أبو الريش

أبو الريش
مرغني عبدالله مالك الشايب
لا نعرف أسمه ومكان وتاريخ ميلاده. فهذه وقائع خارج دائرة إهتمام أهل البيت الذي يعمل فيه أبو الريش، والحي الذي نسكن فيه، والأحياء المجاورة في المدينة. ولا تلح علينا أي رغبة في معرفة ذلك وتفاصيل حياته ولا تغني شيئا بحكم وضعه الإجتماعي والطبقي على خلاف اللذين يتسيدون الحياة ويعيشون بزخم أجوف تضعه صدارةً جلها مصطنع ومزيف. لا أعرف الظروف التي قادت أبو الريش للعمل في ذلك المنزل خادماً أو تاريخ ذلك، فهو لا يحمل بطاقة هوية أو شهادة ميلاد أو جنسية رغم أنه أكثر سودانية من كل اللذين حوله. هذه أيضاً تفاصيل لا يأبه بها أحد، لكنهم يأبهون بتفاصيل مزيفي الهويات ومخترعيها. فتحنا عيوننا بوعي نزق وشقى وأبو الريش قابع في ذلك المنزل يعمل ويشقى كجمل العصارة، ويكد بحماس وهمة لا أعرف مدى صدقيتهما كما يوسوس لي وعي اللعين أحياناً. يفيض حماس أبو الريش، ويهدي رب المنزل خدماته للجيران في الأعياد والمناسبات الخاصة فيعود مجهداً مكدوداً حينما يعلو نقيق الضفادع في فولة الحي الذي نسكن فيه، وهو فولة تتنازعها ثلاثة أسماء فولة الحلب، فولة العمدة الزين عبيد وفولة الخريجين لقربها من نادي الخريجين، لكن الأكثر شيوعاً فولة الحلب لكثرتهم في زمن بهى قد مضى وولى مدبراً دون بارقة أمل باياب.
لم يسمع أحد أبو الريش يتحدث عن والد أو والدة أو أسرة خاصة به أو قريته التي هاجر منها (هل هاجر أم جئ به عنوة مهجراً).
لا نعرف قبيلته أو عرقه أو جهته (بحكم الثقافة المهيمنة) لكن ملامحه تؤكد بشكل قاطع أفريقية سوادنيته القحة ولا تشي بغير ذلك منعاً للتأويل وسوء الالتباس، وهذه ثقافة ما قبل دولة المواطنة والدولة المدنية التي نناضل ونحلم بها ودون ذلك خرط القتاد لنتجاوز لون زيب وخاطف لونين واللون الخمري والتحايل بتلاوين وتعميات لونية لمخاتلة الذات وخداعها، والإلتفاف على البشرة السوداء والقفز فوقها. وهذا يعبر عن هوية متشظية ومأزومة، والإصطفاف الهش والرخو خلف هوية مصطنعة.
*تغافلت عامداً إعمال وتطبيق بعض قواعد النحو في إعراب إسم “أبو الريش” والخاصة بإعراب الأسماء الخمسة (الواو، الألف والياء) في حالات الرفع والنصب والجر وذلك للحفاظ على زخم الأسم وعنفوانه وإيقاعه.
لانعرف شيئاً عن طفولته التي تفاخر كثرة بطفولتها لما يرافقها من شغب ونذر مراهقة وذكريات حميمة. ويبدو أن ظروفه وحضوره المبكر للمدينة أجبره على نسيانها وحرق مراحلها بعد أن أورثه العمل في ذلك البيت العتيق شعوراً بالخجل من إستدعاء ماضيه، ورغبة جامحة في الهروب منه وإنكاره إن كان لذلك سبيلاً. وما عزز الرغبة في الهروب والإنكار أن اللغة المحكية بين أهل البيت والجيران وما تحمله من مفردات وتراكيب أجبرته على تنحية لغته رغم عراقتها لأنها غير متداولة في ذلك الوسط، ولا أحد يفهمها و قد فرض عليه العمل الجديد في البيت العتيق تحدياً صعباً ومهمة شاقة، وهي أن يحسن التركيز والإصغاء لحوارات ومشاجرات ومغالظات اللغة المحكية لالتقاط مفردات تؤهله الدخول في ذلك المحفل، وهي إحدى وسائل كسب الرزق وفهم المطلوب منه إذ لاتكفي يداه وقوة بنيته لإنجاز العمل رغم أن لغة الإشارة تسعف أحياناً. كما أن معرفة هذه اللغة الجديدة تمنحه قدراً من إعتراف الآخر به، والإنهيار التدريجي لحواجز العزل الإجتماعي وتعيد تموضعه هوياتياً وتوطينه إجتماعياً ضمن تلك البيئة. وإتقان اللغة الجديدة يتيح له التواصل مع مهجرين آخرين في السوق، والأماكن العامة، لأن ذلك يخفف من غلواء غربته وكلهم في الغربة شرق وهي اللغة الوحيدة المتاحة للتواصل والحوار. سألني شقيقي يوماً عن معنى إسم أبو الريش وكأنما إدرك بقريحته الإجتماعية أن معنى إسم أبو الريش إسم مستجلب وطارئ وليس أسماً أصيلاً، فاسقط في يدي ولم أحر جواباً.
حتى جدتي الطاعنة في السن لا تعرف إسمه الحقيقي، وتؤكد بصورة قاطعة أن لا أحد يعرف أسمه الحقيقي، وأن إسم أبو الريش “خايل عليه” وكأنها تعني شن وافق طبقه.
في ذلك الزمن لم يكن نساء الحي يسرن في منتصف الطريق، وإنما ينتبذن جوانبه القصية ليخلو ساحة يتضرع ويختال فيها “الرجال” غدواً ورواحاً، ويسدلن الطرف العلوي من الثوب حجاباً للوجوه رغم عيونهن اللاقطة الثاقبة التي ترى من يتضرع ومن يتبرج. هؤلاء النسوة كن يتحجبن أو يتنقبن حسبما يقتضيه الوضع الإجتماعي عند دخول الرجال عليهن إلا أن أبو الريش كان ينفرد بإمتياز النظر اليهن ملياً دون حجاب أو نقاب، يمتح و يمتع نفسه بحلاوة المنظر و روعة المظهر.
حينما إستوطن أبو الريش ردحاً من الزمن في الحي وعرف الأحياء والشوارع والأزقة الأخرى والحيوات التي تهجس بها، وبمساعدة مهاجرين آخرين، قادته قدماه إلى الأنداية وتحديداً منزل كنتوشة. إجتذبهما ذلك الإحساس بالغربة ووحد بينهما الشعور بالتهجير. أخيراً إهتدى إلى مكان يخفف عليه وطأة التغريب والتي كان معناها في ذهنه مشوش وملتبس. يدفن أحزانه وإحباطاته في “دولنق المريسة” وتنفرج أساريره وتتورد وجنتاه (هذا تحذلق وتنطع لفظي من إضافات اللغة المترفة والمتعالية)، بعد أن إكتشف عالماً جديداً مبهجاً و مفرحاً بدأ يستعيد فيه جزءاً من إنسانيته الضائعة والمستلبة. بادلته كنتوشة نفس المشاعر، ووداً بود، وإتفقا على زواج لم يتحقق حتى رحيل أبو الريش من هذه الدنيا الغامرة.
في طريق عودته من منزل كنتوشة، شوهد فرحاً جذلا ويضحك بشكل مختلس، ويلفت الإنتباه لطريقة مشيته ورجلاه تتداخلان وجسمه متمايل. قابل أهل المنزل والحي الأمر في بدايته بالإستهجان وردود فعل متفاوتة، ثم إستكانوا للأمر بعد إستهجان خجول وغضب ناعم لأن الأمر في جوهره شائع في ذلك الزمن. في شوارع المدينة وأحيائها لا فرق بين إحمرار البشرة وسوادها وإصفرارها، وقد أقاموا للشراب أمكنة تحتفى به ضمن أنشطة أخرى كالمكتبة القبطية والنادي السوري والنادي الإغريقي ونادي البنوك، وطه البلك ومحلات تتوسط خاصرة المدينة “أبو ثلاثة نجوم، نيكولا أنطوناكس وأولاد أبو ديك”، حيث يختلط الحابل بالنابل في نسق جميل وبديع.
يحل الخريف بكل شيء حتى أصبح للعمر خريفه، والخريف في كردفان هائج ومائج، ومرحباً به في غبطة وحبور، وله دعاش عبق فواح، وخيره “بره” ولكردفان “غرة”. أما خريف العمر فمختلف ومذاقه حارق وجارح، وله نبرة حزينة و “مناحية”. ولخريف عمر أبو الريش طعم ممض ودامٍ. إستفاقوا للأمر بشكل مباغت وصادم، وصعب عليهم إستيعابه في البداية. الهزيع الأخير. خرت القوى وتهدل الوجه ، وتباطأت الحركة وتثاقلت. غسيل الملابس ونظافة الحوش المترامى الأطراف تستغرق أياماً، وفي عمره النضر والفتى لا يعدو الأمر ساعات. إستعانوا ببنات المويلح اللذين قذفت بهم المجاعة لجوف المدينة السحيق. لكنهم لم يكونوا في فتوة أبو الريش وعطائه حسب فهمهم لمعنى العطاء. بمرور الوقت أصبح أبو الريش عبئاً عليهم بعد أن كان عطاءاً ذاخراً وسخياً في ربيع عمره. داهمت بعضهم فكرة عودة أبو الريش الطوعية (القسرية) لأهله وقريته.
أي أهل وأي قرية، وهو منبت الجذور ومتصرم الوشائج. لا أحد منهم يعرف قريته أو المنطقة التي وفد منها. كائن عشوائي وطارئ. ولمن يعود هو، لا أهل ولا وطن. فقد إستطاب له المقام في الحي وفي مدينة الأبيض، وأصبحت وطنه وملاذه الأمن. ومن حوله عشيرته التي لايعرف سواها، وبها إرتبط إرتباطاً وثيقاً لافكاك منه أو مناص.
لو أخلى سبيله، إلى أين يذهب والأبيض عالمه الوحيد ولا يعرف أو يتصور أن هنالك عالماً آخراً سواه. “أخلى سبيله” أو عبارة أخرى مشابهة متبوعة بكلمة “حرية” إخترقت أذنه وألجمته الصمت والذهول. من قال أنه محبوس. إنه يعشق هذا الأسر ويستنيم له طيبَ مقام ويلتحم به دون فصام إقامة جبرية خير من عودة قسرية أو جبرية. لا يعلم إن كان هنالك من يشتاق أو يتحرق شوقاً لرؤيته خارج عالمه.
لم يفد خريف العمر لوحده. جاء مصحوباً بالأدواء والإسقام التي بدأت تنتاشه من كل حدب وصوب. حينما إنهارت قواه دخل في حمى الهلوسة وكائنات شبحية وطيفية تأتيه ملحة من ماض سحيق وغابر. يظهر الوالدان بين الفينة والأخرى، وأطفال صغار كأضغاث أحلام تزوره في الصحو والظلام كأنها حمى المتنبى. إنتابه وسواس ملح و ضاغط أن له أسرة وعشيرة في مكان قصى خارج عالم هذه المدينة الذي تجذر فيه وتماهى معه وإرتبط بارضه لا ينشد منها فطاماً. مع الحمى زادت وتيرة الهذيان وأرتفع منسوب الهلوسة. رحل أبو الريش في الهزيع الأخير. رحل في الليل “وحيداً ضائعاً منفرداً”**
ميرغني عبدالله مالك (شايب)
7/10/2012
** مقطع من قصيدة عبد الرحيم أبو ذكرى “الرحيل في الليل”.
هكذا حال الدنيا ..اخي ميرغني
يا سلام حاجه تعجب
اخانا الأكبر وأستاذنا ميرغى الشايب
لك التحية ومنعك الله بالعافيةوالصحة
وأنت تستدعى زاكرة وقادة أعادتنا الى شوارع وازقة منبتنا ومنشأنا بسرديتك الراقية الجميلة التى تتقلب فى مجتمع الابيض الذى احتوى كل عرق وجنس وقولبه أبيضا خالصا ونموذج ابو الريش يتفرع فى هذه الفسيفساء المجتمعية المنظومة بعانية و مثل زاكرتك وكتاباتك حق علينا أن نضيىء ماضيها لتستدرجنا جميعا أبناء الأبيض للبوح والحكى والذكريات ولك مودتى
أخوك بشرى مكى