أخبار السودان

هذه الخطوة التاريخية في السودان

تشهد الساحة السودانية حالة من الحراك النشط، وبسبب قوته، يُقابَل بتوجسات وقلق يشتد لدى العامة، ومخاوف بين بعض أطراف النخبة من انفراط عقد الدولة بكاملها، على أن الأكيد أن رياح التغيير تهب وبقوة على السودان، فالشعب، وعلى مختلف الصعد، يدخل في حالة حوار غير مسبوق، نجد ذلك على مستوى الأحياء، ممثلة في لجان المقاومة التي تتشابك خطوط اهتماماتها وتتعدّد، من الرقابة على الأسواق والسلع التموينية إلى ابتكار أجسام تعاونية للتخفيف من الضائقة المعيشية، إلى الاجتهاد في اختيار ممثلي الولايات المدنيين، لإنهاء ولاية العسكر.
شعبيا أيضا، تنتشر الزراعة وسط المبادرين والمستثمرين الشباب، بأفكار ورؤى جديدة تُحدث تغييرا بطيئا، لكنه في تنامٍ على امتداد الخريطة الزراعية في السودان. حدثني صديق، يعمل ضمن إحدى اللجان التي شكلها وزير التجارة والصناعة، عن حالة من الحماس التي ينفذ بها فريق من الخبراء والمختصين، شكّله وزير التجارة مدني عباس مدني، وهو من شباب الثورة، وانغماس هذا الفريق في بناء “مركز ضخم لقاعدة من البيانات والمعلومات لكل ما يتعلق بالتجارة والصناعة في السودان”. وحسب وصف هؤلاء الخبراء، نقلا عن صديقي، إن ذلك سيعني ثورة حقيقية في التجارة، ويقطع الطريق إلكترونيا أمام أكبر شبكات الفساد التي توطّنت عبر السنوات في جسد هذه الوزارة، وعبثت بثروات البلاد وتحكّمت في الصادرات والتجارة بكاملها. بمعنى أن التكنولوجيا سوف تكون الفيصل في عمل الوزارة، ما يجنبها النشاط الطفيلي، ويلغي نمط الممارسة القديمة في السودان. ولعل أهم موجات الحراك وأكبرها شقها الأكاديمي، وقد جسده المؤتمر الذي عقدته جامعة الخرطوم لبحث “مبادرة البناء الوطني والانتقال الديمقراطي”. مؤتمر مثل حلقة ضمن سياق الحراك المجتمعي الواسع، والذي يرسم خريطة طريق مستقبلية، وإطارا شاملا للتنمية المستدامة، وصورة الإصلاح الاقتصادي والتنمية المتوازنة المطلوبة في السودان.
أسدل إعلان الولاة الستار وأنهى سلطة حكام الأقاليم العسكريين، ووضعها كاملة بيد الحكام المدنيين
ويبدو أن هذه المبادرة أصابت شيئا في نفس رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، وبحثه المستمر عن مقاربة مختلفة لخروج السودان من الوضع الحالي، الأمر الذي دعاه إلى مخاطبة المؤتمر ودعوته المعنيين من أكاديميين وسياسيين وخبراء، لمناقشة ما سماه “المشروع الوطني الكبير، بشقيه السياسي والاقتصادي، وربطه بالمشروع التنموي، والذي يحافظ على وحدة السودان وتطوره”. وذهب الى أبعد من ذلك إلى الدعوة إلى الاتفاق “حول تحديد الملامح الرئيسية للمشروع القومي التنموي للتنمية المستقلة والمستدامة”. وهذه الدعوة، في جوهرها، تجسيد لأهم الأولويات التي نصت عليها وثائق تكتل قوى الحرية والتغيير، لتحقيقها في الفترة الانتقالية لرسم ملامح السودان الجديد.
ويتمثل الوجه الآخر لصورة الحراك في الإعلان يوم 22 يوليو/ تموز الجاري عن الولاة الجدد لأقاليم السودان الثمانية عشر. وهو إعلان أثار الجدل من داخل قوى الحرية والتغيير، حاضنة الحكومة، والتي رأت أن الأسماء التي أعلن عنها حمدوك جاءت في بعض منها من خارج قوائم المرشحين المقدمة من القواعد في الأقاليم. وواضح أن حمدوك أراد ترك بصمته، باستخدام حقه في اختيار الولاة من الأسماء المقترحة من القواعد، واختار ولاة لأقاليم دارفور المضطرب ليس فقط لأنهم من أبناء المنطقة، وإنما لخبرتهم المكتسبة من عملهم في المنظمات الأممية في نشر السلام والاستقرار. وفي هذه الخطوة استشراف للمرحلة المقبلة، أي ما بعد اتفاقية السلام والبدء في تطبيق مرحلة بناء السلام والاستقرار والتنمية في تلك المناطق. ولعل الانتقاد الأكبر له جاء من حزب الأمة، بقيادة الصادق المهدي، الذي فاجأه اختيار حمدوك ستة من المنتسبين للحزب، لكنهم من خارج القائمة المرشحة منهم. واعتبرت هذه الخطوة مستفزة من قيادة الحزب، لكن المفارقة أن الاقاليم استحسنت هذا الاختيار.
قائمة الولاة الجدد ضمت امرأتين للمرة الأولى حدث لا يقل في رمزيته عن انتخاب فاطمة أحمد إبراهيم منتصف الستينيات أول امرأة تدخل البرلمان
والمهم هنا الاعتبار لعامل آخر، أن هذه المجموعة تطلق رسالة من شقين، الأولى خاصة للمهدي، أن ثمة تيارا داخل حزب الأمة، بات يفصح عن نفسه بوضوح، واختار نهج التغيير الذي ينتظم البلاد، وطي صفحة الماضي الطائفية. والثانية أن هذه المجموعة تجسّد حالة من الاصطفاف، تتسع دائرته داخل قوى الثورة من دعاة التغيير الجذري. وهي خطوة ترتبط وبقوة بالإعلان المثير لتجمع المهنيين، قاطرة الثورة، الجسم النقابي، وخروجه من “الحرية والتغيير”، واصطفافه سياسيا مع الحركة الشعبية لتحرير السودان (مجموعة الحلو)، وهي خطوة لا تزال تثير جدلا كثيرا، ولكنها تعبر عن هذا التيار الجديد الذي يعتبر أن الثورة تتعرّض للاختطاف من مجموعةٍ ترفض التغيير الجذري الثوري في السودان، ويقودها المهدي، وبعض الأحزاب الصغيرة، ومجموعات أخرى داخل “الحرية والتغيير”.
والمثير حقا في تسمية الولاة أنها خطوة تاريخية بكل معنى الكلمة، أن القائمة ضمت امرأتين للمرة الأولى في السودان، وهذا حدث لا يقل في رمزيته عن انتخاب فاطمة أحمد إبراهيم منتصف الستينيات، أول امرأة تدخل البرلمان في السودان، وربما على مستوى المنطقة العربية. ويلفت النظر أن تعيين آمال محمد عز الدين وآمنة أحمد المكي جاء في ولايتين (الشمالية ونهر النيل) تضمان اكثر الحركات الشعبية والعمالية تنظيما وتأثيرا في السودان، من الرافضين إنشاء السدود في المناصير وكجبار.
وخلاصة القول إن إعلان الولاة قد أسدل الستار وأنهى سلطة حكام الأقاليم العسكريين، ووضعها كاملة بيد الحكام المدنيين، وهذا من مطلوبات الشارع الثوري. ويحتم الوضع المدني الجديد على الحكام المدنيين مواجهة تحدّيات كبرى من توفير الأمن وحل المشكلات المزمنة للمياه والطاقة، الى جانب توفير فرص العمل وتحسين الأوضاع المعيشية، وتعزيز الإنتاج في الأقاليم، وهذا كله ليس قليلا.

طارق الشيخ ـ العربي الجديد

‫2 تعليقات

  1. التغيير عملية مترابطة وليس فعل محدد،ومن أهم مطلوباته،تغيير نظرة المواطن السوداني لنفسه،تغيير النظرة السالبة للوطن وللاخر،،ونشرثقافةالتغيير والابتكار والتجديد…..وبالفعل بدأ التغيير يسري في عروق الأمة.

  2. الاستاذ طارق الشيخ.. تحية واحتراما..
    دعني اعبر عن اعجابي الكبير بما تكتب والنظرة المتفائلة وسط الاحباط المخيم على رؤوس الاعلاميين والمواطنين… بالفعل والعمل المستمر يحدث التغيير دون الالتفات لاؤلئك الذين يسعون على احباط وتدمير كل فعل ثوري او فعل يحدث نماءاَ في بلادنا العزيزة… على الذين بيدهم امكانية التغيير ان يتقدموا بالافادات والمشاركة الفاعلة في البناء الوطني… على ابناء السودان وخصوصا اصحاب الأموال المشاركة في التنمية والاسهام في عملية البناء .. لا عذر الان .. في السابق كانت هناك معيقات وكوابح من فساد واختطاف للوطن وحق المواطن…. على الجميع ومن الضروري المساهمة الفعلية بعيدا عن التنظير.. من اراد مساعدة وطنه الان الفرصة متاحة … لا تقل لي ايها الحصيف كيف؟؟ اي مساهمة عملية ولو بسيطة في سبيل التنمية مطلوبة وتستحق الاشادة….
    والا اصبحنا نتحدث اكثر من ما نفعل…. ليس بالضرورة ان اكون وزيرا او واليا حتى استطيع الاسهام في تنمية بلادي على الجميع التوجه نحو الانتاج وخلق مشاريع تسهم في رفع مستوى المعيشة والنماء … على مستوى الافراد يمكن احداث تغيير بعيدا عن اسهام الدولة… مرحلة القضاء على المفسدين تتطلب وقت وتوعية .. المطلوب الان الاسهام لا الانتقاد….بصورة شخصية….وعدم التشكيك في مقدرات الاخرين…
    فرق كبير عندما اقرا لك وعثمان ميرغني….
    عثمان ميرغني متشائم وسلبي … قلمه مسموم… فمن اراد الاصلاح عليه بالنظرة الايجابية والسعي نحو الفعل الممكن وسط الزحام والضبابية…
    الثورة مستمرة… سوف تمضي للامام ومن اراد الركون والاستسلام سوف يفوته قطار التغيير …
    الجبهة الثورية : لا تريد السلام… يريدون الحكم… اذا ليست لديهم رؤية نضالية وما يتشدقون به من تهميش وحرب الابادة التي حدثت لأهلنا في دارفور مضى عليها الزمن ولسان حالهم يقول دعونا نتسلق جماجم الموتى و الشهداء ونستفيد؟؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..