المجتبى أن التجاني تأثر بالغزّالي كثيراً ، وحفظ إحياء علوم والمنقذ من الضلال. كما أنه حفظ الرسالة القشيرية ، وشعر ابن الفارض وعبدالغني النابلسي وابن عربي وأبوالعلاء المعري وحفظ ديوان المتنبي ، كما أنه قرأ كل كتب التاريخ الإسلامي ، وفلسفة أفلاطون ، درس علوم القرآن وعلوم اللغة.
يـُتبع

محمد فقيري
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..