
في البدء، دعني أُذَكِر نفسي أولاً والشعوب السودانية ثانياً، أن الثورات والانتفاضات الشعبية التي قامت من أجل الحريات ضد كل أشكال الظلم والاستبداد، ابتداءً من الاستعمار التركي/المصري في الفترة (1821م – 1883م) كانت حاضرة بقوة ونشاط مستمر. سوف أحاول هنا تسليط الضوء على بعض منها في كل حقبة على حدة من تاريخ السودان الحديث. بدءً بثورة المك نمر، ملك الجعليين ضد اسماعيل باشا، قائد غزو الاستعمار التركي/المصري للسودان في نهايات العام 1822م. ثانياً، في فترة حكم المهدية (1883م – 1899م)، قامت عدة ثورات ضد سياسات الإقصاء الديني، أي ضد الطرق الصوفية غير الأنصارية. في ذات الوقت في دارفور ثارت قبيلة الفور ضد سياسة التحول إلى الطريقة الصوفية الأنصارية والتجنيد الإجباري للمهدية، فكانت حملات عثمان جانو المهدوية الدموية ضد قبيلة الفور، لذا اضطرت أعداد كبيرة للجوء إلى دولة تشاد المجاورة. ثالثاً، الاستعمار البريطاني (الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس) (1899م – 1956م)، لم تستطيع سلطات الاستعمار إخضاع كل الشعوب السودانية لسيطرتها إلا في العام 1926م عندما تمّ إخضاع قبائل التبوسا في الجنوب. أيضاً في الذاكرة تمرد السلطان علي دينار، على بنود الاتفاق مع الانجليز مما جعل سلطات الاستعمار في الخرطوم أن تغزو سلطنة دارفور وتضمها لحظيرة السودان في الأول من يناير العام 1917م.
لذا سوف أورد هنا بعض الأمثلة للثورات الشعبية في عهد الاستعمار البريطاني، تذكيراً للأجيال الجديدة التي حجبت عنهم الحكومات الوطنية منذ الاستقلال، معرفة تاريخ بلدهم الحقيقي إلا بالقدر الذي يخدم أهواءهم الحزبية. (1) ثورات القبائل في الجنوب: (أ) دينكا أجار العام 1901م قتل فيها ضابط بريطاني. (ب) الشلك العام 1915م. (ج) الزاندي العام 1903م. (د) النوير الأعوام 1913م،1917م. (2) الثورات المناطقية في جبال النوبة: (أ) جبل الداير العام 1903م. (ب) جبل براتي 1908م و1917م. (ج) ميري وكاندرو وتيمة حتى العام 1929م. (3) الثورات الدينية في الشرق والوسط النيلي والغرب: (أ) عبد القادر ود حبوبة العام 1908م. (ب) الفكي نجم الدين في سنار العام 1910م. (ج) الفكي عبد الله السحيني في نيالا العام 1921م. (4) ثورة 1924م العسكرية، وهي تمرد الكتيبة الحادية عشرة السودانية والتي سميت بثورة اللواء الأبيض بقيادة على عبد اللطيف.
بعد الاستقلال من الاستعمار البريطاني في العام 1956م وفي ظل الحكومات الوطنية (المدنية والعسكرية على حدٍ سواء) قامت الثورات الشعبية والمسلحة ولم تتوقف إلى يومنا هذا إذ تمثل ثورة نيرتتي أحدثها.
إذا كانت الثورات في ظل الاستعمار من الضرورات الحتمية من أجل التحرر، يبقى السؤال الموضوعي هو لماذا الثورات المتتالية والمتراكمة ضد الحكومات الوطنية لمدة أربعة وستين (64) عاماً منذ الاستقلال؟ الإجابة على هذا السؤال تكمن في السياسة التي رسمتها “النخبة النيلية الشمالية الحاكمة” وهي سياسة الإقصاء، فقد ذكرها بوضوح تام القيادي البارز في الجبهة القومية الإسلامية، أحمد عبد الرحمن، أفصح بوضوح للسيد/ أحمد إبراهيم دريج في لندن في اولئل التسعينات من القرن الماضي، أن حكم السودان هو حق إلهي للمجموعة التي تسمى اختصاراً بال(برام)، وهو قالها باللغة الإنجليزية (Brown Reverian Arab Muslim (BRAM ، هذا المصطلح يعني “الرجل العربي النيلي الأسمر المسلم”. لذلك عمل هذا المصطلح بأسلوب منهجي متواصل على استبعاد المرأة والإنسان غير العربي عرقياً وغير المسلم دينياً بل وغير الأسمر في لون بشرته، في المشاركة في تخطيط وإدارة شئون بلده، بينما يكاد يكون لون بشرة أحمد عبد الرحمن نفسه أكثر سواداً من أي إنسان سوداني آخر. ففي العام 1947م أمنّ الإخوة الجنوبيون في مؤتمرهم في جوبا آنذاك أن يصوتوا لصالح الاستقلال شريطة أن يكون نظام الحكم في السودان ديمقراطياً ليبرالياً وفيدرالياً، ولكن تنصلت النخب الشمالية من الوعد الذي أبرموه مع الجنوبيين، حينها قامت الثورة المسلحة الأولى في الجنوب في العام 1955م وذلك قبل بضعة أشهر من نيل الاستقلال، وهي ما سميت بتمرد”أنانيا ون”.
ومنذ ذاك الزمان لم تتوقف الثورات المسلحة الإقليمية ضد المركز الظالم، منها الثورة الجنوبية الثانية في العام 1983م “الحركة الشعبية لتحرير السودان” التي إنتهت بانفصال جنوب السودان في العام 2011م، ففقد السودان ما يعادل ثلث الموارد البشرية والطبيعية، فقط لتعنت النخب الحاكمة بتمسكها بالسياسات الواهمة للإنتماء العروبي وأسلمة غير المسلم. وما زالت الثورات المسلحة مستمرة في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق والشرق ودارفور، وإن كانت بدرجة ضعيفة نسبياً. أما في المركز، فقد قامت ثورات شعبية سلمية أسقطت حكومات عسكرية مستبدة، فكانت ثورة أكتوبر العام 1964م التي أسقطت حكومة الفريق/إبراهيم عبود العسكرية. وفي مارس/إبريل العام 1985م أسقطت الثورة الشعبية حكومة الدكتاتور العسكري/جعفر محمد النميري بعد ستة عشر (16) عاماً من الحكم الاستبدادي. وفي أبريل العام 2019م أسقطت أعظم ثورة شعبية سلمية شاملة نظام حكم المستبد الأكبر، عمر حسن أحمد البشير الذي دام ثلاثين عاماً. ولا ننسى أن الثورة الشعبية السلمية ما زالت مستمرة في مناطق السدود بشمال السودان، وكذا ثورة “الكنابي” في الجزيرة.
بعد هذه المقدمة التاريخية لثورات بلادي من أجل الحريات والاعتراف لكل مكوناتها الاجتماعية للتعامل المتساوي بينها، دعني أثير قدر المستطاع بعض الأسئلة الموضوعية، لماذا ثورة نيرتتي في هذا الزمن تحديداً؟ يقولون أن الإنسان لن يتحمل الصبر إذا وصل الطعن إلى “اللحم الحي” هنا اللحم الحي المقصود به شعور إنسان المنطقة بأنه سوف يفقد حياته عاجلاً أم آجلاً، أي إما أن يموت اليوم برصاص الجنجويد أو السنة القادمة بالجوع. في اتجاه آخر، سوف تستمر ثورة نيرتتي السلمية، لماذا؟ ستستمر ثورة نيرتتي لإيمان القائمين بأمرها “إما النصر المؤزر أو الطوفان”، وفوق هذا وذاك هي امتداد طبيعي للثورة الديسمبرية لعام 2018م، إذ هم الآن يرفعون شعار “حرية سلام وعدالة” وسوف أوضح لاحقاً مطالبهم التي تجسدت بالفعل في الشعار المرفوع، وهذا يبرهن لنا جميعاً قمة الوعي السياسي والحضاري الراقي الذي يحتضنه هذا الجيل الجديد.
هذا المشهد الحضاري الراقي، يذكرني قول الفيلسوف الإنجليزي جون لوك الذي ولد في العام 1632م، والذي يرى أنه تجب على المجتمعات البشرية أن يحترم فيها كل فرد الآخر، لذلك يقول في شأن الحكومة المدنية أن “حاجة المجتمع المدني إلى السلطة الحاكمة أو الدولة، هي الحاجة للمحافظة على الحياة والحرية والملكية، وهي حقوق مهددة بالتعدي”. لذلك دعت الثورة الديسمبرية إلى تكوين حكومة مدنية، إذ أُوكِلت لها مهمة أساسية هي تنفيذ برامج “حرية سلام وعدالة” في زمن معلوم، وحتى لا تظلم الحكومة الانتقالية، تمّ تنبيهها بأن عيون الثوار ساهرة لمتابعة تنفيذ البرامج الموكلة لها، فكانت مليونية 30 يونيو من الشهر الماضي في كافة مدن السودان مطالبة الحكومة بتسريع تنفيذ البرامج وفي مقدمتها العدالة والسلام. وجاءت انتفاضة نيرتتي كاختبار حقيقي لحكومة الفترة الانتقالية، فإمّا ان تنجح في الاختبار بأعْدَل ما تستطيع أو تسقط. هنا أود أن أنبه الحكومة الانتقالية، أن ثوار السودان، هذا الجيل الجديد الواعي “الكنداكات والميارم والشفاتة” جيل يفهم جيداً العالم الجديد، وكأنني أراهم قد استوعبوا نداء الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، الذي دعا إلى مقاومة الحكومة التي تعمل عكس الثقة الموضوعة فيها. فالوضع الذي يعيشه السودان من التفلتات الأمنية في الجنينة وكسلا والقضارف وبورتسودان وكادقلي وتلس وزالنجي وكتم وكبكابية والآن في نيرتتي، كلها تستدعي أن يتجه الشعب إلى خيار تنشيط الثورة التي لا يمكن التنازل عنه.
لعلاج التفلت الأمني بصورة عاجلة، قدم أهالي منطقة نيرتتي المطالب المشروعة التي لا تحتمل التأخير، إذ هي مطالب تحتاج فقط إلى قرارات إدارية نافذة تمثلت في: (1) إقالة كل من المدير التنفيذي، مدير الشرطة، قائد القوات المسلحة، قائد الاستخبارات، قائد قوات الدعم السريع، القاضي الجزئي، مدير نقطة شرطة نيرتتي الملازم أول محمد إبراهيم حسن أحمد، التابعين لمحلية غرب جبل مرة نيرتتي. (2) إخلاء المستوطنين من أراضي ومزارع المواطنين في مناطق (أ) قلنجي (ب) بُرونق رُو (ج) مَدِل باسي (د) قوز متي (ه) كوري. (3) إيقاف الدراجات النارية في كل أرجاء المحلية، وجمع السلاح غير المقنن. (4) حماية الموسم الزراعي، علماً بأن الموسم قد بدأ، وما زال المزارعون محرومين من الذهاب إلى مزارعهم الأمر الذي يعني بأن العام القادم سيكون عام مجاعة ومسغبة. (5) القبض على الجناة الذين تم فتح بلاغات بحقهم عاجلاً وتقديمهم للعدالة لإنصاف الضحايا. (6) استرداد كل المواشي التي تم نهبها بواسطة المليشيات المسلحة خلال الفترة المنصرمة.
أحد مطالب أهل نيرتتي المشروعة هو جمع السلاح من غير القوات النظامية. هنا أود أن أشير للحكومة الانتقالية أن هذا الأمر يحتاج فقط إلى إصدار أمر نافذ لجمع السلاح الحكومي الذي وزعته وزارة الدفاع السودانية بأمر وزاري لمواطنين مدنيين، لذا يجب جمعه بأمر حكومي أيضاً. وسياسة توزيع السلاح لإثنيات محددة دون غيرها من الإثنيات الأخرى في نفس الرقعة الجغرافية يعني قتل الذين لا يحملون السلاح. هذه السياسة العنصرية البغيضة قد سنها الصادق المهدي رئيس الوزراء في فترة الديمقراطية الثالثة (1986م – 1989م) وهي ما عرفت بتسليح الرحل بغرب كردفان (قوات المراحيل) وقام نظام الجبهة الإسلامية فيما بعد بتقنين الممارسة واستدامتها. وهنا مثال لأمر صرف سلاح حكومي: أصدر فريق أول ركن مهندس/عبد الرحيم محمد حسين، وزير الدفاع الوطني، بتاريخ 21 أكتوبر 2008م وبالرقم: و د و /48/أ/ 301910، أمراً إلى رئيس الأركان المشتركة بتوزيع أسلحة إلى زعماء عشرين (20) عشيرة من غرب السودان. إذ قام رئيس الأركان المشتركة بإصدار أوامره للمقدم محمد عبد الرحمن الفاضلابي لإجراء اللازم. ففي يومي 1 نوفمبر 2008م و5 نوفمبر 2008م تم توزيع كميات كبيرة من الأسلحة المتنوعة لخمسة قبائل دارفورية هي: الرزيقات والهبانية والتعايشة والسلامات والمعاليا. وأنواع الأسلحة هي (1) عدد ألف وتسعمائة وإثنين وأربعين (1942) بندقية كلاش (2) عدد سبعون (70) رشاش قرنوف (3) عدد ثمانية(8) هاون (4) عدد ثمانية(8) رشاش دوشكا. هذه الأسلحة سلمت لأشخاص مسجلين لدي وزارة الدفاع وبأرقام معروفة لدى الوزارة، ما على الحكومة إلا أن تصدر أمر تنفيذي نافذ بجمعها لأن أماكنها معروفة. أي تساهل وتباطؤ في هذا الأمر يعني أن حكومة الثورة نفسها مؤيدة لسياسة تسليح قبائل دون أخرى، أي بمعنى آخر تشجيع الاقتتال بين القبائل. أخيراً على الحكومة أن تعلم أن جمع هذه الأسلحة هو من صميم برامج استرداد المال العام للدولة.
الأمر الآخر، وصف لي أحد الثوار من موقع الاعتصام، أنه وصلت أعداد كبيرة من الدراجات النارية (المواتر) من دولة تشاد المجاورة، وأن سائقي هذه الدراجات النارية يتعاونون مع المليشيات المسلحة الموجودة أصلاً في المنطقة بأعمال النهب والتقتيل، ويزيد محدثي ويقول، أن سبب منع المزارعين لمزاولة أعمالهم الزراعية هو أن الجنجويد يقولون للمزارع أن مزرعته هذه هي مرعى لبهائمه وعليه أن يبتعد منها تماماً. هذا هو المشهد؛ غياب تام لسلطة الدولة في حماية حدودها ومواطنيها، وهي مسألة ليست بالغريبة فقد استبيحت الأراضي السودانية في مثلث حلايب والفشقة وكرب التوم. على كل حال، في أمر الوضع الأمني المتردي في نيرتتي، يكمن العلاج في أن ترسل الحكومة عدداً من الطائرات العسكرية المروحية (الهليكوبترات) لمطاردة وملاحقة الدراجات النارية التي تسبب القتل والنهب.
في ختام هذه المقالة، لنا سؤال موضوعي وهو: أين قوات الحركات المسلحة الدارفورية من هذا المشهد الأمني المتردي في المنطقة؟ ألم تنشأ هذه الحركات من جبل مرة؟ أين الأراضي التي حرروها؟ أين قيادات هذه الحركات المسلحة؟ لماذا لا تتحركون لمواجهة الدراجات النارية؟ فالتعلموا أن أي دراجة نارية تحمل شخصين فقط، السائق والرديف حامل السلاح، ألا توجد لديكم حيلة لمواجهة شخصين يحملان سلاحاً واحداً فقط؟ أم أنه لا يوجد لكم وجود على الأرض بتاتاً؟ أعلموا أن الجنجويد هذه المرة قوة تتشكل من شخصين فقط وليست التشكيلات كما في السابق التي تتكون من جحافل من الخيول، فالأمر أسهل لمواجهتهم. الشيء المؤسف حقاً أن جميع هذه القيادات تعيش في خارج البلاد منذ العام 2003م، لذلك هم لا يشعرون ولا يدرون حقيقة ما يجري للأهل في نيرتتي وكبكابية وكتم. ولطالما الأمر كذلك نرجو من عبد الواحد ومني ود. جبريل وكل قيادات الفصائل المختلفة ألا تتحدثوا باسم أهل دارفور لأنكم لا وجود لكم في أرض الواقع، فأنتم لا تنطبق عليكم صفة الثوار، كلنا نعلم أن قادة الثورات التحررية لا يبارحون أوطانهم بل يظلون وسط جنودهم حتى تتم عملية التحرر، على سبيل المثال د. جون قرنق والرئيس الإريتري أسياس أفورقي واليوغندي موسيفيني.
في الختام نتمنى لكم، الثوار الأحرار، وثوار نرتتي الأحرار خاصة، النصر العظيم، وكلنا ثقة بأن الثورة الديسمبرية تسير في الاتجاه الصحيح حتى تبلغ غايتها المتمثلة في “حرية سلام وعدالة”.
أبكر محمد أبو البشر
الخامس من يوليو 2020م
مانشستر، المملكة المتحدة.