الراكوبة تنشر كتاب: بيت العنكبوت، أسرار الجهاز السري للحركة الإسلاموية السودانية (2)
للكاتب والصحفي فتحي الضو

تواصل الراكوبة نشر كتاب بيت العنكبوت، أسرا الجهاز السري للحركة الإسلامية للكاتب الصحفي فتحي الضو نقلاً عن صحيفة السياسي..
وللاطلاع على الجزء الأولى فضلاً اضغط هنا
خلاصة الأمر، طبقاً لكُلِّ ما مضى سرده، أودُّ أن أضع بضع نقاطٍ صغيرة، لتكون بمثابة ‘خارطة طريق’ يُمكن أن تعيننا على تفهُّم الأهداف والمقاصد، ونستجلي بها ما نعتقدُ أنه قد أبهم أو خفي على القارئ إدراك معناه، أو الوصول لفهم مشترك:
- أولاً: لعلمنا أن الغرائز الإنسانيَّة دائماً ما يقتلها الظمأ في إرواء حُبِّ الاستطلاع، لاسيَّما، في جنس ما نحن فيه خائضون، بادرتُ من تلقاء نفسي بكتابة ما يُشبه التوضيح حول هُويَّة مصادري في الفصل التالي. وذلك بنشر ما يسمح المجال بنشره حول هُويَّاتهم، ومنهُم من صاحبت إفادته قصصٌ واقعيَّة تكاد تماثل الخيال موقعاً، وتزيد من وتائر الإثارة المُصاحبة مشهداً. بتأكيدٍ كاملٍ على عدم الحَنث بوعدٍ قطعناه لهُم في التأمين على شخصيَّاتهم، خشية عليهم من جلاوزة العُصبة، الذين لا يراعون أخلاقاً ولا ذمَّة، ولا يُفرِّقون بين الخطأ والصَّواب، ولا الحلال والحرام.. فهم كالأنعام، بل أضلُّ سبيلاً!
- ثانياً: في ذات الإطار، يجدُر بي ذكر أمر يتعلق بالمصدر الرئيس، الذي أصرَّ على نشر وقائع لن يألو المعنيُّون في الجهاز جهداً وِفقها في التعرُّف عليه ببساطة، علماً بأن القُرَّاء مهما اجتهدوا لن يستطيعوا ذلك. وفي واقع الأمر، رغم إلحاحنا عليه في ضرورة حجب تلك المعلومات التي تكشف عن شخصيَّته، إلاَّ أنه رفض رفضاً باتاً، وقال إنه غير عابئ لدوافع شخصيَّة بحته، فخَضَعنا لرغبته ليقيننا أنه أضحى في مأمن لا يُمكن الوُصول إليه مهما كانت الاجتهادات!
- ثالثاً: ضمن مواد الكتاب السابق – “الخندق.. أسرار دولة الفساد والاستبداد” – استوقفتني ملاحظة رأيتُ أن ثمَّة وشائج روحيَّة – إن جاز التعبير – تصل بينها وهذا الكتاب – “بَيْت العَنكَبُوت” – فهي قد انطوت على قراءة تنبؤيَّة بمادته، إذ أنها يومذاك كانت في طيَّات الغيْب. ولنقرأ معاً ما جاء في الكتاب السَّابق: «لعلَّ الهدف الأساسي من نشر هذه الأسرار مُدعَّمة بالوثائق المُحكَمَة، هُو رسالة لمن توهَّم أنه في بُروج مُشيَّدة، وهو لا يعلم أنَّ الحرص الحقيقي يتمثل في الشفافيَّة، والحذر المطلوب تأتي به الديمقراطيَّة، والأمان الصَّادق يكمُن في العدل والإنصاف. وليتهم يعلمون أن الفضح لن يتوقف في الحيِّز المنشور، فهذه مجرَّد بداية ونقطة في بحرٍ متى ما هاج وماج، سيغرق كثيرون في لُججه العميقة. فلا يظنن من تسوَّر بالبراءة بأننا أتينا على كل شيء. فثمَّة أطنان من التاريخ السرِّي البغيض تنتظر الاستجلاء. وما يزال هناك الكثيرون الذين قُتلوا غدراً وغيلةً ولم يعلم بهم أحد».. فأفتح عينيك يا نائم، وتأمَّل يا صاحٍ[1]!
- رابعاً: وصلاً لما سبق، ثمَّة ملاحظة أخرى لفتت الانتباه في الكتاب السَّابق أيضاً، ونعيدها للتذكير مرَّة ثانية: «عودة على بدءٍ، سيبقى السُّؤال الحائر، الذي لن تستطيع العُصبة له إجابة صريحة، بل حتى وإن تحايلت، فسيظلَّ ما حدث لغزاً يُورثها عُسراً ويُرهقها قتراً، ونُعيدُ التساؤل مرَّة أخرى: كيف يمكن لمصدرنا أن يقتحم معقلاً حصيناً من معاقل العُصبة، وهو المعقل الذي صرفت فيه البلايين من أموال الشعب السُّوداني، لا من أجل حماية أمنهم القومي، ولا من أجل حياة حرَّة كريمة لشعبه، بل على العكس تماماً، ذلك الجهاز صُمِّم من أجل تثبيت أركان النظام عن طريق إذلال الوطن ومواطنيه؟![2]»، مع فارق أن الحديث يومذاك عن الجهاز “الرَّسمي”، واليوم عن الجهاز “المخفي”.. مرَّة أخرى، يبدو أن السُؤال سيظل متواصلاً، والاختراقات ستظل قائمة.. فما تلك سوى أجهزة تنتظر هزَّ مِنسَأة سيِّدنا سُليْمَان لتسقط من عَلٍ!
- خامساً: أيضاً، ووصلاً لما سَبَق، يبدو لي أننا لا نشهد حركة انهيار الأجهزة الأمنيَّة العتيدة بهذه الاختراقات المُؤثرة، ولكننا نشهد نهاية نظام ظلَّ يحكُم البلاد والعباد بفؤادٍ أفرغ من جوف أم موسى، كان وما فتئ مُفلساً من كُلِّ ما تتزوَّد به الأنظمة المُحترمة، وتعمل لرفاهيَّة شعوبها وتوفير الحياة الآمنة المستقرَّة الكريمة. وبالقدر نفسه، أقول: نحن لا نشهد انهيار أجهزة أمنيَّة، ولكننا نشهد انهيار الحركة الإسلامويَّة في السُّودان وفق زعم ومقولة فرانسيس فوكوياما، لتَحِلَّ محلَّها الديمقراطيَّة (حتميَّة نهاية التاريخ والإنسان الأخير) بعد هذه التجربة المريرة. ولستُ مبالغاً إن قلتُ أن نُذُر تفرُّقها شذر مذر – أي الحركة الإسلامويَّة وسُلطتها – بدأت تلوح في الأفق، ولربَّما تسنَّى للمُراقبين عن كثبٍ التأكُّد من أنها الآن محض خيال مآتة، يظنه الموهوم نظاماً سوياً!
- سادساً: إن انهيار الأجهزة الأمنيَّة، ومِن ثمَّ انهيار النظام، وكذا انهيار الحركة الإسلامويَّة، ليس أمراً يمكن أن يمُرَّ مُرور الكرام، أي بسلاسة تجرُّع الظمآن ماء. يقول العالمون بحركة تاريخ الشُعوب، إن تلك جراحاتٍ لن تتم إلاَّ في سياق ما ذكرناه كثيراً، وسمَّيناه بـ“ليلة السَّكاكين الطويلة”[3]، من باب إعادة وقائع تاريخ إنساني مضى في غياهب الذاكرة.. فإعادة تكرار السيناريو بين “أصدقاء الأمس أعداء اليوم” تقترب علاماته رويداً رويدا.. الخطوة الأولى في النفق المُظلم تمَّت بـ“المُفاصلة” التي أورثت البعض ضغائن لم تندمل، وقد يلاحظ البعض حجم ما صار يمورُ في نفوس هؤلاء كالحِمَم البُركانيَّة، ويخرج بين الفيْنة والأخرى شواظاً ترمي بشَرَر!
- سابعاً: ما هو مفهوم الوطن لدى الإسلامويين؟! سُؤالٌ ليس بجديد، ولكنه يفرض نفسه الآن في خِضَمِّ هذه السيناريوهات، وسيناريوهات أخَر تتدافع في الخفاء والعلن، ويتبعه سؤالٌ آخر يُطِلُّ من بين الرِّكام حول الكيفيَّة التي يمكن أن يصمُد بها الوطن السُّودان، والذي تحاصره الهشاشة من جميع جِهاته. فهو قبل هذا وذاك وطنٌ تحت التشكيل، والذي بدوره يسير ببطء السُّلحفاة، نظراً لنصيب الأسد الذي استحوذته الديكتاتوريَّات بعد الاستقلال، فكيف يكون الحال لو داهمته تلك التغييرات القادمة والمُحتملة الحُدوث بسيناريوهاتها المُختلفة.. لا سيَّما، وأن الإسلامويين – سواء من واقع التجريب الذي خبره الناس عنهم، أو انطلاقاً من الأفكار الأيديولوجيَّة – فالوطن بالنسبة لهُم مجرَّد سقط متاع تنتهي صلاحيَّته متى ما كفَّت البقرة الحلوب عن العطاء!
- ثامناً: ليس مفهوم الوطن وحده، فثمَّة مفاهيم أخرى ستظل تسيطر على مُخيِّلة القُرَّاء طيلة قراءة هذا الكتاب، مثلما سيطرت على عقل مُؤلفه طيلة إعداده.. ما هو تأثير الأيديولوجيا والانقطاع عن الحياة المدنيَّة بتطوُّرها الطبيعي في الشراهة التي يُبديها الإسلامويُّون نحو السُّلطة أولاً، والشُروع في الفساد والإفساد بمجرَّد الوصول إليها ثانياً؟! لقد لفت نظري إجابة تحتاج لكرِّ البصر مرَّتين، وقد جاءت على لسان الدكتور حسن التُرابي في برنامج “الإسلامويُّون وحُكم السُّودان”، رداً على سؤالٍ طرحه مُقدِّم البرنامج، الذي قال له: هل أنتم أحزاب سياسيَّة أم أحزاب دينيَّة لنشر دعوة ولأسلمة أوطان؟! أجاب التُرابي: «أنا فنان أعبدُ الله، الله جميل، الله الذي زيَّن لنا الدُّنيا جعل ما في الأرض زينة لنا ليبلونَّا، فهذه الزينة في الرُسوم والأصوات والأنغام، هذه أعبدُ الله بها.. أنا مثلاً أعبدُ الله واتقي الله كذلك فيه، وأنا سياسياً كذلك في رعاية البشر، أعلم أن الله فوق رأسي ويأخذني يوم القيامة ويحاسب الرَّاعي ضعف ما يُحاسب به في الخطيئة عامَّة الناس. وأنا في بيتي كذلك أعبدُ الله سُبحانه وتعالى، حيثُما ذهبتُ في معملي في العلوم الطبيعيَّة، في أستوديو للفنون، حتى في ميدان الكورة، أنا لا أخاف فقط من هذا الحَكَم ولا من الجمهور من حولنا، أنا أعلم أن الله معنا، وأنا لا أريد أن أعدو على أحد. ولا أريد في عهودنا أن أخون الناس، وأخترق من ورائهم لأسجِّل هدفاً، مِن حرصي على تسجيل الأهداف يعني، لا أريد أن أفعل ذلك، أدخُلُ البيوت من أبوابها ولا أدخُلُها من ظُهُورها غدراً للناس.. يعني هذه المعاني نريد أن نُدخِلَ هذه المعاني للرياضة وللفنون وللآداب»[4].
- تاسعاً: توقفتُ أمام تلك الإجابة أكثر من مرَّة، لا لكي أفهم مغزاها، أو أدرك معناها، ولكن لكي أتيقن بمدى مُطابقتها للواقع، سواءً كان ذلك واقع الدكتور التُرابي، الذي عُرف بأحاديث الالتواءات، ونعرفه جميعاً كما يعرف التائه الدَّار بعد توهُّم، أو بالنسبة لحوارييه الذين ظلَّوا يسمعون مثل هذا الحديث سنين عددا، في الوقت الذي كانوا فيه يتلفتون يُمنة ويُسرى ولا يجدون له أثراً!
- عاشراً: وَرَدَت تلك الإجابة لذهني أثناء تأمُّلي في مُمارسات الأجهزة الأمنيَّة في القتل والتعذيب. وهُنا أعيدُ القارئ لما كتبناه من قبل في الكتاب سابق الذكر: «إن العاملين في الأجهزة الأمنيَّة والذين عُرِفوا بممارسة التعذيب على ضحاياهم، يحملون في دواخلهم تراكُماتٍ ضخمة من العُقد النفسيَّة. ولهذا تجد هذه الفئة عندما تُمارس هُوايتها في التعذيب والإذلال، فهي في الواقع تُنفِّس عن مكبوتاتها، أو تفعل ذلك بحثاً عن إيجاد مُبرِّر لأفعالٍ شيطانيَّة، أو أنها تثأر من الظروف التي صنعت ذلك الماضي اللئيم، أو يريدون بها مواراة تعاسة ذلك الماضي، أو أنها تنتقم من ضحاياها لتَوَهُّمِهَا بأنها ضالعة فيما يشعرون به من عُقدٍ نفسية. وأياً كانت الأسباب، فهُم يجدون فيما يفعلون عزاءً تتسرَّى به نفوسهم المريضة»[5]
ويمضي التحليُل في ذات الاتجاه «مِمَّا لا شكَّ فيه أن ذاك الماضي اللئيم يُشكِّل قاسماً مُشتركاً لكثير من منسوبي جهاز الأمن والاستخبارات، لهذا فهُم لا يشعرون بعُقدة الذنب في ممارساتٍ فرديَّة أو جماعيَّة، أي تلك التي يفعلونها بطقسٍ جمعي، وبتبتُّلٍ كأنهم يُؤدون صلوات في مكان عبادة، ولهذا أيضاً هُم لا يرون شذوذاً فيما يفعلون، بقدر ما يعتقدون أنها ممارسات طبيعية فيها راحة للنفس تسُر الناظرين. فهُم قد يسمعون أنين ضحاياهم كمقطوعة موسيقيَّة رائعة، ويتخيَّلون توسُّلاتهم وكأنها لوحة رسمتها أنامل فنان بارع. بَيْدَ أن بعضهم تشوَّهت نُفُوسهم نتيجة توصيفاتٍ عرقيَّة وإثنيَّة وطبقيَّة جُبل على ترديدها بعض عامَّة أهل السُّودان»[6]! وهذا قال عنه المُتنبي، طيَّب الله ثراه:
وذو العقل يشقى في النعيم بعقله *** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
- حادي عشر: لعلَّ النقطة السابقة تقودنا إلى ظاهرة التديُّن الشكلاني، أو الشكلي، الذي خيَّم على الساحة السُّودانيَّة بعد وصول الإسلامويين إلى السُّلطة، وتبعاً لذلك انقلبت حياة السُّودانيين رأساً على عقب، فتزعزعت القِيَم واضطربت المُثل وتدهورت الأخلاق. ذلك على عكس ما ظلَّ البعض مِمَّن جُبِل على إتباع دين الإسلام بالفطرة، والذين يؤمنون في قرارة أنفُسهم أن هذا الدِّين مُنجِّيهم في الآخرة وملاذهم في الدُّنيا. وبالتالي، يمكن القول إن حصاد أهل السُّودان من تلك العقيدة كان صفراً.. فلا تُركوا في فطرتهم التي كانوا هُم عليها سائرون، وقد خبروا منها في الدُّنيا ما جعلهم منها ينفرون. ولعلَّ السؤال الذي يطرح نفسه عندئذٍ: ما نصيب الإسلاموي من هذه الأوزار؟! هل يُدرك الدكتور التُرابي حقاً والحواريُّون كذلك ما قاله أعلاه: «أعلم أن الله فوق رأسي ويأخذني يوم القيامة ويحاسب الرَّاعي ضعف ما يحاسب به في الخطيئة عامة الناس»؟! بالطبع، لا أعتقد أن من خَبِرَ حركات وسكنات الجماعة مثلنا يمكن أن يتلجلج لسانه في اعتبار الأمر مجرَّد متاجرة بالديِّن، ليس إلاَّ!
- ثاني عشر: ما تنفكَّ الأسئلة تتداعى لذهن قارئ الكتاب، مثلما تداعت لذهن مُؤلفه. إذا كان الله – سُبحانه وتعالى – خلق البشر، وقال في مُحكم تنزيله {يَا أُيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكرٍ وأُنْثى وَجَعَلناكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارفُوا، إِنَّ أَكْرمَكُمْ عِنْدَ الله أتْقاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[7]، فلماذا يلجأ الإسلامويُّون، وعلى وجه الخُصوص إسلاميي السُّودان، للاحتماء بالقبيلة وتغليب هُويَّةٍ على أخرى، لا سيَّما أنهُم يعيشون في قُطر حَبَاهُ الله بتنوُّع ثقافي وعرقي وديني، كان يمكن أن يكون سنداً وعوناً للإسلام نفسه إذا انصهر تنوُّعه في بوتقة واحدة، وأصبحت الدولة من الدول ذات الشوكة، بحسب المُصطلح العقدي، الذي يمضغونه {وَتَودُّون أنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَة تكُونُ لكُمْ}[8] كذباً وافتراءً!
- ثالث عشر: وما زالت الأسئلة الحيرى تترى في مشروع الدولة الدينيَّة، وهي أسئلة – يا هداك الله – أيقظتها مُمارسات الأجهزة الأمنيَّة، بحيث بات السَّواد الأعظم من السُّودانيين في شكٍ كبير في عقيدتهم، وظنَّ البعض أن ما تقوم به العُصبة من ممارساتٍ هو ذات الدِّين، الذي تطلعت إليه أفئدتهم، الأمر الذي فتح باب الرِّدة واسعاً، وقد شهدت البلاد خلال سنوات حُكم العُصبة، والتي تجاوزت رُبع قرن أكبر حالات خروج من الدِّين، والتي لم يشهد لها المجتمع السُّوداني مثيلاً طيلة تاريخه الوجودي. ولنضرب مثلاً واحداً، وفق ما جاء في عناوين رئيسة لصُحُفٍ محليَّة: «يعقد مجلس تشريعي سِنَّار جلسة طارئة اليوم لمناقشة حالات ارتدادٍ عن الدين الإسلامي التي حدثت بقرية الوحدة بمحليَّة سِنَّار. وأكد محمَّد سليمان، رئيس المجلس، أنَّ جلسة اليوم ستُخصَّص لمناقشة هذه القضيَّة. وأوضح مصدر زار القرية أن الجمعيات التبشيريَّة استطاعت أن تنصِّر 61 طالباً من القرية بعد إغراءاتٍ اقتصاديَّة. وأشار المصدر إلى أن أولياء الأمور بذلوا جهوداً جبَّارة من أجل حلِّ قضاياهم الخدميَّة والدينيَّة دون أن تجد الاستجابة من حكومة الولاية أو ديوان الزكاة، وأكَّد أن الحي الذي يقطنه هؤلاء يحتاج إلى الخدمات الأساسيَّة التي نفذت من خلالها الجمعيَّات التبشيريَّة وحققت مقاصدها»[9]، وهل يا ترى الجمعيَّات التبشيريَّة في حاجة لبذل جهدٍ يُذكر في دولة الصحابة؟!
- رابع عشر: مواصلة للأسئلة في نقد مشروع الدولة الدينيَّة التي نصبتها العُصبة الحاكمة في السُّودان، ورفعت لها الشعارات بزُهدٍ زائفٍ في السُّلطة والجاه، والإيهام بابتغاء الآخرة ومرضاة الله.. كيف يبيت الإسلاموي السُّوداني حينما يأوي إلى فراشه ويضع رأسه على مخدَّة وثيرة، وهو يعلم أنه منذ أن غادر منزله وحتى عودته، كان يمارس ما طفق على ممارسته منذ عقودٍ زمنيَّة، وهي كيفيَّة التحايُل في غِشِّ ربَّ العالمين.. ناهيك عن أن بعضهم زاد الهواية بغواية الولوغ في الدماء التي حرَّم الله إلا بالحق.. فإذا كان الدين عبارة عن قِيَمٍ ومُثُلٍ وأخلاق، بل إن الله سُبحانه وتعالى وصف نبيِّهِ الكريم وصفاً جامعاً: {وإِنَّكَ لعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[10]، فأين الإسلاموي السُّوداني من تلك الأخلاق، وأين هو من قوله تعالى: {ويُؤْثِرُون على أَنفُسِهم ولو كان بِهِمْ خَصَاصَة}[11]، ليس في ممارسته الحياتيَّة الخاصَّة فحسب، وإنما في عدم الإحساس بالآخر في مأكله ومشربه ومسكنه وصحَّته وتعليمه ورفاهيَّته التي يحق أن يتباهى بها وفق الدعوة الربَّانيَّة.
- خامس عشر: إن كانت الدولة الدينيَّة – وفقاً لغاياتها التي صدَّع بها سَدَنَتها الرُؤوس – تهدف إلى إصلاح وتهذيب وترقية النفس البشريَّة.. لعلَّ السؤال الذي يطرح نفسه بالنظر لهذه الأهداف النبيلة: هل نظر إسلاميو السُّودان للوراء ورأوا ماذا فعلوا بالمجتمع السُّوداني الوديع؟! كان مجتمعاً يُضرَبُ به المثل في التزامه الخُلقي وسُلوكياته القويمة، وما أن حلوا لحُكمه في الثلاثين من يونيو 1989، حتى أحالوا نهاره إلى ليل ونعيمه إلى جحيم.. إذا نظرت حولك، تجد المفاهيم المعكوسة وقد سادت، فالفساد صار ضرباً من ضُروب الفهلوة والشطارة، والإفقار الذي عمَّ القُرى والحضر أشاع الحقد والحسد بين شرائح المجتمع، وقد سادت المشاعر السالبة، فانتشرت الكراهيَّة والشحناء والبغضاء، وانزوى التآزُر والتعاضُد والتعاوُن بين الناس.. هل يستطيع أن يُنكر أحدهم ويقول إن ذلك ليس خصماً على الدين؟! فمَن ذا الذي يشترى ديناً أصبحت للرذيلة فيه دُورٌ مفتوحة أبوابها، تستقبل ما شاء لها من الذين قذفت بهم الأقدار في الأرحام المحرَّمة؟! من ذا الذي يبتاع ديناً يأمر بالمُنكر وينهى عن المعروف؟!
- سادس عشر: لقد أفسد الإسلاميُّون الصِّراع السياسي المُستند على مفاهيم الحريَّة {وَقُلِ الْحَقَّ مِن رَبَّكُمْ فَمنْ شَاءَ فليُؤْمِن ومَن شَاءَ فلْيُكْفُر}[12]، واحترام الرأي الآخر المُختلف: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ولا يَزَالُونَ مُخْتَلِفينَ}[13]، والمُجادلة بالحُسنى {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[14].. لفظوا حتى النُصوص، وجعلوها مجرَّد لافتاتٍ للزينة. أضف إلى ذلك، عبثهم بثقافة التسامُح والتعايُش، أليست تلك هي قيم الدين الذي ادّعوا إتّباعه؟! فما الذي حدث عندما حلت الكارثة؟! على العكس تماماً، فباسم الدين حدثت أكبر وأضخم وأبشع انتهاكات حقوق الإنسان في تاريخ السُّودان.. سُلبت الحريَّات في وضح النهار، وأُقصِيَ الآخر حدَّ الازدراء، ومُورس الإقصاء بغضاً وإكراهاً.
- سابع عشر: مِن المُفارقات أن المُمارسات أعلاه لم تحدُث مع المُعارضين فحسب، وإنما حاق المُكر السيِّئ بأهله، فعندما انقسم الإسلاميون بعد المُفاصلة، شهد الناس ما هو أنكى وأمرَّ بين الطرفين.. بدأت المُشاحنات آنذاك واستمرَّت ردحاً من الزمن، بلُغةٍ ينفر منها الدين نفسه، استخدم فيها الطرفان كلَّ وسائل الدمار الأخلاقي الشامل.. لغة تكلف ناطقها حياته في الدُّول المحترمة.. أنظر على سبيل المثال قول الرئيس المُشير مُوجِّهاً حديثه نحو الدكتور التُرابي: «كنا قايلنو شيخنا، لكن التُرابي يستاهل الضَّبح»[15]، ومدَّ سبابته نحو نحره في إشارة للقتل بالذبح، على طريقة “داعش”.. بالمُقابل، لم يدع الثاني سانحة دون أن يستثمرها في توجيه الغمز واللمز نحو الأوَّل، وفي هذا الصَّدَد كان قد أورد حديث ما سُمِّي بـ“اغتصاب الغرباويَّة” على لسان الأوَّل.. يُعضِّد من كل ذلك شراهة الإسلامويِّين للسُّلطة، وهي المسألة التي وضحت جلياً بعد مُفاصلة عام 1999، فلم يكن الصِّراع يومذاك عقدياً، كما هو الحال بين السُنَّة والشيعة في إطار الدين الواحد، ولكنه كان صراعٌ سياسي بحت، أو بحسب تعبيراتهم، كان صراعاً دُنيوياً!
- ثامن عشر: ليس العُنف الجسدي وحده هُو ما جناه الشعب السُّوداني من حُكم الإسلامويِّين. فقد برع الإسلامويُّون كذلك في استخدام العُنف اللفظي، وصنعوا قاموساً مليئاً بالألفاظ الجَّارحة والبذاءات، تنافسوا في استخدامها وصدَّعوا بها آذان الخلق، وكأنهم في مسابقة لاختيار الأكثر انحطاطاً. فهل ذلك من الدِّين في شيء؟! ويعلم المُؤمنون أن أكثرهم إيماناً، أحسنهُم خُلقاً. أذاً فإلى أي دين ينتمي أصحاب البذاءة الرساليَّة، بدءً من الرئيس المُشير، مُروراً بنافع علي نافع وانتهاءً بمُصطفى عُثمان ومن لفَّ لفَّهُم؟!
- تاسع عشر: في تلخيصٍ جامع، رُبَّ سائلٍ يطرح على أرباب الدولة الدينيَّة سؤالاً بسيطاً عن حصاد ما اقترفت أيديهم؟! وهو السُؤال الذي ظلوا يهرُبون منه ولن يُجيبوا عليه، ولكننا سنجد الإجابة لدى أحد الذين برع في متابعة حركاتهم وسكناتهم وتعريتها.. «حقق أصحاب المشروع الحضاري – قصداً وأحياناً بغير قصد – الإنجاز الأكبر المُشين، وهو إذلالُ الإنسان السُّوداني والحط من كرامته بقصد تأمين التمكين.. فاللجوء إلى التعذيب والقمع والفصل التعسُّفي وجلد النساء ومطاردة الطلاب والشباب، وتحديد الملبس ووقت الإيقاظ، وإنهاء الاحتفالات وكل مظاهر النظام العام.. الخ، كل هذه وسائل تُؤمِّن النظام وتحط من قدر الإنسان السُّوداني، وقد استخدمها أصحاب المشروع الحضاري دون أن ترفَّ أعيُنهم أو يوخزهم ضمير. وفي موازيين المُؤمنين والإنسانيين، لا يوجد أي هدفٍ أو غاية مهما كانت نبيلة ومُقدَّسة يمكن أن يُبرِّر اضطهاد أو احتقار الإنسان لأخيه الإنسان. ومن حق أي نظام أن يحمي أمنه كما يشاء، دون أن يهين الإنسان الذي كرمه الله»[16]، ولكن لمن تعزف مزاميرك يا داؤود؟!
- عشرون: أمَا لسيل هذه الأسئلة التائهة من آخر؟! هذه ملاحظة بعُمق الأزمة التي أدخل فيها الإسلاميُّون السُّودان، وتنطُّعهم بتأسيس دولة ثيوقراطيَّة، ليس لها من سندٍ يُقوِّي شوكتها في الواقع الذي ذكرنا ويعج بالاختلافات. وأكثر ما يدعو للدهشة، افتخار التُرابي بها يوم كان عرَّابها، باعتبارها حُلماً تطلعت له البريَّة في مشارق الأرض ومغاربها، إذ قال: «إنها أوَّل دولة إسلاميَّة بعد انقطاعٍ دام أربعة عشر قرناً»[17]، والغريب في الأمر أن قوله هذا جاء بعد أن انكسر الإناء واندلق اللبن، كما يقولون.. تلك تهويماتٍ ظلَّ يحلق في فضائها حاكماً ومحكوماً، فهل جَلسَ القائل على رماد مُحرقة السُّودان، مثلما فعل “نيرون” مع روما، وشرح للناس أجندة القتل والتعذيب والتنكيل في أجندة الدولة الدينيَّة؟! فالإسلامويُّون مُطالبون بتفسير الفساد في إطار الدولة الدينيَّة.. مُلزمُون بتوضيح آيات الكذب والنفاق والخيانة التي استلوها من القُرآن الكريم، وقالوا للسُّودانيين: لكم دينكم ولنا دين.. هُم مُجبرون على توضيح موقفهم من الآخرة، بعد أن عرف الخلق نواياهم في الدَّنيا.
- حادي وعشرون: زُبدة القول، لن أجد أفضل من التعبير عن سعادتي بهذا الاختراق، فأنا فخورٌ بما توفَّر لي وعجز عنه أصحاب الحَوْلِ والطول.. اختراقان لأعتى الأجهزة الأمنيَّة في دول العالم الثالث، اتَّضح – رغم الإمكانات المهولة – أنهما مجرَّد نمرين من ورق. ولعلَّه بعد أن انكشف المستور وظهرت الهيبة المُصطنعة – كما وصفها غوستاف لوبون في سيكولوجيَّة الجماهير– لن يكون أمام القائمين على أمر “جهاز الأمن الشعبي”، سِوَى عضَّ أصابع الندم على الأموال الطائلة التي أهدروها في تشييد بنائه فوق جماجم أهل السُّودان. ولكن بعد أن يضحك أهل السُّودان من الفرعون وهُو يسير عارياً، ستُبدي الأيام للعُصبة ما يجهلونه في ضآلة الخيارات.. فإما الإقدام ساعتئذٍ على حلِّ الجهاز بعد أن فكَّكناه طوبة طوبة، وإمَّا الإبقاء عليه، بتلك العورة المكشوفة إلى حين حدوث الطامة الكُبرى!
صفوة القول أيضاً، لا بُدَّ من “المُحاسبة”، وإن تعدَّدت مشاريع التسوية، ولا بُدَّ من “المُحاسبة”، وإن تشعَّبت طُرُق الخلاص!
آخر الكلام:
لا بُدَّ مِنَ الدِّيمُقرَاطِيَّة وإن طَالَ السَّفَرْ!
ويَسألُونَكَ عَن المَصَادِر؟!
في مثل هذا النَّمَط مِنَ الكُتُب، غالباً ما يكاد يصرع حُبُّ الاستطلاع القارئ، حتى يكاد يبدو كمن لا حراك له، وهو يروم إجابة شافية تضع الأمور في نصابها، ويضع عينيه على كُلِّ ما يمكن أن يروي غليله حول المصادر التي استقى منها المُؤلف المعلومات الخاصَّة في الكتاب.. بل ويزيد من أوار حُب الاستطلاع، أن الجسم المُختَرق هو جهازُ أمنٍ عتيد، تمرَّس في البطش والتنكيل بمعارضي النظام، ويُعتبر هذا الجهاز رأس الرُّمح فيه، ولطالما اخترق حياة الناس بشتى الوسائل والسُبُل والتي غالباً ما تكون وسائل غير أخلاقيَّة. إذ ليس لديه أي خُطوط حمراء في التفريق بين الخاص والعام، في حين أن الجهاز نفسه يعيش في مأمن، أو هكذا يظن القائمون عليه، فيكون هاجسُهُم الدائم كيفيَّة الإمعان في تحصينه والتكتم على أسراره لدرجة يضجر منها ساكنوه ويضج بها مراقبوه!
يعلم القرَّاء الكرام أنها ليست المرَّة الأولى التي نخترق فيها هذا الجهاز – كما أشرنا – والذي تفنن في اختراق حياة السُّودانيين، مصطحباً معه كل المُوبقات من أفعالٍ وأقوالٍ يندى لها الجبين. وكما ذكرنا آنفاً، فقد حدث الاختراق الأوَّل قبل سنوات، وعُدنا منه بحصيلةٍ كبيرة تُعَدُّ الأخطر، لأن معظم وثائقها كانت تتعلق بأهم قضيَّة واجهت نظام العُصبة الحاكم على المستوى الدولي، وهي قضيَّة المحكمة الجنائيَّة، والتي أحيل لها رأس النظام المُشير عُمَر حَسَن البشير، والفريق أوَّل – الذي تقلَّب في المناصب – عبدالرحيم محمَّد حسين، إلى جانب والي شمال كُردُفان أحمد محمَّد هارون، الذي تباهى بدمويَّته، وشخصٌ رابع مغمور اسمه علي كُوشيب!
يومذاك ارتعدت أوصال بعض قادة النظام مِمَّن كثُرت سيِّئاتهم، وجاء ذكرهم في لوح محفوظ، كما ارتبكت حسابات جهاز الأمن، الذي ظنَّ القائمون على أمره أنهم في بُروج مُشيَّدة بعيدة عن مُتناول المستضعفين في الدولة الأكذوبة. بل لعلَّ الذي فاقم مِن الفضيحة، أن تلك الوثائق خرجت جَزْلى من داخل مكتب رئيس الجهاز السَّابق، الفريق أوَّل أمن مهندس صلاح عبدالله “قوش”، وكان يومذاك يجلس مزهوَّاً على عرش جهاز الأمن، بل وكان الحاكم بأمره من قبل أن تزول دولته ويذهب ريحه. وتبعاً لذلك، فقد عدَّ المراقبون ذلك التسريب ضمن أخطر ما واجه نظام العُصبة طيلة سِنِي حُكمهم التي تجاوزت رُبع القرن!
كنا قد جمعنا تلك الوثائق وأودعناها كتابنا الموسوم بـ “الخندق.. أسرار دولة الفساد والاستبداد”، إلاَّ أن “قوش” غادر موقعه بصورة دراماتيكيَّة قبل صُدُور الكتاب بشهور قلائل. ولعلَّ الذين قرأوا الكتاب، تنبَّأوا له بذات المصير. ولأنه ليس بعد الكُفر ذنبٌ – كما يقولون – فلقد صار الاختراق أمراً عادياً من قِبلِنا كلما أدلهمَّ ليل العُصبة. إذ تكاثرت مرَّاته وتعدَّدت هُويَّاته، وذلك ما شهدت عليه مقالاتنا الرَّاتبة بعد صُدُور الكتاب، والتي لم تخلُ من كشف مستورٍ تكتمت عليه الصُدور وخائنة الأعيُن.
لعلَّه من نافلة القول التأكيد مُجدَّداً على التزامنا الأخلاقي، الذي دأبنا على الحرص عليه مع مصادرنا، بغضِّ النظر عن أنها من المُنتمين للعُصبة، وسواءً خرجت عنها أو ما تزال ترتع في حياضها، فهو التزامٌ استند على عدم كشف اسم المصدر، لا تصريحاً ولا تلميحاً، إلاَّ في حال إذن المصدر بذلك. علماً بأن الإذن هذا يُعَدُّ أمراً نادر الحدوث. وذلك يعود بالطبع إلى طبيعة النظام الديكتاتوري الشُمولي، وممارسات العُنف والقهر والتسلط، وأجواء الترهيب والترعيب والانحطاط الأخلاقي التي هي ديدن الأجهزة الأمنيَّة ووسيلتها في حماية النظام. من أجل كل ذلك، يظل هاجسنا المُؤرِّق هو كيفيَّة الحفاظ على مصادرنا وحمايتها من كُلِّ مكروهٍ مُحتمل!
بالنظر لكُلِّ ذلك، يمكن القول إن هذا المنهج الأخلاقي ساعد في تعضيد ثقة مصادرنا، وهي مصادر تعدَّدت في هذا الكتاب، سَوَاء في هُويَّتها أو مهنيَّتها، أو انحيازها جانب الحق، وربَّما ذلك جاء بعد وخز ضمير مُوجع، والذي غالباً ما يكون نتيجة رُؤية أفعال أو التماس أقوال تنفر منها النفس السويَّة. وبالفعل، سوف يتبيَّن قارئ هذا الكتاب – بمجرَّد الشروع في قراءته – أن جهدنا التوثيقي لم يقم على مصدر واحد، وإنما لكُلِّ تفرُّعاتها وتوزُّعها على قنواتٍ شتى، ذلك ما حدا بنا أن نأمل في مادة دسمةً وجاذبةً تسُرُّ القارئين!
كذلك، يمكن القول إن جهد مصادرنا تراوح – كمَّاً وكيفاً – فلم يكونوا جميعاً على درجة واحدة من العطاء والسَّخاء. أقول ذلك لأكشف عن بعض خفايا ما دار بيني وبين المصدر الأساسي، الذي أذهلني بشدَّة شكيمته وقوَّة إرادته، وفي الرواية بعضُ تشويق وشيء من الإثارة. فلسببٍ لم أدر كنهه، كان أكثر إصراراً على كشف بعض مِمَّا يتعلق بشخصه، وهو غير عابئ بمصير محتمل. ولكني إزاء ما سَبَقَ ذكره، أعرضتُ كثيراً عن ذلك خشية حدوث ما لا يُحمَدَ عُقباه. ومع إصراري على ذلك رضخ، ليس إذعاناً كما قال، ولكن لإدراكه أن نهج العلانيَّة الذي كان قد أزمع إتباعه سيعزله من المجتمع، باعتباره أحد أزلام جهاز مُعتدٍ أثيم!
كنتُ قد ساءلتُ نفسي كثيراً عن ما يُمكن أن يُفسِّر ذاك الإصرار الذي بدا لي غريباً، وعندما استبدَّ بي القلق، سألته بإلحافٍ مُستفسراً عمَّا غَمُض عليَّ فهمه. فأدركتُ أنه إصرارٌ دافعه التطهُّر، بمثل ما جاء في الرسائل الخاصَّة والتي تداولناها وننشُر مقتطفاتٍ منها لاحقاً في فصلٍ قادم، كدليل على ما ذكرت. وفي واقع الأمر، كلنا يعلم – وبالأخص الذين اهتموا بدراسة النفس البشريَّة – إن النفس اللوَّامة (إحدى ثلاثة مستويات بجانب النفس المُطمئنة، والنفس الأمَّارة بالسوء، وفق القول الربَّاني) وهي الكثيرة التقلب والتلوُّن، ولا تستقر على حال، وقد أقسم بها رب العباد {ولا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}[18] حينما تُحاصرها أرواح ضحاياها، يعود الضمير الغائب من رحلة التيه في دياجير الظلام لمُستقرِّه. وتلك خفايا النفس البشريَّة، والتي تبدو مُرهقة لمن يريد سبر غورها، غير أني اقتربتُ منها لأنني آنستُ صِدقاً في مصدري، لعلنّي آتيكم منه بقبسٍ مُنير!
في أعقاب تمنُّعٍ تطاوَلَ من جانبي، حتى كاد أن يصرُف عني مصدري، توجَّهتُ إليه بسُؤال مباشر ومباغت: لماذا اخترتني وخَصَصَتَنِي بهذه الوثائق والمعلومات المُهمَّة؟! وكنتُ قد سألته قطعاً لدابر ظنونٍ تكاثفت، وبعضها يُذكِّرني أن المذكور يُعَدُّ أحد جلاوزة عُصبة تمرَّست على المكر والدهاء والكذب.. فأجابني كممثلٍ أعدَّ نفسه إعداداً جيِّداً لدورٍ ما، وقال بلغة الواثق: «بغضِّ النظر عن كون المعلومات وفيرة أو قليلة، لا بُدَّ أن اعترف بأن كتابك المُسمَّى “الخندق” كان السبب في ذلك»!
تضاعف عندئذٍ اهتمامي، وأثار في نفسي غريزة حُبِّ الاستطلاع، الذي ذكرته في صدارة هذا الجُزء، فاستفسرتُه موضحاً، فقال: «ربَّما لا تعلم مدى الهَلَع والفزع الذي سرى في أروقة الجهاز الرَّسمي، وكذا القلق الذي انتاب قيادات عُرفَت بالشدَّة، بل صَدَرَ تعميمٌ إداري يحظر تداوُل الكتاب، ليس بالنسبة للقراء من عموم الشعب السُّوداني، وإنما بالنسبة للعاملين بداخل الجهازين، وبخاصة صغار الرُتب مِمَّن يتسنَّمون مواقع قياديَّة. وذلك نظراً لهشاشة وسُرعة تأثرهم بمثل هذه الأشياء».. وأضاف: «ولكن على عكس الحظر الذي توخَّاه المرسوم الإداري، فقد كنتُ أنا واحداً منهم»!
أضاف قائلاً: «لكن يجب أن أكون أكثر دقة، لم يكن “الخندق” وحده الذي حرَّضني، فبعد أن قرأتُ هذا الكتاب، ثمَّة مقال مُعيَّن قرأته لك بعد الكتاب، ظلَّ هذا المقال يطاردني في صحوي ومنامي.. كنتُ أشعر بأنه أيقظ في نفسي شيئاً معيَّناً لطالما قمعتُهُ كلما أطلَّ برأسه وأراد الخروج للعلن. ذلك الشيء كان ضميري. عِشتُ أياماً بل شهوراً عصيبة، كنتُ أرى نظرات ضحايا تثقب جسدي كله حتى صار كالغربال. لا أجد في النوم متعة، فغالباً ما أصحو على كوابيس تبدِّد عليَّ راحتي.. كان من الصعب أن اشرح الأمر لأي كائنٍ كان مِمَّن أعتبرهم أصدقائي، أمَّا زُملائي فذاك في حُكم المستحيل. إذ إن البوح بمثل هذه المشاعر يُعتبر خُنوعاً واستسلاماً وانهزاماً معروفة عواقبه»!
في واقع الأمر، يصعُب عليَّ أن أقول إن ما قاله مصدري حرَّك في نفسي شيئاً. وذلك نظراً لمُسبِّبات كثيرة، لا أعتقد أنها يمكن أن تغيب عن ذهن القارئ، أو ترهقه مراراً، فضلاً عن ما قاله اعتدتُ سماعه من آخرين لم يكونوا في نفير السُّلطة ولا عير مُعارضيها. ولكن فجأة تغيَّر المشهد تماماً، وتداعيت على عكس ما وطَّنت نفسي على اللامبالاة والتمرُّس على الصُمود. حدث ذلك في لحظة إنسانيَّة نادرة، سَكَن فيها كل شيء عدا الكلام المُباح، وبدا أن ثمَّة صوت أتٍ من بئر عميقة وكأنه يستغيث!
قال: «قرَّرتُ الهُروب، فأنت قد لا تعلم أن ما يُسمَّى بالاستقالة في عمل جهاز الأمن أمراً دونه خرط القتاد، وحتى إن حدثت لأسبابٍ قاهرة يقوم بسردها الكادر المُستقِيل، فإنها تمُرُّ بتعقيداتٍ كثيرة، وتتطلب زمناً ليس بالقصير، ولذلك فكَّرتُ في حيلة أهرب بها. وقد نجحت ابتداءً، ولم أجد من أمري عسراً في الوصول للقاهرة، إذ تسنَّى لي ذلك تحت غطاء السَّفر مع والدي للعلاج.. بعدها عاد والدي إلى السُّودان وقد أخفيتُ عنه ما عزمتُ عليه. ولا أخفي عليك، فقد نازعتني نفسي في المحطة الأولى تلك، باللجوء إلى سفارة أي دولة، ومن المُؤكد أن حجم الأسرار التي بحوزتي سيجعل أي سفارة لا تتردَّد في منحي ما أريد فوراً! ولم يكُن ما أريد سوى اللجوء السياسي»!
أضاف: «كدتُ أن أفعل ذلك، ولكن سُرعان ما صرفتُ النظر عن الفكرة، ليس لأي مُوازنات بين الخيانة والوطنيَّة كما يتوارد للذهن، فأنا لا ادَّعى الطهارة ولا المُزايدة في السبيلين. وعليه أؤكد لك بكُلِّ صدقٍ، لم يكن ما ذكرتُ ضمن مُعادلاتي، ولكن لإدراكي أن السفارة – أي سفارة – لن تفعل ما عزمتُ عليه، وهو نشر المعلومات والوثائق التي بحوزتي على عموم الشعب السُّوداني. وهي الغاية التي أسعى إليها ربَّما من باب تطهير النفس مِمَّا اقترفت يدانا، وليس من باب التبرير، فسيَّان إن كانت الأفعال المُقترفة بوعيٍ أو بانقيادٍ تامٍ تنفيذاً لتعليمات لا سبيل لرفضها أو التمرُّد عليها. على كُلٍ، قلتُ لنفسي إن كل ذلك يتوقف على الوصول لمكانٍ آمن، ولكن كيف السبيل؟!»..
سأل مصدري وأجاب، أمَّا أنا، فقد أرهفتُ السَّمع وكأنني أشاهد فيلماً من أفلام “الجاسوسية” تجري وقائعه المثيرة أمام ناظري. أردف قائلاً: «صرفتُ النظر تماماً عن فكرة تسليم نفسي لسفارة، أياً كانت جنسيَّتها. وفي لحظة تنازُع بين الأمل والرَّجاء قرَّرتُ المُخاطرة التي اعتدتُ عليها أصلاً في عملي الأمني. فعزمتُ على السَّفر إلى بقعةٍ ملتهبة يتحاشى الناس دُخولها في الظروف التي تعيشها الآن، وأقنعتُ نفسي بأن خروجي أصلاً من جحيم سيهوِّن عليَّ أي جحيم مُحتمل. ووصلتُ إلى ذاك البلد الجحيم.. ليبيا، عبر رحلة شاقة لم اكترث لرهقها ولم أقلق لما هو آتٍ»!
تابع قائلاً: «كان اختياري ووصولي إلى ليبيا مقصودٌ في حدِّ ذاته، رغم علمي بالجحيم الذي تعيش فيه، وكانت بالفعل كذلك. بدأتُ البحث عمَن يُطلق عليهم “تُجَّار البشر” وذلك بهدف الوصول إلى أوروبا.. لم أتعب كثيراً في البحث عنهم، إذ يبدو أن المُغامرين مثلي كُثُر في هذه الدُنيا. لم يكن المال الذي بحوزتي كثيراً وأنا الذي كانت تجري بين يدي الملايين بلا حسيب أو رقيب. قبلتُ العرض الوحيد الذي علمتُه من السابقين، ولم يذكره بل لن يذكره لك أولئك القراصنة، فالسابقون يقولون لك إن السفر تتناصفه فرص الحياة والموت. أي إما وصلت إلى هدفك سالماً وغانماً روحك، أو حدث ما لا يُحمد عُقباه ويكون الماء قبرك وطعاماً للحيتان»!
أضاف: «بدأت المُعاناة مُنذُ وصولنا البلدة الليبيَّة الحُدوديَّة مع مصر، حيث احتجزونا في مخزن، قد يطول فيه بقاؤك أو يقصُر، وكانوا يمنحوننا وجبة واحدة لا تغني ولا تُسمن من جوع. وبعدها استقللنا سيارة نقل مكشوفة “بوكس” شُحنت أكثر من حُمولتها، بعض من سَقط تُرك ولم يُنتبه له.. عبرت بنا طريقاً صحراوياً من الشرق إلى منطقة قرب الحدود التونسيَّة غرب البلاد.. كنا نتوقف في كُلِّ منطقة، أحياناً لأيام بغرض عمل ترتيباتٍ مُعيَّنة، فلكُلِّ مدينة ليبيَّة قوانين خاصَّة بها. واقع الأمر، لا توجد سُلطة غير سلطة السِّلاح، وهو الوحيد الأكثر وفرة وتجده أينما حللت. والليبيون الأدلاء يُمارسون سطوة وقسوة وسُخرة مستفزَّة، لكن لا أحد يحتجَّ لأن العواقب معروفة، وكانوا صغاراً في السن، كأنهم يستلذون بما يفعلون، فتذكرتُ ما كان قومي يفعلون أيضاً»!
تابع قائلاً: «كانت المُعاناة تتفاقم يوماً إثر يوم.. الأوضاع المعيشيَّة والصحيَّة تزداد سوءً، كثيرون ماتوا نتيجة ذلك، أو جرَّاء نقاشٍ بسيط مع أحد التُجَّار، لا يتوانى أن يستخدم فيه الرصاص، حيث لا أحد يُحاسب أحداً على القتل المجَّاني. وصلنا تلك المنطقة الحدوديَّة بشقِّ الأنفس، ولم يكُن الحال بأفضل من سابقه. كان المُعسكر عبارة عن سجن قديم مهجور، يحتوي على حوالي سبعة أو ثمانية صالات كبيرة، وفي كل صالة حُشر بين ثلاثمائة إلى أربعمائة فرد، وفرضوا أن تكون كل جنسيَّة لوحدها خشية المشاكل. وعلمنا هناك أنه يمكن أن يطول بقاءك، وقد تجد فرصة في المركب القادم.. كان السُّودانيون الموجودون من جميع مناطق السُّودان بدون استثناء، ويمتهنون وظائف مختلفة، بينهم الطبيب والمهندس والمُدرِّس والعامل والعاطل، كان عددنا قد تجاوز الألف شخص، معظمهم شباب من جميع الأعمار، وبينهم أسر تضُم الأم والأب وأطفالهم، إحداهُن وضعت أثناء وجودنا في ذاك المعسكر»!
«مات الكثيرون، سواء في ذاك المكان البائس أو في أثناء الطريق، وبأسباب شتى.. خُصِّص يومان للمركب التي يحملون فيها البشر، هُما: الجمعة والاثنين.. كانت هناك مركب غادرت قبلنا ولأسبابٍ أجهلها غرقت وعلى متنها أكثر من ثلاثمائة شخص، معظمهم من السُّودانيين. بالطبع لم يُحدِّثنا أحداً عن ذلك، فقد رأينا بأم أعيننا موج البحر يقذف بالجثث على الشاطئ، وكان بيننا وبين الشاطئ “سلك شائك” حيث لا يُسمح لأحد بتجاوزه.. اعتصرني الألم الشديد، ولا يدري المرء هل يهتم بنفسه أم بالآخرين.. عرفتُ معنى كل شيء.. المُعاناة والجوع والعطش والموت والقهر والخوف والأمل.. كان إحساسُ اليأس والقنوط مسيطراً على الجميع، الكُل يتمنى أن تنتهي تلك المُعاناة بأي وجه من الوجوه. وعلى الرغم من رُؤية الجُثث الطافية، فليس أمام المرء من سبيلٍ سوى المُضِي قُدُماً، نحو البحر الذي أمامنا، أو البقاء في خِضَمِّ ذلك الواقع المُؤلم»!
عندما دخل السرد تلك البقعة الجُهنميَّة، لاحظتُ تغيُّراً في طبقات صوت مصدري، وحسبتُ أن ذلك من فرط ما جرى، ويعيد عليَّ وقائعه بثقة زائدة، ولكني أدركتُ أنه جرَّاء تلاشي الخيارات لنفسٍ نجت من خيارٍ مُر لتواجه خياراً أمرَّ منه. فأضاف قائلاً: «كُنتُ أصلاً أحمل حقيبة صغيرة، تحتوي على القليل من ملابسي وأغراضي الضروريَّة، لم يكن ذلك زُهداً وإنما واقع فرضته ضرورات الرحلة. غير أني أضفتُ لحاجياتي تلك شيئاً بعد أن قبلت بالشروط. إذ اشتريتُ كفناً جديداً، وكان عبارة عن قطعة بيضاء من القُماش وضعتُها في تلك الحقيبة تحسُّباً لما يمكن أن يحدُث مثلما ذكروا»!
«ركبنا المرَكِب المُعَد.. أجناس مُتفرِّقون يكاد المرء يجزم أنهم من جميع أنحاء العالم، عددُهم يتراوح بين الأربعمائة أو الخُمسمائة شخص. كان القلق سيِّد الموقف في الرحلة، فالرحلة اكتنفها الغُموض، لا ترى فيها شيئاً على امتداد البصر سوى ماء يحيط بك من اتجاه، والموت يُحدِّق فوق صارية المركب كأنه يتربَّص بنا. كنتُ أشغلُ نفسي أحياناً بالتفرُّس في تلك الوُجوه المُتعبة كخيول السباق، وأحاول من باب تبديد الوقت والقلق معاً، أن استشف ما يعتمل في صُدُورها، وما يجري في عُقُولها.. تارةً أغوصُ داخل ذاتي وأعزِّي نفسي بمُستقبلٍ باهر أحلم به، بعد أن تخلصتُ من آثام الطاغوت، وتارة أخرى أهربُ بخيالي إلى بلدٍ تركته خلفي وأهلٌ لا يعلمون عن أمري شيئاً»!
«على هذا المنوال تعاقب علينا ليلٌ ونهار، وكلاهُما كانا كعُملة بوجهين باهتين لا فرق بينهما. كانت أجمل اللحظات في خِضَمِّ ما نحنُ فيه تائهون، ظهور علاماتٍ تدُل على بلوغنا اليابسة. حلَّقت فوق رُؤوسنا طائرة مروحيَّة بدَّدت القلق المُسيطر على النُفوس، بدأت الوجوه رحلة الحُبور والانطلاق نحو مرافئ جديدة. وصلنا المياه الإقليميَّة الإيطاليَّة، وقادت دوريَّة حرس الحُدود مركبنا نحو سفينة ضخمة، أفرغت فيها حمولتنا بكُلِّ ما احتوتها من تفاصيل مُرهقة.. نجونا من البحر وحيتانه، وقذفتُ بكُلِّ أوزاري السابقة في الماء، فشعرتُ براحة عميقة. باختصار، لن يخلُ بسيناريو يعلمه حتى الذين لم يركبوا البحر مثلنا، كانت تلك تجربة فريدة، لا أظنُّ أنني سأعيدها إن خُيِّرت. كثيرون أصبحوا نُزلاء مستشفيات الطب النفسي في عدَّة دُولٍ أوروبيَّة، ومنهم مَن أعرف.. أما أنا، فقد استطعتُ أن أفلت منها، ومن معسكراتٍ يُحشرُ فيها الهاربون حشراً، ثمَّ أصبح الطريق مُمهَّداً للتوغُّل داخل أوروبا، حيث تزداد الفُرص الآمنة وحياة جديدة»!
«آنذاك، سيطرت عليَّ مشاعر شتى، ترواحت بين السَّعادة بسلامة الوصول والقلق من حياة قادمة لا أعرف كنهها. لكن كُلَّ هذه التناقُضات كانت تتناقصُ يوماً إثر يوم، وأنا أتنقل بحقيبتي الصغيرة من بلدٍ إلى آخر في أوروبا، غير مبالٍ ببردها الذي تموت جرَّائه الحيتان، كما قال الأديب الرَّاحل الطيِّب صالح.. تنقلتُ إلى أن وصلتُ البلد الذي أعيش فيه الآن، وبدأتُ سُبُل الاستقرار، مُؤمِّلاً النفس بحياةٍ جديدة ترمى خلفها حياة خاملة ليس فيها ما يُحرِّض على الذكرى. أشعُرُ حقيقة أنني كمن وُلِدَ من جديد، فالمُعاملة التي وجدتُها من مواطني هذا البلد أحيت في نفسي مشاعر إنسانيَّة وأدها عملي في جهاز الأمن.. أنعمُ بالحريَّة، وأكاد استنشق عبقها في كل لحظة.. لم أنفكَّ من عَقد سَيْل المُقارنات التي تُداهمني أينما حللتُ وحيثما ذهبت. تناقضاتٍ تُشعرني بالحُزن كلما نظرتُ خلفي بغضب»!
واصل مصدري قائلاً: «أدركتُ منذ البداية أن حياتي لن تستقيم ما لم أتخلَّص من ذاك العبء الذي حملته معي.. أدركتُ أن أي مكان آمن يستمد أمانه من أماننا النفسي.. كانت البداية المُبشِّرة أن تلك الكوابيس والأحلام المُزعجة التي أقلقت عليَّ منامي قد فارقتني، وصارت لا تزورني إلاَّ لماماً، وإن حَدَثَ، فسُرعان ما تنأى عني.. قلتُ لنفسي: يجب أن أتخلص من تلك الآثام حتى استطيع أن أعيش حياة جديدة وهادئة ومستقرَّة. وكانت الإجابة عندي حاضرة، فمُنذُ أن وطأت قدَمَيَّ أرض المحطة الأولى بعد مُفارقتي السُّودان، ومُنذُ أن حسمتُ موقفي بعدم اللجوء إلى أي سفارة مثلما ذكرت، كان الخيار أمامي واضحاً، وهو كيفيَّة تسليمك هذه الوثائق والمعلومات، وبالتالي من قبل أن تستقر أوضاعي في هذا البلد بادرتُ بالاتصال بك»!
نعم، بادر مصدري بالاتصال بذاك الإلحاح الذي تجاهلتُهُ – كما ذكرت.. عاود الكَرَّة مُثنى وثلاث ورُباع، إلى أن مضينا رُويداً رويدا نحو غايتنا هذه.. كانت بالفعل رحلة قد تبدو مُختصرة لقارئها على الورق، ولكنها طويلة بحسابات القلق ومُعادلات التحقق وسُبُل اليقين والاطمئنان. كان ذلك طبيعياً، فالقضيَّة التي نتحلق حولها لا تتعلق بشخص، وإنما تراكُمات تساهم في تبيان مصير أمَّة جعلتها الديكتاتوريَّات تقف على مُفترق الطُرُق بين أن تكون أو لا تكون.. لهذا، فلا غُرُوَّ أن نال الحديث عن الصِّدق والشفافيَّة والأمانة مساحاته المرجُوَّة. وبالطبع، فإن في مثل هذه المواقف، تطل دائماً من بين الرِّكام تلك المُعادلات التي تقحم نفسها عُنوة فيما نحن فيه غارقون!
أخيراً وليس آخر، أفرغ مصدرنا ما في جُعبته من معلومات، وأفرغ ما في حقيبته قطعة بحجم الأصبع، ولدت وثائق ?
استيقظ ضميره من ثباتٍ عميق!
سبات سبات سبات يا متنطع !
الحقيقه المره ان الاخوان منبع اسلامهم شيعى و الاغلبيه العظمى لا يدرون ذلك و لذلك كفروا المجتمع المسلم السنى و استباحوا ماله و عرضه كما فعل الصفويين فى ايران ذبحوا مليون مسلم سنى و الى الان الاضهاد فى ايران للسنه كم فعل الاخوان فى السودان و حتى تجد الفرق الاخرى الاسلاميه فى السودان خلفيتها شيعيه ولاية الفقيه و المهدى المنتظر و السنه ليس لديهم مهدى منتظر . الحاضنه للدواعش لهم الازهر الذى اسسه الفاطميون لما حكموا مصر و هم شيعه و لذلك كل التكفريين خرجوا من الازهر من امثال سيد قطب و حتى كان عام 1928 التقى الخمينى بحسن البنى و تم الاتفاق فى توحيد الدعوة و لكن الاخوان لا يسبون الصحابه علنا او تقول ما يسمى بالدسم المسموم و الخلفيه للكوز نشا فى مجتمع مسلم صوفى و حتى لو درست منبع الصوفيه فى السودان من العراق و المغرب و لذلك ظهر عندنا الشيخ صاحب الكرامات الخارقه للعاده لا تجدها حتى فى صحابة رسول الله من الاقطاب الاربعه الذين يمسكون الكره الارضيه و الحضرة النبويه و هو اجتماع يحضره الاقطاب الاربعه و الله سبحانه و تعالى و الرسول (ص) و هذا عمل شيطانى و كفر و شرك بالله من خلال قصائد المديح مصر المؤمنه باهل الله و الله سبحانه و تعالى الوحيد الذى يؤمن مصر و ليس الاولياء و حديث ابن عباس لما الرسول (ص) لما وصاه لو اجتمع كل الناس ليضروك لن يفلحوا الا بما كتبه الله عليك – و الشيخ الذى يطير و يصلى فى مكه و هو يعيش فى السودان و المشكله انت احيانا لا تتقبلها بالمنطق و لكن لا تستطيع ان تجهر بذلك فى مجتمع هذه اعتقاداته فى مجتمع يفتكر انو شيخه سوف يدخله الجنه كان الجنه حفت ابوه يمترها بنفسه و لمريديه.الاخوان لما وصلوا الى السلطه لو الناس بتذكر كويس كل كوادرهم التى عملت فى جهاز الامن من ناس نافع ز غيره تم تدريبهم فى ايران لاستخدام العنف و اضهاد المسلم السنى و هى ليست علنا و لكن هذا هو الواقع و دعمتهم ايران ماليا و تدريبات و برامج حتى لو تذكروا ادخلوا برنامج العرس الجماعى الذى يرعاه الرئيس الايرانى فى ذلك الوقت
رافسنجانى . الله حرم قتل المسلم الا بالحق و لكن نجد فى السودان الانسان ليس له اى قيمه دمه كدم طيره عند الاجهزة الامنيه و اقسام اغتصاب و اقسام قتل للمعارضين . الله سبحانه و تعالى لما عاقب فرعون موسى قال ( فرعون و جنوده ) لانو جنوده هى الايادى التى يبطش بها و يوم القيامه يحاسب افراد جهاز الامن كما تم معافبة جنود فرعون فى الدنيا و جهل كبير جدا بين افراد الجهاز يفتكرون انهم غير محاسبين امام الله على هذه الداء الى تم سفكها باياديهم لا يا عزيزى ما دامت سفكت بدون قانون و بدون محكمه انت القاتل يابتاع الجهاز مع كل منظومتك الحاكمه تسالون يوم القيامه عن ذلك عن تلك الارواح و البعض فى الجهاز يتشفى فى السودانيين فى معتقلات الجهاز حتى يظهر لرفاقه انه اصعب واحد و هذا عدم الايمان بالله و ضعف تربيتهم الاسلاميه و قد يكون الواحد لا دين له و انما ذئب متخفى بعباءة الاسلام و اغلبهم .يا نافع عرفت لحس الكوع الذى كنت تتشدق به فى الاعلام على الشعب السودانى و الان انت مرمى فى السجن زيك و زى اى حرامى منبوذ . و الله حكمه الاهيه اول محكمه تشكل للبشير فى حيازة فلوس منهوبه و لو كان البشير يفهم لعرف انه قتل انسان فى حر ماله و اخذوه من خزنته و هى ورثه لم توزع و لكن الله فضحه بان اصبح سارق لحفنة ملايين رغم يملك المليارات المهربه …
احسنت والله وصف دقيق جدا