مقالات وآراء

السودان بين تنظيمين..!!

خالد أبوأحمد

لا زالت هناك الكثير من الحقائق لا يعرفها الناس عن النظام الذي حكم بلادنا العزيزة ثلاثة عقود من الزمان، هذه الحقائق لم يعرفها الناس نسبة لتكوين وطبيعة هذا الكيان، الذي لم يكن يحكُم بمؤسسات الدولة والقانون وقد كانت القرارات التي تسّير دولاب الدولة اليومي تخرج من دهاليز و(جخانين) سواء كانت مقرات تنظيمية عبارة عن عمارات أو ما يعرف لدى الجماعة بالبيوت (الآمنة) التي تخصص للاجتماعات التنظيمية فقط، وليس للسكن ولهم فيها مآرب (أخرى)..!

في فترة من الفترات كنت أتساءل في نفسي..كيف أن شخصا مثل إبراهيم السنوسي كان مسوؤلا عن الأجهزة الأمنية، يدير العمل من مكتب خاص خارج نطاق العمل الرسمي..؟!، وشخص مثل عوض الجاز في فترة من الفترات مسوؤلا عن المؤسسات العسكرية من حيث التمويل والإعداد والتجهيز يدير هذا العمل من مكتب خاص، ليس له علاقة بالمؤسسة العسكرية..؟!

وكيف لشخص ما كان مسوؤلا عن أمن جنوب السودان كله يدير العمل من خلال شركة، وهكذا الكثير من المؤسسات الرسمية والمهمة تدار من خلف الكواليس..!

حتى الشخص الذي دبّر أمر انقلاب يونيو 1989م كان مدنيا وليس عسكريا، بل كل الفريق الذي أشرف على تنفيذ الانقلاب على الأرض لحظة بلحظة كان مدنيا مع مجموعة قليلة جدا من العسكريين، لا تسمعوا جعجعة وأكاذيب عمر البشير عن ليلة الانقلاب ودوره فيها، هم 350 شاب ارتدوا ملابس عدد من الوحدات العسكرية وبواسطة عناصر داخلية استلموا الوحدات المهمة داخل العاصمة..!!

الولاء للتنظيم..!!

أما عن طريقة تعيين المحافظين وولاة الولايات فكانت مكان دهشتي واستغرابي، ففي مقر من المقرات يجلس عدد من أعضاء التنظيم وبحوزتهم معلومات عن كل المرشحين، وما تم جمعه من معلومات خاصة بسيرهم الذاتية والاجتماعية والتعليمية، وتوجهاتهم السياسية والفكرية، قُربهم أو بُعدهم ومواقفهم من الحركة (الإسلامية)،..إلخ، وهذه الاجتماعات تحدث فيها الكثير من المفارقات والاشكالات ذلك لأنها بعيدة عن منطق الأشياء وعن الطرق المثلى في إدارة الشأن العام، كما هي بعيدة عن مضامين الدين الحنيف الذي يحكم بين الناس بالقسط لا بالتوجهات السياسية والفكرية، والانتماء للجماعة

هكذا كان التنظيم يدير أمر البلاد في المجالات كافة، وكانت عقلية هذه الجماعة تتحرك من شبكات عنكبوتية منظمة ذات أطر تشبه عصابات ألمافيا، وتنطلق من أهداف التمكين الاسلاموي، وكانت هناك مخططات لكل الجغرافيات، ومطبوعات تتحدث عن (رؤية الحركة الإسلامية للقرن الأفريقي في العشر سنوات المقبلة) وبالتأكيد كانت هناك رؤى لمناطق أخرى من العالم أوربية وافريقية وغربية، ولم يكن غريبا بالنسبة لي بعد سنوات طويلة معرفة وجود أصابع ومحركات للأجهزة الأمنية السودانية في دول أفريقية عديدة كما حدث في عملية اغتيال الرئيس محمد حسنى المبارك الفاشلة في اثيوبيا عام 1995م، وفي اختيار رئيس للصومال كما حكى ذلك الناشط د. عمار السجاد، السودان أبدا لا يستفيد من كل هذه الممارسات كلفته الكثير ودفع ثمنها الشعب المسكين من عرقه ودمه

إن الوزراء من خارج المنظومة الاسلاموية كانوا يتفاجأون بقرارات تصدر باسمائهم، ليس لهم علم بها، في عام 1994م صرح د.لام أكول للزميلة الصحفية هدية علي المتخصصة في الشأن الجنوبي آنذاك، عندما كان وزيرا للنقل قال ” تصدر قرارات باسمي وانا لا أعرف عنها شيئا”..!، وبعد فترة قليلة غادر إلى كينيا مغاضبا، ومكث فيها طويلا، وتم إرجاعه بعد ترضيته وعده بألا تتكرر الأسباب التي أغضبته وأخرجته عن طوره

بين الترابي وعلي عثمان..!!

من الأشياء المهمة التي توصلت إليها بعد خروجي من السودان بفضل الخلوة التي اتاحت لي استرجاع الوقائع والأحداث وتقييم عموم تجربتي مع الجماعة، أن السودان كان يُحكم من خلال تنظيمين الأول هو القوي والمُسيطر على زمام الأمر يقوده علي عثمان محمد طه، مع مجموعة أبرزهم عوض الجاز وصلاح قوش في يدهم القوات المسلحة والأمن والاستخبارات، هذا التنظيم كان هو الأقوى والأكثر حركة في الدولة داخليا وخارجيا، والأقرب إلى رئاسة الجمهورية، ما يعني أنه كان الحاكم الفعلي في جزء كبير من العشرية الأولى، وبشكل كامل في العشريتين الثانية والثالثة

التنظيم الثاني الذي يقوده د. حسن الترابي كان مغيبا تماما، وقد شغلهم على عثمان محمد طه بالعمل في ما كان يسمى بـ(المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي) الذي تم إنشاؤه عام 1991م خصيصا لإبعاد حسن الترابي من الحُكم وجعله مشغولا بالاتصالات مع قادة الجماعات في الخارج وتنفيذ توصيات ما خرج عن ذلك المؤتمر الكبير الذي أقيم في الخرطوم، خاصة وأن أهداف هذا التنظيم تتلخص في توحيد العناصر الجهادية في أعقاب الانسحاب السوفيتي من أفغانستان وتوفير بديل لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وانشغل قادة هذا التنظيم بالسفر على نطاق واسع، وفي الداخل يسرحون ويمرحون في المؤسسات والوزارات التي وُضعوا فيها مستمتعين بامتطاء الفارهات والزيجات النهارية وزيجات التلاوة وما إلى ذلك

علي عثمان محمد طه كان يعرف تماما نفسية قادة الجماعة في الصفوف العليا والوسيطة ورغباتهم وبشكل أو آخر كان يلبي للجميع رغباتهم، المهم لا يضايقه أحد في الزعامة ولا في القيادة العليا للدولة لو نلاحظ أن علي عثمان قد أبعد من ديسك الحُكم كبار الزعامات التاريخية التي كانت لها إسهامات كبيرة في تاريخ الحركة أمثال يسين عمر الإمام، وعثمان خالد مضوي، وربيع حسن أحمد الذي استضاف بيته أحد اجتماعات ترتيب أمر الانقلاب، وقائد ثورة شعبان أحمد عثمان مكي..إلخ
إن تنظيم علي عثمان هو الذي صنع الوزير أسامة عبدالله ونقله من رئيس لقطاع الطلاب إلى منسق عام الخدمة الإلزامية ثم إلى وزير للسدود بماكينة كبيرة جدا (10) سلندر ثم قيادي كبير، هو ذات التنظيم الذي أوجد كمال حسن علي المتواضع جدا في امكانياته المعرفية وفي كل شي، من مدير مؤسسة ساحات الفداء للإنتاج الإعلامي والناطق الرسمي باسم منسقية الخدمة الإلزامية إلى مدير مكتب الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) في القاهرة، ثم إلى سفير للسودان في مصر، ثم مسؤول بالجامعة العربية، وهو نفس التنظيم الذي أوجد حاج ماجد سوار من عضو بالحزب إلى سفير، هو ذات التنظيم الذي رقى المدعو علي كرتي من مسؤول قطاع بقوات الدفاع الشعبي إلى وزير عدل مرة واحدة، ثم وزيرا للخارجية..!!

تحالف الحركة مع حزب الأمة

وفي منتصف التسعينات تقريبا كانت هناك محاولة قوية قام بها المرحوم الدكتور عبدالحميد صالح للتقريب بين حسن الترابي والصادق المهدي لقيام تحالف مشترك، وقد كشف لي شخصيا صالح عن هذا السر في تلك الأيام عندما دعاني لتناول وجبة غداء بحضور ابنه خالد، وذلك بمنزله بالقرب من مستشفى الخرطوم، وقد أراني الصُور التي التقطت في منزله والتي تجمع الصادق المهدي وشقيقته وصال المهدي، وغازي صلاح الدين وآخرين، ولا أتذكر إن كان الترابي بينهم أم لا، لكن الذي أعرفه أن علي عثمان محمد طه عندما عِلم بهذا الأمر جمع ثلة من قادة تنظيمه ونورهم بما جرى في بيت د. عبدالحميد صالح، واعتبروا ذلك مؤامرة عليهم فهتفوا ” بعد لبنّت ما بنديها الطير”، بالفعل أفشل علي عثمان محمد طه خطة د. عبدالحميد صالح، لأنه كان ممسكا بكل خيوط اللعب في حُكم البلاد
وبعدها جرت أحداث كثيرة داخل الحُكم في السودان ومن بينها محاولة اغتيال الترابي في كندا

خلاصة القول أن حزب (المؤتمر الوطني) أو (الحركة الإسلامية) يحكُم مؤسسات الدولة الإقتصادية والعسكرية والأمنية من بيوت في الخفاء ومن دهاليز تحت الأرض وفوق الأرض، ويدير الجيش والأمن من وراء غُرف مغلقة في شركات خاصة ومكاتب خارج مؤسسات الدولة، ويعتمد في إدارة الدولة على الفاشلين وعديمي الخبرة والكفاءة والمرضى والمهووسين والدمويين وقساة القلب وكارهي أنفسهم والعنصريين، بلا شك حزب على هذه الشاكلة سيرفض قيام دولة القانون والمؤسسات، ويعمل بقوة من أجل عدم ترسيخها على أرض الواقع، بل سيدفع بكل ما لديه من قدرات مالية وبشرية من أجل أن لا تقوم دولة يحترمها الجميع ويعيش في كنفها كل أبناء السودان بلا تفرقة ولا عنصرية، لذلك نحن الآن نعاني من عراقيلهم ومن مؤامراتهم، وستستمر معاناتنا حتى يأذن الله سبحانه وتعالى بالفكاك منهم نهائيا
والله غالب على أمره، لكن أكثر الناس لا يعلمون

خالد ابواحمد
4 أكتوبر 2020م
الديمقراطي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..