شارع الجامعة

كان اسمه شارع الخديوي على أيام الوجود الاستعماري الجاثم فوق أنفاس الوطن، ثم منذ عصر الاستقلال الثاني أصبح اسمه: شارع الجامعة!
ومع الاحترام الكلي لجامعة الخرطوم كمنارة يشع منها نور العلم والمعرفة المشاركة في بناء الوطن الأمة؛ إلا أن السؤال: كم من الناس يروحون ويغدون عبر هذا الشارع وهم يجهلون تماماً تاريخه الناصع، وما جرى فوق أرضه ذات يوم على عهد الاستعمار البريطاني، من اندلاع واحدة من أشرس المعارك الوطنية الحافلة بالبطولة النادرة دفاعاً عن شرف الوطن، وتحريره من أغلال القهر الاستعماري.
وقائع التاريخ تقول:
{ في يوم 27 نوفمبر 1924م سارت ثلاث سرايا من الفرقة السودانية الحادية عشرة من ثكنات سعيد باشا الى مدرسة الفرسان بعد أن كسرت مخزن السلاح واستولت على مدفعين فيكرز، وكميات من الذخيرة ثم تحركوا عن طريق سوق الخرطوم الى وزارة الحربية في طريقهم الى الخرطوم بحري.
وعندئذٍ ـ كما يقول البروفيسور محمد عمر بشير في كتابه: «الثورة والحركة الوطنية في السودان» ـ تم إخطار القوات البريطانية بمعسكرات بُري «مكان جامعة الخرطوم اليوم» والقوات البريطانية بالخرطوم بحري، ثم زحفت هذه القوات تسد شارع الخديوي بوضع المتاريس لمنع مسيرة الفرقة الحادية عشرة من بلوغ هدفها. ولما فشل القائد (ماكاول)، قائد حامية الخرطوم، في إقناعها بالعودة الى ثكناتها؛ وجَّه لهم إنذاراً باللجوء الى استعمال القوة، ثم أخطر القائم بأعمال السردار بما حدث، فأمر الأخير القوات البريطانية بتدعيم قوتها بجلب ستة مدافع من الفيكرز ثم ذهب الى القوات السودانية وأمرها بالعودة الى ثكناتها، ولما لم يجد استجابة أو رداً أمر القوات البريطانية بإطلاق النار، وإذا بالقوة السودانية ترد بالمثل، حيث استمر القتال حتى الساعة العاشرة مساءً.
وفي فجر اليوم التالي شرعت القوات البريطانية في البحث عن كل من اشتبه أنه من الثائرين، ولكن ما أن تقدمت صوب المستشفى العسكري حتى انطلقت النيران من جديد، فقُتل عدد من الضباط والجنود البريطانيين، واحتمى بعض الجنود السودانيين بمباني الضباط المصريين بالقرب من المستشفى العسكري، وأبدوا مقاومة ضارية حيث لم يفلح في دحرهم رصاص المدافع الرشاشة ولا القنابل اليدوية، ومن ثم أحضر البريطانيون المدفع الوحيد الثقيل هاوتزر عيار (4.5) الموجود بالحامية وأطلقت منه ثلاثين قنبلة من على بعد مائة ياردة تقريباً إلا أن كل ذلك لم يُجدِ البريطانيين في الولوج الى المستشفى، بل باءت محاولتهم بخسائر فادحة جديدة.
وفي النهاية اضطرت القوات البريطانية الى اتباع أسلوب إطلاق القنابل حيث أطلقت (170) قذيفة مما أدى إلى هدم أركان المباني والقضاء على المقاومة فلم يبقَ على قيد الحياة واحد من أبطال المقاومة الشجعان الذين حظوا بإعجاب أعدائهم كما تفرق شمل الباقين، وقُتل عبد الفضيل ألماظ وأربعة عشر ضابطاً، وثمانية من الجنود أصيبوا بجراح خطيرة، وقتل خمسة ضباط من البريطانيين وثمانية من الجنود وجرح أحد عشر فرداً توفي منهم اثنان فيما بعد متأثرين بجراحاتهم.
فلقد استشهد البطل عبد الفضيل ألماظ بعد نفاد ذخيرته، وانهيار المبنى على الثوار، وكان وهو ميت يحتضن سلاحه (المكسيم) على صدره.
ومن قادة الثورة قُدم للمحاكمة الأبطال حسن فضل المولى، ثابت عبد الرحيم، سليمان محمد، سيد فرح وعلي البنا، حيث قضت بإعدامهم رمياً بالرصاص ونفذ الحكم فعلاً، إلا سيد فرح فقد أصيب بجراح بالخرطوم في ليل السابع والعشرين من نوفمبر، واستطاع الهرب الى مصر رغم رصد ألف جنيه جائزة لمن يقبض عليه وأُبدل حكم الإعدام بالسجن مدى الحياة، كما أُبدل حكم الإعدام على آخر هو علي البنا بالسجن مدى الحياة لأن رجال المخابرات قرروا أنه كان يمدهم بمعلومات عن الحوادث التي وقعت في ملكال وتلودي.
ولكن هناك من يدحض هذه التهمة على أساس أنها لو كانت صحيحة ومؤكدة أما كان من الطبيعي أن ينفذ فيه حكم الإعدام بدلاً من الحكم بالسجن مدى الحياة؟
على أن المهم، خلاصةً لكل ما تقدم، أليس من الممكن إبدال اسم شارع الجامعة باسم أوفق يعبِّر ـ بعمق ـ عن بطولات ذلك اليوم المشهور ليبقى معناه راسخاً في وجدان أهل السودان على مر الحقب وملهماً في مجابهة كل مخاطر أجنبية تتهدد وجوده وتطمع في ثرواته، وطريقها الى ذلك معروف وهو زرع الفتنة بين أبنائه والحؤول دون إجماعهم على كلمة سواء في السياسة الداخلية والخارجية وكل قضايا التنمية والبناء والمستقبل الزاهر.
{ محطة مهمة
في يوم 19 ديسمبر 1955م اتفقت الأحزاب على قرار إعلان الاستقلال من داخل البرلمان، وقد كان. أي كان ذلك قبل خمسة وخمسين عاماً. فهل حقق السودان، طوال هذه الأعوام، على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبشكل خاص في حياة السواد الأعظم؛ ما كان يتطلع إليه الناس؟ لعل الأمر يحتاج الى تقصي الأسباب الحقيقية التي حالت دون ذلك دون ترديد المحفوظات العقيمة مثل إن على رأس الأسباب الانقلابات العسكرية، أو الهيمنة الطائفية، أو الشعارات الحزبية الفارغة، أو النزاعات القبلية والإثنية الدامية. فكل ذلك لا يكفي حيث لابد من الغوص في أغوار الأسباب الكامنة وراء كل ذلك، وصولاً لرسم مشروع قومي حقيقي وشامل لبناء وطن يملك كل المقومات التي تتيح له أن يعيش حياة أفضل نابعة من أفضل ما في تراثه من قيم روحية وإنسانية ووطنية.

الاهرام اليوم

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..